للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بن تيمية


قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع لما قبله)
(٢)

فصل
الخلاف في السفر الشرعي، وحكمه:
السفر في كتاب الله وسنة رسوله في القصر والفطر مطلق , ثم قد تنازع
الناس في جنس السفر وقدره , أما جنسه فاختلفوا في نوعين: (أحدهما) حكمه ,
فمنهم من قال: (لا نقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو) , وهذا قول داود
وأصحابه إلا ابن حزم، قال ابن حزم: وهو قول جماعة من السلف , كما روينا
من طريق ابن أبي عدي، حدثنا جرير , عن الأعمش , عن عمارة بن عمير ,
عن الأسود , عن ابن مسعود , قال: (لا يقصر الصلاة إلا حاج , أو مجاهد) ,
وعن طاوس أنه كان يُسأَلُ عن قصر الصلاة , فيقول: (إذا خرجنا حجاجًا , أو
عُمَّارًا؛ صلينا ركعتين) , وعن إبراهيم التيمي أنه كان لا يرى القصر إلا في
حج , أو عمرة , أو جهاد. وحجة هؤلاء أنه ليس معنا نص يوجب عموم القصر
للمسافر , فإن القرآن ليس فيه إلا قصر المسافر إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا ,
وهذا سفر الجهاد , وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في حجه
وعُمَرِه وغزواته , فثبت جواز هذا , والأصل في الصلاة الإتمام , فلا تسقط إلا
حيث أسقطتها السنة.
ومنهم من قال: لا يقصر إلا في سفر يكون طاعة , فلا يقصر في مباح كسفر
التجارة. وهذا يذكر رواية عن أحمد، والجمهور يجوزون القصر في السفر الذي
يجوز فيه الفطر، وهو الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله
وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة) ، رواه عنه أنس بن مالك الكعبي،
وقد رواه أحمد وغيره بإسناد جيد، وأيضًا فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره , عن
يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: ١٠١) فقد أمن الناس. فقال:
عجبت مما عجبت منه , فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , فقال:
(صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) , وهذا يبين أن سفر الأمن يجوز فيه
قصر العدد، وإن كان ذلك صدقة من الله علينا أمرنا بقبولها.
وقد قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: إن شئنا قبلناها , وإن شئنا لم
نقبلها , فإن قبول الصدقة لا يجب؛ ليدفعوا بذلك الأمر بالركعتين , وهذا غلط , فإن
النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقبل صدقة الله علينا , والأمر للإيجاب , وكل
إحسانه إلينا صدقة علينا , فإن لم نقبل ذلك؛ هلكنا , وأيضًا فقد ثبت عن عمر بن
الخطاب أنه قال: (صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم , وقد
خاب من افترى) ، كما قال: (صلاة الجمعة ركعتان , وصلاة الأضحى ركعتان ,
وصلاة الفطر ركعتان) ، وهذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن
للمسلمين الصلاة في جنس السفر ركعتين , كما سن الجمعة والعيدين , ولم يخص
ذلك بسفر نسك , أو جهاد , وأيضًا فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت:
(فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر) , وهذا
يبين أن المسافر لم يؤمر بأربع قط , وحينئذ فما أوجب الله على المسافر أن يصلي
أربعًا , وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ يدل على أن المسافر فرض عليه
أربع، وحينئذ فمن أوجب على مسافر أربعًا , فقد أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله.
فإن قيل: قوله: وضع، يقتضي أنه كان واجبًا قبل هذا , كما قال: إنه
وضع عنه الصوم , ومعلوم أنه لم يجب على المسافر صوم رمضان قط , لكن لما
انعقد سبب الوجوب , فأخرج المسافر من ذلك؛ سمي وضعًا لأنه كان واجبًا في
المقام , فلما سافر وضع بالسفر , كما يقال: من أسلم وضعت عنه الجزية , مع أنها
لا تجب على مسلم بحال، وأيضا فقد قال صفوان بن محرز: قلت لابن عمر:
(حدثني عن صلاة السفر) ، قال: (أتخشى أن يكذب علي؟) قلت: (لا) ،
قال: (ركعتان , من خالف السنة كفر) ، وهذا معروف , رواه أبو التياح , عن
مورق العجلي، عنه , وهو مشهور في كتب الآثار , وفي لفظ: (صلاة السفر
ركعتان، ومن خالف السنة كفر) , وبعضهم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ,
فبين أن صلاة السفر ركعتان , وأن ذلك من السنة التي من خالفها , فاعتقد خلافها؛
فقد كفر، وهذه الأدلة دليل على أن من قال: إنه لا يقصر إلا في سفر واجب , فقوله
ضعيف.
