للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مدنية القوانين
أو سعي المتفرنجين إلى نبذ بقية الشريعة الإسلامية
(٢)
السعي لإلغاء المحاكم الشرعية
تمهيد
الإفرنج الطامعون في استعباد المسلمين وأعوانهم من المتفرنجين قد يشتركان
في عملٍ واحدٍ، ونيتهما فيه مختلفة اختلاف التضاد، فكلاهما يحاربان الشريعة
الإسلامية، ويحاولان القضاء عليها، ومنع الحكم بها، والتقاضي إلى رجالها،
فنية الفريق الأول وغرضه من ذلك حل رابطة من أقوى روابط هذه الأمة، وإزالة
فصل من أقوى الفصول المنطقية المقوّمة لهذه الملة، والفاصلة بينها وبين الملل
الأخرى؛ لأجل إضعافها، وتمهيد السبيل لإدغامها في غيرها، أو جعْلها غذاءً له،
ونية الفريق الآخر إما إرضاء الفريق الأول لتحصيل قوتهم وغير ذلك بأن يكون
اقتنع أن البلاد صارت له، ولا يرتقي أحد في حكومتها إلا إذا واتاه ووافقه في
سياستها وإدارتها، وإما مساعدته على عمل يظن أنه يخدم وطنه به لاقتناعه
بشبهاته التي يتوسل بها إليه، كتوحيد القضاء أو الفصل بين الحكومة والدين،
والاقتصاد في نفقات المحاكم، أو جمود هذه الشريعة، وخلوّها من المرونة التي
تليق بالقرن العشرين، وإما إرضاء الأقليات غير المسلمة، ولا سيما النصارى،
وإما كسر قيد الدين، والخروج من حكم سلطانه تقليد الملاحدة الإفرنج، أو لأنه
يحُول دون التمتع باللذات، أو لاعتقادهم أن الأمة والحكومة لا يمكن أن ترتقي مع
التزام أحكام الشرع، وأن القوانين الإفرنجية خير لهما منه.
فالمتفرنجون ليسوا على رأي واحد ولا نية واحدة في حربهم للشريعة، ولكن
أكثرهم يتبع هوى نفسه ومنفعة شخصه، وأقلهم يقصد خدمة أمته ووطنه، ولكنه
حفظ شيئًا وغابت عنه أشياءُ، وسيأتي بيان ذلك.
على أثر هجرتي إلى هذه البلاد - من زهاء ربعِ قرنٍ - أخبرني الأستاذ
الإمام رحمه الله تعالى يومًا، وهو يتنفَّس الصعداء أن المستشار القضائي لوزارة
الحقانية (مستر سكوت) اقترح على الحكومة إلغاء المحاكم الشرعية، وجعْل
التقاضي في الأحوال الشخصية من اختصاص المحاكم الأهلية؛ بناء ذلك على أن
المحاكم الشرعية مختلة النظام، قد كثرت شكوى الناس منها، ومطالبة الحكومة
بإصلاحها، وأن قضاة المحاكم الأهلية -المتخرجون في مدرسة الحقوق الخديوية -
قد تعلموا فيها أحكام الأحوال الشخصية، فيمكن أن يجعل في هذه المحاكم جلسات
للقضايا الشخصية خاصة، كما أن للقضايا المدنية جلسات خاصة، وللقضايا
الجنائية كذلك، وبذلك يتوحَّد القضاء، وينتظم، ويتوفَّر للحكومة المال الكثير الذي
تنفقه على المحاكم الشرعية المختلة المعتلة!
سألت الأستاذ: هل المحاكم الشرعية مختلة النظام معتلة الأحكام كما يزعم
المستشار الإنكليزي، أم دعواه هذه كما نعهد من دعاوي السياسة، التي تجعل الحق
باطلاً، والباطل حقًا؟ ! ، قال: إن هذه الدعوى (كلمة حق أُريد بها باطل) ؛
فالمحاكم مختلة، وفيها عيوب كثيرة، كما أن في غيرها من مصالح الحكومة خللاً
وعيوبًا، والباعث الحقيقي على هذا الاقتراح إزالة أهم ما بقي للمسلمين في هذه
الحكومة من الحقوق أو المشخّصات المِلِّيَّة، ومن عجيب أمر هؤلاء الشيوخ،
شيوخ الأزهر - أن هذا الاقتراح لم يستثِرْ غيرتهم، ولم يبعثهم على ما يجب من
الإجماع على إنكاره، والاحتجاج عليه، وهو يمس رزقهم وجاههم!
