تابع ما نشر في الجزء الثامن ص٦١٦ ومن الأصول التي يراعونها في الكف عن القياس وعدم الأخذ بالأمثلة القليلة في تقرير أحكام هذا الباب: قاعدة تجنب ما يوقع في لبس واشتباه، ولهذا لم يُجز الجمهور صوغ فعل التعجب واسم التفضيل من الأفعال المزيدة؛ لأن الصيغة لا تسع إلا الحروف الأصلية، وإذا سقطت الحروف الزائدة عميت على السامع معانيها الخاصة كالمطاوعة والتكثير والمشاركة والطلب، فيضيع بعض المعاني وتخلو العبارة عن الفائدة المطلوبة، فما ذهب إليه الأخفش والمبرد من إباحة اشتقاق أفعل التفضيل من جميع المزيد - غير مستقيم، وإنما أجاز سيبويه اشتقاقه مما جاء على وزن (أفعل) خاصة اعتمادًا على أن ما روي من شواهده قد بلغ من الكثرة مبلغًا يجعل مأخذ القياس عليه سائغًا. ودخل ابن عصفور إلى هذه المسألة من باب النظر فأجاز القياس في (أفعل) خاصة كما يقول سيبويه، ولكنه شرط أن تكون همزته لغير النقل نحو: أظلم الليل، وأقفر المكان؛ لأن (أفعل) الذي تكون همزته لغير النقل (يعني التعدية) لا يزيد على معنى الثلاثي وهو الدلالة على مجرد الحدث فلا تُدخل زنة التعجب أو التفضيل خلل في المعنى، وهذا التفضيل وإن كان أقرب إلى الأصول لم يقبله الشاطبي بدعوى أن الإجماع قد انعقد على ثلاثة مذاهب، والإجماع لا يُخرق ولو في الأحكام اللفظية. ومما يجري على قاعدة تجنب اللبس: منعهم من صوغ التفضيل والتعجب من المبني للمجهول؛ لأن صوغهما منه يؤدي إلى التباس وصف الفاعل بما يقصد به المفعول، وقد حقق النظر من أجاز صوغهما من الأفعال اللازمة لصيغة المجهول نحو (عني وزهي وهزل وأرعد وأغمي وغم وأهل ونخي) إذ لا يعرض عند إيرادها في إحدى الصيغتين التباس. ويدخل في هذا الصدد اشتقاق (فعيل) بمعنى (مفعول) نحو: قتيل وجريح وصريع، فقد وقف فيه بعضهم عند حد السماع وأغلقوا دونه باب القياس، وفصَّل آخرون فمنعوا القياس فيما ورد منه (فعيل) بمعنى (فاعل) نحو: علم وسمع، حيث ورد اسم فاعله على (فعيل) فقالوا: عليم وسميع، وأباحوه فيما عدا ذلك، وقد تخلصوا بهذا التفصيل من المحذور الذي تحاشاه الذاهبون إلى منع القياس بإطلاق، وهو التباس وصف المفعول بوصف الفاعل. فأصل الاحتراز عن اللبس والإيهام في اللغة مكين، بيد أنه لا يخلو كسائر القواعد الوضعية من جزئيات تأتي على خلافه كالأسماء المعتلة العين، نحو: مختار ومنقاد، والفعل المضاعف، نحو: يضار ويشاد، فإن هذه الصيغ تطلق في وصف الفاعل والمفعول ويعول في فهم ما يراد منها على قرينة حال أو مقال، ومثل هذا مما دار على ألسنة الفصحاء وشاع حتى لم يبق ريب في صحة اطراده تفسح له مجال القياس ويبقى غيره مما فيه إبهام المراد على أصل المنع حتى ينهض دليل السمع بجوازه، فإذا وقع النزاع على اشتقاق يحصل معه احتمال بخلاف المراد، فالأصل بيد المانع حتى يقيم المجيز الشواهد الكافية للقياس. ومما يوردونه عذرًا في الحكم - ترد به أمثلة كثيرة ويأبون جعله قياسًا مطردًا - الاستغناء عنه بصيغة أو صيغ أخرى، كما قال الرضي ناقلاً عن سيبويه: إن باب (فعلته) الذي تضم فيه العين للمغالبة مسموع بكثرة ولا يصح القياس عليه للاستغناء