ومنهم من قال: لا يقصر في السفر المكروه , ولا المحرم , ويقصر في
المباح. وهذا أيضا رواية عن أحمد , وهل يقصر في سفر النزهة؟ فيه عن أحمد
روايتان , وأما السفر المحرم فمذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد: لا يقصر فيه ,
وأما أبو حنيفة , وطوائف من السلف والخلف , فقالوا: يقصر في جنس الأسفار.
وهو قول ابن حزم وغيره، وأبو حنيفة , وابن حزم , وغيرهما يوجبون القصر
في كل سفر وإن كان محرمًا , كما يوجب الجميع التيمم إذا عدم الماء في السفر
المحرم، وابن عقيل رجح في بعض المواضع القصر والفطر في السفر المحرم.
والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعًا في جنس السفر , ولم يخص
سفرًا من سفر , وهذا القول هو الصحيح , فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر , قال
تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: ١٨٥) ,
كما قال في آية التيمم: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (النساء: ٤٣) الآية ,
وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين، ولم ينقل قط أحد
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خص سفرًا من سفر , مع علمه بأن السفر يكون
حرامًا ومباحًا , ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من
الواجبات , ولو بين ذلك لنقلتها الأمة , وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئًا.
وقد علق الله ورسوله أحكامًا بالسفر , كقوله تعالى في التيمم: {وَإِن
كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (النساء: ٤٣) , وقوله في الصوم: {وَمَن كَانَ
مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (البقرة: ١٨٥) , وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء:
١٠١) , وقول النبي صلى الله عليه وسلم: يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن ,
وقوله: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج , أو ذي محرم ,
وقوله: (إن الله وضع عن المسافر الصوم , وشطر الصلاة) ، ولم يذكر قط في
شيء من نصوص الكتاب والسنة تقييد السفر بنوع دون نوع، فكيف يجوز أن
يكون الحكم معلقًا بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ورسوله ذلك؟ بل يكون بيان
الله ورسوله متناولاً للنوعين، وهكذا في تقسيم السفر إلى: طويل وقصير، وتقسيم
الطلاق بعد الدخول إلي: بائن ورجعي، وتقسيم الأيمان إلى: يمين مكفرة،
وغير مكفرة , وأمثال ذلك مما علق الله ورسوله الحكم فيه بالجنس المشترك العام ,
فجعله بعض الناس نوعين: نوعًا يتعلق به ذلك الحكم , ونوعًا لا يتعلق من غير
دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة , لا نصًّا ولا استنباطًا.
والذين قالوا: لا يثبت ذلك في السفر المحرم , عمدتهم قوله تعالى في الميتة:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: ١٧٣) , وقد ذهب طائفة
من المفسرين إلى أن الباغي هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله , والعادي هو
العادي على المسلمين , وهم المحاربون قطاع الطريق، قالوا: فإذا ثبت أن الميتة
لا تحل لهم , فسائر الرخص أولى، وقالوا: إذا اضطر العاصي بسفره؛ أمرناه أن
يتوب ويأكل , ولا نبيح له إتلاف نفسه، وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي
وأحمد , وأما أحمد ومالك , فجوزوا له أكل الميتة دون القصر والفطر، قالوا:
ولأن السفر المحرم معصية , والرخص للمسافر إعانة على ذلك , فلا تجوز الإعانة
على المعصية.