وقد تعبت في إقناع شيخ الجامع بتأليف وفد من كبار العلماء للاحتجاج عليه
مع بذل جهدي في مقاومته، ومحاولة إقناع المستشار بضرره، وسوء مغبَّته،
وقلت للشيخ: لا يكفي أن أسعى وحدي لإبطال هذا، وأنا من رجال القضاء الأهلي
وأنتم ساكنون، ولكن الخديو اهتم به يومئذ، وكذلك قاضي مصر التركي؛ لأن
النفوذ في المحاكم الشرعية كان لهما وحدهما، وإبطال هذا النفوذ كان من المقاصد
أيضًا.
ولما لم يمكن قبول هذا المشروع اخترعت وزارة الحقانية وسيلة أخرى لما
كانت تدَّعيه من الاهتمام بإصلاح المحاكم الشرعية - اقترحها بطرس غالي باشا،
فقررت أن يبدأ بتعيين قاضيين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية، يحضران
الدعاوي المهمة في المحكمة الشرعية الكبرى، بل العليا، فقُوبل هذا المشروع
بالسخط العام من المسلمين، واندفع الكُتَّاب ينشرون المقالات الضافية في جريدة
المؤيد في انتقاده، ومنهم بعض الأزهريين، وكان للشيخ علي يوسف رحمه الله
جولة، وأي جولة في هذا الميدان، وقد ساعدته على ذلك ببعض المقالات التي لم
أوقّعها باسمي الصريح، ولا بحَرْفَيْ (م. ر.) ، كما كنت أوقع أكثر ما أكتب في
المؤيد، ثم فشلت الحكومة في هذا الاقتراح برفض مجلس شورى القوانين له
مستندًا إلى فتوى شرعية صدرت من قاضي القضاة ومفتي الديار المصرية شيخ
الجامع الأزهر في ذلك العهد (هو الشيخ حسونة النواوي) ، وكان رأي الأستاذ
الإمام في هذا المشروع أن الغرض الخفي منه للإنكليز وأعوانهم - أن يتعوَّد
المسلمون حكم لابِسي الزي الإفرنجي في القضايا الشرعية؛ فيكون ممهِّدًا للعودة
إلى المشروع الأول.
هذه النازلة حملتنا يومئذ على كتابة مقال في جزء المنار الذي صدر في
أواخر ذي الحجة سنة ١٣١٦ عنوانه (التعليم القضائي) ، اقترحنا فيه على شيخ
الجامع الأزهر، ومجلس إدارته إنشاء قسم في الأزهر، يعلِّم الشريعة تعليمًا قضائيًّا
عمليًّا، يعدون فيه خرِّيجيه لمنصب القضاء الشرعي، ومما اقترحناه فيه أن تؤلف
من طلابه هيئة للمحاكمات كهيئة المحكمة، وبينَّا فيه عيوب كتب الفقه التي تدرس
في الأزهر، وبحثنا في تطبيق الأحكام على حاجات الناس في كل عصر، وبينا
فيه تقصير العلماء في هذا وذاك، واضطرار الأمراء والحكام إلى مجاراة العصر
في تطوُّراته العامة، مع ما يجب على العلماء في ذلك.
وعلى إِثْرِ هذه النازلة عزل الخديو الشيخ حسونة من مشيخة الأزهر وإفتاء
الديار المصرية ملجأً لا مختارًا، وولى الأستاذ الإمام منصب الإفتاء، وتوسل إليه
بأكرم أصدقائه ليقبله، فقبل، وكلفته الحكومة تفتيش المحاكم الشرعية، ووضع
تقرير فيما يراه مِن وسائل إصلاحها، فأجمعت الأمة على استحسان ذلك، كما
نوَّهت به الجرائد.
وقد قام - رحمه الله تعالى - بالأمر خير قيام، ووضع تقريره الذي سارت
بذِكْره الرُّكبان، فشخَّص فيه الداء، ووصف الدواء، ولكن الحكومة لم تنفذه حق
التنفيذ، وكان مما بيَّنه فيه - من خلل هذه المحاكم - ما يعود الذنب فيه على
الحكومة وحدها، وقد نشرناه في المجلد الثاني من المنار، ثم في كتاب على حدته،
ووضعنا له مقدمة بيَّنا فيها الأصول التي يدور عليها الإصلاح بالدليل الواضح،
ولو قدر علماء الأزهر ذلك التقرير قدره، وعملوا بما أرشدهم إليه - لضعفت أو
دُحضت حجة الطاعنين في أحكام الشريعة، الذين يطلبون نسخها بالقوانين
الوضعية، على أن هذه المحاكم قد انتظم سيرها بعض الانتظام منذ ذلك العهد على
تقصير العلماء والحكومة جميعًا في تنفيذ ما اقترح من الإصلاح فيها، ولكن تعليم
الفقه في الأزهر بقي مختلاً، فوضع الأستاذ مشروع مدرسة القضاء الشرعي
للاستغناء بها عنه.