عنه بنحو (غلبته) وربما تعلقوا بهذا الوجه في استثناء بعض ألفاظ تشملها قاعدة، فيصرحون بالمنع من إجرائها على القاعدة استغناء عنه بصيغة أو جملة تسد مسد الحاجة إليها، كما قال سيبويه في الكتاب: لا تقول العرب في (قال يقيل) (ما أقيله) استغناء عنه بنحو (ما أكثر قائلته) كما قالوا: تركت ولم يقولوا ودعت. والذي نرى أن إبطال القياس في مثل المسألة الأولى - أعني باب المغالبة - بعلة أنه مستغنى عنه بصيغة أخرى - غير سديد وإنما المدار على قلة ما ورد منه وكثرته، فإذا كانت الشواهد المروية منه بحيث بلغت ما يكفي للاعتداد به في وضع القواعد صح جعله قياسًا مطردًا، وليس غنى اللغة بما تملكه من صيغة أو صيغ تفيد معنى خاصًّا بمانع من أن يضم إليها طريق آخر يزيدها سعة على سعتها، فترادف المفردات والصيغ على غرض واحد في اللغة ليس بعزيز. وأما المسألة الثانية، أعني الاستغناء عن قولك (ما أقيله) بمثل (ما أكثر قائلته) فهي راجعة إلى الكشف عن وجه إهمال العرب للصيغة الأولى، وقد تعرضنا فيما سلف إلى حكم اللفظ الذي تتناوله قاعدة، ولم نسمع في كلام العرب ما يدل على أنهم نطقوا به على وفقها، وذكرنا الفرق بين ما يدور في محاوراتهم بكثرة فنقتفي فيه أثرهم ولا نخرج في تصريفه عن الوجه المنقول عنهم، وبين ما لا يكون كثيرًا شائعًا فيسوغ لنا أن نصرفه وننطق به على ما تقتضيه القواعد دون توقف على سماع. وكأن الأمثلة التي ذكر سيبويه في (الكتاب) وابن جني في (الخصائص) أن العرب استغنت عن تصريفها بصيغ أخرى، وجعلوا التلفظ بها على طبق القاعدة خطأ - كانت في نظرهما من القسم الأول وهو ما لا نتجاوز فيه حد الرواية، والوقوف في الألفاظ الدائرة في المخاطبات بكثرة عند وجهها المسموع وعدم إجرائها في سبيل القاعدة لا يعد في غرائب اللغة العربية، فإن في غيرها من اللغات الأخرى كاللسان الألماني مصادر تتصرف على وجوه تخالف القواعد المعروفة، ويصرح علماؤهم بوجوب التلفظ بها على تلك الوجوه الشاذة ويعدون المتكلم بها على نمط القاعدة قد تعدى حد اللغة وارتكب خطأ فاحشًا، بل ترى من أسماء التفضيل المتداولة في ذلك اللسان ما شذ عن القاعدة إلى أن ركبوه من حروف غير حروف الوصف الأصلي، على نسق ما يقول علماء لغتنا أن الخلد - وهو الفار الأعمى - يجمع على مناجد أو مناجذ. وتصرف العرب في بعض أسماء الأجناس فاشتقوا منها أفعالاً وأوصافًا فقالوا: تقمص وتجورب وتحجر واستنسر البغاث واستنوق الجمل، وقالوا: أحنك الشاتين أو البعيرين وفلان آبل الناس، أي أشدهم تأنقًا في رعي الإبل، وقد رأى علماء العربية أن الأمثلة الواردة في هذا الغرض لا تكفي لفتح باب القياس فوقفوا فيه عند حد السماع، وكثيرًا ما ينكرون على من ينتزع فعلاً من غير مصدر كما اعترضوا على القطب الرازي في قوله: (والشيخ في الشفاء ثلث القسمة) بدعوى أن لفظ (ثلث) محدث لم ينطق به العرب، ولم يلتفتوا إلى قياسه على ما صح لغة من قولهم خمس وسبع وأمثالهما، حتى استشهد له السيلكوتي بحديث: (شر الناس المثلث) يعني الساعي بأخيه، يهلك نفسه وأخاه وإمامه , ولم أر من حام على القول بجعل مثل هذا مقيسًا إلا