وهذه حجج ضعيفة , أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي: الذي
يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال , والعادي: الذي يتعدى القدر الذي
يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا في السور المكية: الأنعام والنحل , وفي المدنية، ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل ,
والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت في سفر , فليس السفر المحرم مختص
بقطع الطريق، والخروج على الإمام، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم إمام يخرج عليه , ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرًا , والبغاة الذين أمر
الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين، ولا كان الذين نزلت الآية
فيهم أولاً مسافرين , بل كانوا من أهل العوالي المقيمين , واقتتلوا بالنعال والجريد ,
فكيف يجوز أن يفسر الآية بما لا تختص السفر؟ وليس فيها كل سفر محرم ,
فالمذكور في الآية لو كان كما قيل , لم يكن مطابقًا للسفر المحرم , فإنه قد يكون بلا
سفر , وقد يكون السفر المحرم بدونه، وأيضًا فقوله: {غَيْرَ بَاغٍ} (البقرة:
١٧٣) حال من {اضْطُرَّ} (البقرة: ١٧٣) , فيجب أن يكون حال اضطراره
وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد , فإنه قال: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:
١٧٣) , ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل , لا عن نفس الحاجة
إليه , فمعنى الآية: فمن اضطر؛ فأكل غير باغ ولا عاد، وهذا يبين أن المقصود
أنه لا يبغي في أكله , ولا يتعدى، والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان , فالبغي ما
جنسه ظلم , والعدوان مجاوزة القدر المباح , كما قرن بين الإثم في قوله: {وَتَعَاوَنُوا
عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: ٢) , فالإثم جنس
الشر , والعدوان مجاوزة القدر المباح، فالبغي من جنس الإثم، قال تعالى: {وَمَا
تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: ١٤) , وقال تعالى:
{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: ١٨٢) ,
فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد، وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد ,
وبغير عمد , لكن قال كثير من المفسرين: الجنف: الخطأ , والإثم: العمد؛ لأنه لما
خص الإثم بالذكر - وهو العمد - بقي الداخل في الجنف الخطأ، ولفظ العدوان من
باب التعدي للحدود , كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ} (الطلاق: ١) , ونحو ذلك، ومما يشبه هذا قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} (آل عمران: ١٤٧) , والإسراف: مجاوزة الحد في
المباح , وأما الذنوب فما كان جنسه شر وإثم.
وأما قولهم: إن هذا إعانة على المعصية , فغلط , لأن المسافر مأمور بأن
يصلي ركعتين , كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم , وإذا عدم الماء في السفر المحرم
كان عليه أن يتيمم ويصلي , وما زاد على الركعتين ليست طاعة , ولا مأمورًا بها أحد
من المسافرين , وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهيًّا عنه , فصار صلاة الركعتين مثل
أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن , فهل يصليها إلا ركعتين , وإن كان
عاصيًا بسفره , وان كان إذا صلى وحده صلى أربعًا؟ وكذلك صومه في السفر ليس
برًّا , ولا مأمورًا به , فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: (ليس من
البر الصيام في السفر) , وصومه إذا كان مقيمًا أحب إلى الله من صيامه في سفر
محرم , ولو أراد أن يتطوع على الراحلة في السفر المحرم لم يمنع من ذلك، وإذا
اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلي؟ ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عريانًا؟
فإن قيل: هذا لا يمكنه إلا هذا. قيل: والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين , والمشروع في
حقه أن لا يصوم، وقد اختلف الناس لو صام , هل يسقط الفرض عنه؟ واتفقوا على
أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه، وهذه المسألة ليس فيها احتياط، فإن طائفة يقولون:
من صلى أربعًا , أو صام رمضان في السفر المحرم لم يجزئه ذلك , كما لو فعل ذلك
في السفر المباح عندهم.
وطائفة يقولون: لا يجزيه إلا صلاة أربع , وصوم رمضان، وكذلك أكل
الميتة واجب على المضطر سواء كان في السفر أو الحضر , وسواء كانت
ضرورية بسبب مباح أو محرم , فلو ألقى ماله في البحر واضطر إلى أكل الميتة
كان عليه أن يأكلها، ولو سافر سفرًا محرمًا , فأتعبه حتى عجز عن القيام صلى
قاعدًا، ولو قاتل قتالاً محرمًا حتى أعجزته الجراح عن القيام صلى قاعدًا، فإن قيل:
فلو قاتل قتالاً محرمًا هل يصلي صلاة الخوف؟ قيل: يجب عليه أن يصلي , ولا
يقاتل , فإن كان لا يدع القتال المحرم , فلا يبيح له ترك الصلاة , بل إذا صلى صلاة
خائف كان خيرًا من ترك الصلاة بالكلية، ثم هل يعيد؟ هذا فيه نزاع، ثم إن أمكن
فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة في الوقت وجب ذلك عليه؛ لأنه مأمور بها، وأما إن
خرج الوقت , ولم يفعل ذلك، ففي صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))