***
قانون الأحوال الشخصية
ثم إن الحكومة المصرية قد جاءت - في عهد الحماية البريطانية - بمشروع
جديد، وهو وضْع قانون للأحوال الشخصية الخاصة بأحكام الزواج، وما يتعلق به
(كالطلاق والفسخ والعدة والنفقة) ، وألفت لذلك لجنة يرأسها وزير الحقانية، ومن
أعضائها مفتي الديار المصرية السابق (الشيخ محمد بخيت) ، وبعض المدرسين
في مدرستي القضاء الشرعي والحقوق، على أن تُستمد مواد هذا القانون من كتاب
قدري باشا المشهور، مع أخذ بعض مواده المناسبة لمصلحة هذا العصر من فقه
المذاهب الأربعة المشهورة، وأن لا تتقيد بمذهب الحنفية في كل حكم، وإن اتخذته
أصلاً؛ لأن ارتباط الحكومة بالدولة العثمانية - التي قيدت القضاء بهذا المذهب -
قد زال.
وهذا الإطلاق ركن من أركان الإصلاح الذي طالما فكر فيه وتمناه عقلاء
العلماء وغيرهم من طلاب الإصلاح، وهو مما اشتمل عليه تقرير الأستاذ الإمام في
إصلاح المحاكم الشرعية، وبينا في مقدمة طبعهِ مُسْتَنَدَهُ من أقوال الفقهاء، ولكن
هذا الشكل لتنفيذه منتقَد من وجوه، كنت قد بينتها في مقال طويل لم يمكن نشره في
أيام ظهور المشروع، وقد كان وزير الحقانية أرسل إليَّ الجزء الأول الذي تم منه؛
لأجل بيان رأيي فيه، كما أرسله إلى كثير من علماء الشرع والقضاة والمحامين،
فانتقده بعضهم، ولم أكتب للوزير فيه شيئًا؛ لأنني لست مقرًّا له، وقد كاشفته
يومئذ بذلك، وإبداء الرأي في مواده يتضمن الرضا بأصله.
ثم إنني بينت أهم ما انتقدته على جعْل الأحكام الشرعية قانونًا في المقالة
الثانية من المقالات التي عنوانها (المتفرنجون والإصلاح الإسلامي) ، وسيأتي
بيان سببها وموضوعها، وهو جعْل الأحكام الشرعية قانونًا، فإن القانون إذا أُطلق
في هذا المقام يختص معناه بما يقابل الشرع الإلهي من الأحكام، وما يترتب على
ذلك من توقف الحكم به على إقرار مجلس الوزراء له، وصدور أمر الحاكم العام
بتنفيذه، وكوْنه تشريعًا من هذه الحكومة الواقعة تحت سيادة غير إسلامية، وكون
المنفِّذ له وزيرًا من وزرائها، لا يشترط أن يكون مسلمًا، وكون القضاة يحكمون
بما يفهمون من نصوصه، وإن لم تدل لضعفها وركاكتها - على ما قصدته اللجنة،
وكونه سيشرح على أنه قانون، فلا يتقيد الشارحون له بمآخذ أحكامه من الشرع،
وربما لا يعرفونها، وقد يفضي ذلك إلى مخالفة نصوص الشارع، وإجماع الأمة،
وكونه سيُدمج بعد ذلك في القانون المدني، وتزول منه كل صبغة، وكل صيغة تدل
على استمداده من الشرع الإسلامي، كما صرح بذلك بعض المجاهرين بالإلحاد من
هؤلاء المتفرنجين.