عبد اللطيف البغدادي فإنه اعترف في كتاب التكملة بأن لفظ التجنيس والمجانسة مولد وأجازه على وجه القياس وقال هو من لفظ الجنس كالتنويع المأخوذ من لفظ النوع. وإطلاق التصرف بمثل هذا للإفراد فيصنع كل على انفراده من أسماء الأجناس وأشباهها ما يبدو له من أفعال وأوصاف يفضي إلى إلقاء الجمل مركبة من ألفاظ لا يألفها المخاطبون أو يتعاصى عليهم فهم ما يقصد منها، واللغات الأجنبية يجري فيها الاشتقاق من أسماء الأجناس أحيانًا، ولكن الذي يقوم بذلك جمعيات علمية تصوغ الكلمة وتضعها في ديوانها اللغوي وتنشرها بين الناس. *** القياس في وضع أسماء الأجناس يقول ابن فارس في طالعة تأليفه المسمى بالصاحبي: إن اللغة قد قر قرارها فلا نعلم لغة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم حدثت، فإن تعمَّل اليوم لذلك متعمل وجد من نقاد العلم من ينفيه ويرده، ولم يبلغنا أن قومًا من العرب في زمان يقارب زماننا أجمعوا على تسمية شيء من الأشياء مصطلحين عليه، فكنا نستدل بذلك على اصطلاح كان قبلهم، وقد كان للصحابة من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به وما علمناهم اصطلحوا على اختراع لغة أو إحداث لفظة لم تتقدمهم. وقال في مبحث آخر من ذلك الكتاب. ليس لنا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غير ما قالوه ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها. أغلق ابن فارس الباب في وجه من يريد إحداث كلمة وإدخالها في سلك اللغة ولكنه يبيح لأصحاب العلوم والفنون الاصطلاح على كلمات ينقلونها من معانيها اللغوية ويضعونها بإزاء معان خاصة، بيد أنه يفرق بين الوضع العربي والوضع العلمي فيسمى الأول اسمًا لغويًّا والثاني اسمًا صناعيًّا. والحق أن اللغة في حاجة إلى أن يبقى الطريق إلى وضع أسماء الأجناس مفتوحًا مثلما بقي طريق وضع الأعلام الشخصية يسلكه الناس فيما يزداد لهم من الولد أو يحدثونه من الضيعات والقرى، فإن الأعصر ما برحت تكشف لنا من معان لم تظهر أيام كانت اللغة تتسع وتنمي بالألفاظ التي تجري على ألسنة الناطقين بها عن سليقة المتلقين لها من أفواه المرضعات ورعاء الشاء، وليس من الممكن أن نصرف ألسنتنا عن التعبير عن هذه المعاني بعد أن اندمجت في متاع البيت والتصقت بما يتخذه الناس من الملابس ويمتطونه من المراكب ويرتفقون به من وسائل الحياة. ومما يشوه وجه المقالة أو القصيدة أن نضع في نسقها أسماء هذه المعاني الموضوعة في قالب لغة أجنبية ونتلفظ بها على علاتها من غير تهذيب وسبك يؤلف بينها وبين ما هو عربي أصيل. فالعربية توسع صدرها لاقتراض الاسم من لسان آخر، ولكن بعد تنقيحه وصبه في قالب يطابق موضوعاتها الأصلية، وهي مع ذلك في سعة وغنى بما ملكته من المواد الغزيرة والتصاريف التي تساعد على أن نستمد منها أسماء لأي معنى خرج إلى حيز الوجود. وإنما يستقيم هذا العمل إذا نهضت له جماعة ذات اطلاع واسع وأذواق سليمة فيتخيرون أو يشتقون للمعاني الحديثة أسماء مقبولة، فيبقون على هذا اللسان حياته ويحفظونه من أن يتسع فوق فاقته فتتسرب إليه قطع من لغة أخرى. ((يتبع بمقال تالٍ))