] وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [[*] اللهم لطفًا ورحمة بنا وبدينك الذي عاد غريبًا كما بدأ. ماذا دهى الإسلام والمسلمين من عظائم النكبات وصواعق المهلكات حتى انقلب الحق باطلاً، والباطل حقًّا، وأصبح المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا وغدا الهدى ضلالاً، والضلال هدى؟ وأي نكبة أعظم، وصاعقة أفتك من أن تجتمع بالكاظمية من بلاد العراق جماعة من علماء الشيعة ثم يقررون وينشرون على العالم أن إزالة المنكر مصيبة على الإسلام، ونكبة على المسلمين، وأن تقويض دعائم الباطل، وهدم أبنية الضلال وتطهير البلاد الحجازية المقدسة من آثار الجاهلية الأولى عدوان ولطمة للإسلام كان يخشاها. ما هذا؟ أتبدلت الأرض غير الأرض، والناس غير الناس، والعقول غير العقول، صار الأمر بالناس واتباعهم للهوى، وفتنتهم بالبدع وتماديهم في العدوان على الدين وتشويهه والإصاخة إلى صوت الباطل إلى هذا الحد الذي لا يتصور بعده غاية، والذي أفسد على المسلمين حياتهم الدنيوية والدينية؟ حسبي الله ونعم الوكيل. ماذا يقول أولئك المعولون الصارخون؟ أيقولون إن أمكنة أسست على غير هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضي الله عنهم أمكنة خير وبركة؟ وفوق ذلك يسمونها مقدسة؟ وأدهى من ذلك يسمون من لا يقول بها ولا يسمع قول الشيطان فيها ضالاًّ مارقًا؟ يا لله من هول ذلك! أفيقوا يا قوم من هذه الغفلة التي هي أعظم ما يبغي الشيطان منا، وزنوا قولكم قبل أن تقولوه واعرفوا موضعه من الدين قبل أن تذيعوه، فإنكم والله لو وزنتم قولكم وعرفتم موضعه لوجدتموه منكرًا من القول وزورًا وأي زور ومنكر أعظم من قول يصادم بل يناقض بل يهدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أجمع المسلمون خلفًا عن سلف على صحته، من قوله صلى الله عليه وسلم (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة - رضي الله عنها - يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرزت قبره) أخرجه البخاري ومسلم. وقال العلماء في شرحهم لهذا الحديث: في هذا نهي شديد صريح عن بناء القباب على القبور واتخاذ المساجد عليها وعندها. حتى عد ابن حجر الهيتمي بناء هذه القباب من الكبائر العظيمة التي يجب على علماء المسلمين وأمرائهم هدمها وإزالتها - قال: حتى قبة إمامنا الشافعي رضي الله عنه لذلك الحديث اهـ. ومن قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أحمد وأصحاب السنن، أي الذين يوقدون عليها الشموع ونحوها. ومن قوله صلى الله عليه وسلم (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري. وإلا فليخبرنا أولئك الباكون الصارخون عن حيلة نخرج بها من هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة ونستمع لقولهم ونعمل به دونها. ثم ماذا يقولون في إجماع كل فقهاء المذاهب المعتبرة على حرمة البناء على القبور وتجصيصها. قال الإمام الشوكاني في رسالته (شرح الصدور بتحريم رفع القبور) : اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها ولم يخالف أحد في ذلك من المسلمين أجمعين. ثم ساق أحاديث دالة على هذا ثم قال: وإذا تقرر لك هذا علمت أن رفع القبور ووضع القباب والمساجد مثلها: قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعليها، تارة كما تقدم، وتارة دعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية، وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث من يهدمه، وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى، وتارة قال: (لا تتخذوا قبري وثنًا) وتارة قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا) أي موسمًا يجتمعون فيه كما صار يفعله كثير من عباد القبور يجعلون لمن يعتقدونه من الأموات أوقاتًا معلومه (الموالد) يجتمعون عند قبورهم ويعكفون عليها كما يعرف ذلك كل أحد من الناس. اهـ كلام الشوكاني. ثم هذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه روى عنه مسلم في صحيحه أنه قال لأبي الهياج الأسدي (أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تجد قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته) وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع عن الأرض عن القدر المشروع واجبة متحتمة فهل فعل علي رضي الله عنه يعد نكبة على الإسلام والمسلمين؟ ويستحق قيامة أولئك الذين يدّعون أنهم شيعة علي كرم الله وجهه والتفاني في حبه بهذا الصريخ والعويل؟ ثم ما الذي تفهمونه من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام عن زيارة القبور ولم يبح لهم زيارتها إلا بعد ما تمكن الإيمان في قلوبهم وتبينوا حقيقة التوحيد وأنها لا تتفق وتعظيم هذه القبور والعكوف عندها؟ ولفظ ذلك (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الدار الآخرة) وفي قوله: تذكركم الدار الآخرة أتم دلالة على أن زيارة القبور لا تجوز إلا إذا كانت للتذكر فقط، أما إذا كانت للتبرك والطواف والتقبيل فهي على أصلها من التحريم: الأول: أليس في هذا النهي ثم الإباحة بهذا القيد ما يدل أوضح دلالة عند عدم الهوى والعصبية على أن فتنة الشرك ما دخلت على العرب وغيرهم إلا من باب تعظيم قبور صالحيهم؟ كما جاء ذلك في صريح القرآن وفي أقوال الصحابة والتابعين في تفسيره مما يطول به المقال، وهو أوضح من أن نحتاج إلى تسطيره هنا. ثم تعالوا حدثونا إن كنتم تريدون النصفة والدين الحق، هل فعل ذلك أبو بكر أو عمر أو علي أو عثمان أو أحد غير أولئك من الصحابة رضوان الله عليهم؟ اللهم لا. هل بنى الحسن أو الحسين رضي الله عنهما لأبيهما قبة من هذه القباب؟ اللهم لا. هل بنى أحد من أولاد الحسن أو الحسين كعلي زين العابدين أو جعفر الصادق أو محمد الباقر رضي الله عنهم شيئاً من هذه القباب؟ اللهم لا. ثم هؤلاء الأئمة الأربعة ومن إليهم من فحول علماء السلف رضي الله عنهم هل يقدر واحد منكم أن يأتي لنا ونكون له من أعظم الشاكرين - بكلمة واحدة عنهم تشير إلى ذلك وإباحته فضلاً عن التصريح؟ إنكم لا تجدون في التاريخ ولا الدين. إلا أن أول من أظهر ذلك وابتدعه دولة بني بويه في أول القرن الرابع. وليس أحد يعتقد أن فعل ملوك هذه الدولة حجة في الدين. فلا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة تقتدون، ولا يسلم من اقتدى بهم من طعنكم وتشنيعكم فماذا بعد ذلك؟ نقول لكم إلا أن هذه مُشاقة لله ولرسوله واتباع لغير سبيل المؤمنين والله تعالى يقول {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: ١١٥) . يا قوم هذا دين الله الذي نعلمه ويعلمه المسلمون من كتاب الله وسنة رسوله ومذاهب العلماء، نعلنه وندعو الناس جميعًا إلى التمسك به. وإن كان عندكم غير هذا فهاتوه مؤيَّدًا بالحجة من قول الله وقول رسوله يشكر الله لكم عملكم وتكونوا قد أسديتم إلى الناس معروفًا ببيان دين قد خفي عليهم. وأما إن كنتم تبغون غير هذا من غير أن تأتوا بدليل أو حجة صادقة ولا تؤيدونه إلا بالهوى والعادة وقول الآباء والأجداد وغير ذلك مما هو الحجة الوحيدة للمبتدعين، فهذا أمر آخر لا نرضاه لكم ولا لأحد من هذه الأمة التي نسأل الله لها الهداية والتوفيق في القول والعمل. ثم اعلموا يا قوم أن المؤمنين الذين ملأ الله قلوبهم بنور الإيمان وحب الله ورسوله وتعظيمهما وتوقيرهما لا يقدمون قول أحد ولا فعله على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعله، ولا يتخذون من قول أحد ولا فعله حجة على دين الله بل لله الحجة البالغة وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. ما هلك السالفون من الأمم إلا بتقديم أقوال الناس على قول الله ورسوله، وكانوا {َإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (المائدة: ١٠٤) . فاحذروا ذلك كل الحذر واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون. وفقنا الله لما فيه صلاح ديننا ودنيانا. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حامد الفقي ... ... ... ... ... ... من علماء الأزهر وإمام مسجد شركس