وجملة القول: إنني رأيت هذا الوضع أدنى إلى إزالة ما بقي للمسلمين من
المقوّمات والمشخّصات في هذه الحكومة الإسلامية بكل معنى تسمى به حكومة
إسلامية أو مسيحية وزيادة، ولكنني لم أسمع ولم أقرأ لأحدٍ من علماء الأزهر -كلمة
قِيلت، ولا كُتبت في إنكاره، فهل كان سبب ذلك أنهم لا يرون مانعًا من جعْل
أحكام الشرع - في مثل النكاح والطلاق - قانونًا، وهي من قبيل العبادات؛ في
أنها يدان بها الله تعالى بما أحل وحرم في أغلظ ما نزلت فيه من النصوص من
الحقوق البشرية، من استحلال الأبضاع، وثبوت الأنساب، وتكوين بناء البيوت
(العائلات) ، إن كان هذا سبب إقرارهم لهذا القانون فقد قربت المسافة بينهم وبين
غلاة المتفرنجين في إزالة كل صبغة أو مسحة إسلامية من الحكومة؛ لأن أكثر
الأحكام المدنية، وأحكام العقوبات والسياسة في الفقه من اجتهاد العلماء التي لم يرد
فيها نص في القرآن، ولا سُنة من قضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم أو فتاواه،
والمدار فيها على حفظ المصالح، ودرء المفاسد، وإقامة العدل، لا على التعبد
كما نبينه بعد.
وقد كنت راجعت في المسألة الأستاذ الشيخ محمد بخيت - وهو أكبر الفقهاء
مقامًا في اللجنة - ورغبت إليه أن يعترض على تسمية ما يجمعونه من هذه الأحكام
قانونًا، ويقترح تسميتها (المجلة الشرعية في الأحكام الشخصية) ، فقال: وأي
مانع يمنع من تسميتها قانونًا؟ ! ، والقانون هو القاعدة الكلية المنطبقة على
جزئياتها، وهو يصدق على هذه الأحكام، قلت: هذا عُرف ذكروه في تفسير قول
مَن عرَّف المنطق بأنه (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) ،
وهو - في عرف أهل الموسيقى - (اسم لآلة من آلات الطرب) ، ولكنه إذا أُطلق
- في عُرف الحقوق والحكومات - ينصرف إلى ما يضعه البشر من الأحكام التي
تجري عليها الحكومة، ويكون مقابلاً للشريعة التي هي وضع إلهي لا بشري،
حتى إن ما يستنبطه البشر بآرائهم الاجتهادية من هذه الأحكام ينسبونه إلى الوضع
الإلهي؛ لأن الأصل في الصحيح منه أن يكون راجعًا إلى نص من الكتاب أو السنة
(وإن كان الكثير منها ليس كذلك، بل بعضها مخالف للنصوص) ، وذكرت له
بعض ما ظهر لي من لوازم هذه التسمية، وظننت أنه سيفعل شيئًا، ولم يفعل!
ومن نوادر الاتفاق أن حكومة الترك الاتحادية قد فعلت في أثناء الحرب
الأخيرة - على انهماكها فيها، وجعْلها أكبر همهًا - نحوًا مما شرعت فيه الحكومة
المصرية، ولكن توسعوا في مخالفة مذهب الحنفية، ما لم يتوسع المصريون،
على أنهم هم حماته، ومقيدو القضاء به، ولولاهم لما انتشر في مصر؛ وذلك أن
الاتحاديين أجرأ مَن تولى زمام الأحكام في بلاد إسلامية - على التغيير والتبديل
بغير مبالاة بالمخالفين، وسيأتي البحث فيما وضعوه، وأصدروا به إرادة سلطانية.
افترص المتفرنجون إقدام الحكومة على وضع هذا المشروع، فاقترح بعضهم
على وزير الحقانية أن يدمج فيه إبطال تعدد الزوجات، وتقييد أحكام الطلاق،
وحرية المتعاقدين - الرجل والمرأة - في عقد النكاح، وتساويهما فيما يلزم العقد،
وجعْل العقدين رسميين، بل صرح بعضهم بوجوب عدم تناقض أحكام النكاح مع
الحرية الشخصية المقررة في قانون العقوبات، أي المتضمنة لإباحة الزنا.
فظهر لنا مما قرأنا لهم، وسمعنا منهم أنهم يعدون هذا المشروع أقرب الوسائل
إلى نبذ الشريعة الإسلامية بجملتها، لا إلى إلغاء المحاكم الشرعية، وما يلزمه من
القضاء على المعاهد الدينية فقط، وهذا أكبر مما انتقدناه منه بادي الرأي.
***
دعوة المتفرنجين إلى هدم أصول الشريعة كلها
تهوَّك أحد وكلاء النيابة - من رجال القضاء الأهلي - فكتب رسالةً في هذا
المشروع، دعا فيها إلى جعْل هذا القانون مطابقًا لآراء مَن يسمون أنفسهم الفئة
الراقية أو المتنوِّرة في البلاد - وهم هؤلاء المتفرنجون؛ إذ لا يكون الإصلاح
عندهم إلا بذلك - ولكنه خرج فيه عن موضوع الإصلاح الخاص بالأحكام الزوجية
إلى القول بهدْم أصول الشريعة الأربعة المشهورة: الكتاب والسنة والإجماع
والقياس، فأباح باسم الإسلام عدم التقيُّد بنصوص القرآن في الأحكام، ولكنه سمح
بأن تُراعَى في محرماته مرماها والغرض منها، وفي واجباته الحكمة المقصودة بها،
وأما ما جوَّزه وأحله فلكل حاكم عنده أن يحرمه! ، وأما السنة فكل ما ثبت فيها
من أحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقضاياه ومن حلال وحرام - فلا يجب
اتباع شيء منه على مَن بعده! ، خلافًا لقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: ٩٠) ، وإنما يجب على المسلمين عنده أن يتبعوا في كل زمان ومكان
مَن يتولى أمر حكومتهم فيما يسنّه لهم، ويحله ويحرمه عليهم، وإن خالف صريح
سُنة نبيهم، ورسول ربهم إليهم - مخالفة صريحة! ، وكذا إن خالف نصوص
القرآن فيما تدل عليه عباراتها؛ إذ لا يجب عليهم عنده إلا مراعاة ما يفهمون من
حكمتها ومغزاها، فإذا أمكن مراعاة هذه الحكمة وموافقة هذا المغزى من طريق
آخر غير اتباع منطوق الآيات فلا بأس، أو كما قال: (فلا حرج في أن نصل إلى
الغرض المقصود من أفيد الطرق وأخصرها) ، ومثَّل له بإغناء جعْل العقد رسميًّا
عن الإشهاد على عقد الزواج، وبإغناء مرور أكثر مدة الحمل على الطلاق عن
العدة المنصوصة! ، أي ومثل هذا بالأولى ما إذا علمنا بالاطلاع على باطن الرحم
بأشعة (رونتجن) أنه لا حمل فيه، فحينئذ نبيح للمرأة أن تتزوج في اليوم الذي
تطلق فيه، وللمطلق أن يمنع النفقة عنها، وإن لم تتزوج، وبهذه القاعدة لا يبقى
محرم إلا ويباح ارتكابه لمَن يدَّعي أنه يمكنه مراعاة مغزى القرآن من تحريمه
كشرب الخمر وتحريم نكاح البنت والأخت وغير ذلك.
وأما الإجماع والقياس فقد صار مجاله واسعًا في هدمهما، وجعل إجماع أمثاله
وأقيستهم أوْلى بالاعتبار والاتباع من إجماع الصحابة والتابعين، وأقيسة الأئمة
المجتهدين! فمَن يقول في القرآن ما قال ويصرح على أثره بقوله: (وبذلك
ينقض وجوب التقيد بالمعاني الحرفية القانونية الواردة في القرآن) .
ومَن يجعل قضاء الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - وأحكامه في
زمانه كأقضية الإفرنج والمتفرنجين بقوانينهم، والأحكام التي يضعها لهذه البلاد
المستشارون القضائيون من الإنكليز في زماننا، بل يجعل هذه ناسخة لها، وواجبة
الاتباع من دونها، هل يحترم إجماع سلف الأمة الصالح ومجتهديها؟ ، كيف،
وهؤلاء المستشارون ومقلِّدتهم المتفرنجون من أبناء القرن العشرين؟ ! ، وأولئك
كانوا في زمن القرون الوسطى المسيحية التي يسميها أساتذته الإفرنج (القرون
المظلمة) ، وإن سماها قومه المسلمون غير المتنوِّرين بعصر النور أو عصر
السعادة، كما يقول إخواننا الترك؟ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:
٦٥) .
هذا ما كتبه وخطب به مصري من طائفة المسلمين الجغرافيين باسم الإسلام
ونشر رأيه هذا في طول البلاد وعرضها، ودعا إليه باسم الإسلام، فوضع به
للمسلمين دينًا جديدًا وشرعًا محدثًا لم يتجرأ على مثله أحد من فرق الباطنية الذين
تعبوا في محاولة إبطال دين الإسلام بالتأويل، فضلُّوا كثيرًا، وأضلوا عن سواء
السبيل، ولكن الإسلام بقي ثابتًا، وظل حكمه نافذًا، حتى جنى عليه المقلِّدون
الجامدون، ما لم يجنِ عليه الملاحدة والمرتدون، وأجرأ منه أناس من هؤلاء
المتفرنجين، يصرحون اليوم بأن حكومتهم يجب أن تكون غير مقيدة بدين، وأن
تكون جميع قوانينها مدنية لا شائبة للدين فيها، فهذا ينبذ الشرع بشبهة السياسة
المدنية، وذاك ينبذه بشبهة النظريات القانونية.
أما هذا السياسي فهو محمود أفندي عزمي أحد محرري جريدة (الاستقلال) ،
وأما ذلك القانوني فهو (أحمد أفندي صفوت) الذي كان وكيل نيابة (الدلنجات) ،
فاستخدمته السلطة البريطانية بما ظهر من جرأته على الشريعة لإصلاح القضاء في
بلاد فلسطين بعد هدنة الحرب، وكان ألقى ما كتبه على جمهور كبير بقاعة
المحامين في الإسكندرية (في ١٥ أكتوبر سنة ١٩١٧) تحت رئاسة المحامي
أنطون بك سلامة، وطبعه ووزعه على الناس في هذا القطر كله، ولم يصمد أحد
من علماء الأزهر، ولا غيره من المعاهد العلمية - وفي مقدمتها معهد الإسكندرية -
للرد عليه، حتى أطلعنا عليه أحد قضاة المحاكم الأهلية، فرددنا عليه بأربع مقالات
نُشرت في المجلدين العشرين والحادي والعشرين من المنار.
مهما يكن من سبب سكوت علماء المعاهد الدينية في ذلك الوقت، فهاهم أولاء
يتصدون في هذا الوقت للرد على مقترح جعْل القوانين كلها مدنية، وإذا رُفعت
الأحكام العرفية - عند الشروع في انتخاب أعضاء المجلس النيابي - فسيكون مجال
النزاع والخصام في هذه المسالة أقوى، ولكل من الخَصمين أنصار، فالسواد
الأعظم من الأمة المصرية يخالف رأي هؤلاء الغلاة من المتفرنجين، ولا سيما إذا
صرحوا بمقاصدهم، كما يصرح مقترح مدنية القوانين، وهؤلاء المتفرنجون ليسوا
بالقليلين، وتؤيدهم الأقليات غير المسلمة، ونفوذ الإنكليز والإفرنج كافة، ولا يخلو
التصادم بين الفريقين في عهد تكوين الحكومة النيابية، وفي أوائل العهد بها من
خطر عليها، فليس من مصلحة مصر في هذا الوقت أن تثار فيها هذه النزعات
المهيجة التي طرق بابها بعض المتفرنجين، فقابلهم بعض علماء الشرع بمطالبة
الحكومة وواضعي القانون الأساسي بما يفيد وجوب تطبيق جميع مواده على الشرع
الإسلامي، الذي يجب أن تلتزمه الحكومة من حيث هو دينها الرسمي، حتى في
علاقتها بحكومة الخلافة أو بالخليفة.
وهذا المقام يحتاج إلى بسط من وجوه أهمها: ما لا يسع المسلم قبوله
لمنافاته للإسلام، وما هو في سعة منه، وما يضر ذِكْره دون السكوت عنه، وما
تتعارض فيه المصالح ودرء المفاسد، ومن المهم الآن اجتناب الغلو من الجانبين؛
فقد علمنا ما جنى الخلاف والشقاق على أشبه البلاد ببلادنا، وهي (أرلندة) .
وإذا فُتح هذا الباب فلا بد لنا من بيان نظريات الأزهريين، ونظريات
المتفرنجين في الشريعة والقوانين، وما يراه حزب الإصلاح، وهو الوسط الجامع
بين هداية الدين النقية، والترقي في معارج المدنية الصحيحة، وهو حزب
الأستاذ الإمام الذي افتقدته البلاد في ظل مشكلات هذا العصر، كما يفتقد في
الليلة الظلماء مطلع البدر، فاتفق رجال الدين ورجال المدنية على الاحتفال
بإحياء ذكره، والرجوع إلى تعاليمه وهدْيه.
فإذا نظم حزب الإمام عمله، وجمع كلمته، وتعارف أفراده الكثيرون من
الأزهريين وغيرهم - فيوشك أن يؤدي لهذا القطر أفضل خدمة كان من شأن
الإمام - رحمه الله تعالى - أن يؤديها له في هذا الطور المخيف، طور الانتقال
من سيطرة الحكومة الفردية إلى بحبوحة حكومة الأمة النيابية.
((يتبع بمقال تالٍ))