للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ما بين الإمامين في جزيرة العرب

من فضل الله على الأمة العربية وعلى العالم الإسلامي أن استقر أمر الحكم
في جزيرة العرب وتوطد لإمامين عاقلين تقيين، ومليكين مكينين قويين، قادرين
على حفظ الأمن، كل منهما في داخل بلاده، وعلى حفظها من العدوان الخارجي
عليها باتحادهما وتحالفهما، ومن ثم كان عقلاء المسلمين كافة، وعقلاء العرب
خاصة في أشد الحرص على إيجاد هذا الاتحاد والتحالف بينهما، وهذا ما سعى إليه
الكثيرون منهم، وكان كاتب هذا (صاحب المنار) بحمد الله وتوفيقه منهم بل أولهم،
وقد عارض هذا السعي الحميد سعي ذميم إلى إفساد ذات البين كان أشد نشاطًا،
ولكنه لم ينل منهما منالاً، وإنما كان العائق عن عزم الحلف وإبرام الميثاق اختلافًا
بينهما في بعض الصفات النفسية والأخلاق، فالإمام يحيى حميد الدين يغلب عليه
خلق المحافظة على القديم، وطول التروي في كل جديد، وإن كان جيدًا مفيدًا،
فسياسته سلبية في الغالب، ورث هذا الخلق إرثًا، ومرن عليه بما كان من مكافحته
كأسلافه للدولة التركية قتالاً دفاعيًّا، وسياسة سلبية لحفظ استقلالهم، وحكم الإمامة
في بلادهم.
وأما الملك عبد العزيز آل سعود فهو مجدد إيجابي السياسة والإدارة، كما يعلم
من تاريخه منذ كان ضيفًا في الكويت لاجئًا إلى شيخها إلى أن استعاد بعزمه وحزمه
إمارة آبائه المسلوبة إلى أن صار صاحب سلطنة واسعة يديرها بالتجديد المدني فقد
جدد في الحجاز في بعض سنين ما لم تفعله الدولة التركية، ولا بعضه في أربعة
قرون. ولهذا كان هو البادئ بدعوة الإمام يحيى إلى الاتحاد والحلف، وكان هذا
يرجئ ويسوف، وكل منهما يعتقد أن الخير له ولبلاده ولأمته ولملته في هذا الاتفاق
الحلفي، وهو على هذا عامل بمقتضى خلقه وشعوره، المختلفين بين إقدام وإحجام،
وإيجاب وسلب، حتى انتهى هذا إلى تعبئة الجيوش وتوقع إيقاد نار الحرب،
والعقلاء من جميع الشعوب والملل مجمعون على أن الاتفاق السلمي خير لكل منهما
من كل ما يتصور من الربح في نيل مراده، وأن الحلف الثابت المطمئن خير من
السلم المضطرب.
كثر تخبط الجرائد العربية في أسباب الاختلاف الذي أثار الخوف من الحرب
فحمل ذلك كل فريق على نشر بيان في الحقيقة التي يراها في جريدة العاصمة التي
هي لسان حاله، فرأيت أن أنشر كلا منهما ليبنى عليه الحكم العادل، ويحفظ
للتاريخ، وأبدأ بما نشره في جريدة (الإيمان) اليمانية، فإني أشم من مقالها عرف
المعارف الإمامية، وهذا نصها: من العدد ٨٥ الذي صدر في جمادى سنة ١٣٥٢.
] وَيُلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [[*]
لم يكن من دأبنا وقد علم كل من قرائنا ما لجريدتنا من الخطة والطريقة إظهار
الولع في تتبع هذيان المفترين، وهوس الكاذبين ومقابلته بالرد على صفحات هذه
الجريدة لأنا نعلم أن الحقائق من شأنها التغلب على الباطل، وسرعان ما انكشف كذب
الكاذبين فافتضحوا، وخسروا فيما افتروه فما ظفروا ولا ربحوا، قبل أن نعمل قلمًا
في رد، أو نتكلف لبيان تضليلهم برسم أو حد، ولو ذهبنا إلى عد ما جرى من هذا
القبيل لطال أمد التعداد، واستنفدنا كمية غير يسيرة من الوقت والمداد.
وفي هذه البرهة رأينا بعض الجرائد اندفعت لنقل الأخبار القصيرة عن
الوضعية في جزيرة العرب، فقلنا هذه شنشنة أخزمية لها حكم ما قبلها من ذهابها
في مدارج الرياح، وانكشاف كذبها مقرونًا بالإيضاح.
ولكن ما مرت الأسابيع حتى رأينا أحوال أولئك المخبرين والمفترين قد
تطورت إلى فصول طوال استغرقت أعمدة من الجرائد، واشتملت على كثير من
المكايد والغش والخداع للعرب خصوصًا، وللإسلام وللمسلمين عمومًا، وكل هذا
جاء مبنيًّا على ما تخيلته أدمغة أولئك من وجود توتر في العلائق بين جلالة مولانا
الإمام وجلالة الملك عبد العزيز بن سعود، وانتسج هذا الوهم بخيوط أن هنالك وفدًا
سعوديًّا عاد من اليمن إلى غير ذلك من التخيلات والاستنتاجات الفاسدة التي يكذبها
الواقع بأعظم دافع.
فلم نجد بدًّا من الدخول في ميادين الرد بقصد بيان الحقيقة وتنوير الأذهان لأنا
رأينا صدى تلك النشريات المفتراة أثرت على نفوس ذوي الغيرة حتى كان منهم
الناصح، ومنهم المتوجع، ومنهم المستغرب ظنًّا بأن تلك النشريات مع تكررها
وطول الأخذ والرد فيها لها نصيب من الصحة، وأقل من هذا كاف في إلجائنا إلى
الخروج من الخطة التي ألفناها واعتادها القراء منا.
لقد عجب واستغرب جدًّا كل سكان جزيرة العرب سواء كانوا في اليمن أو في
الحجاز أو في نجد ما يشيعه خَدَمَة الدرهم والدينار، وما يشوهون به وجه الحقيقة
الذي هو أجلى من شمس النهار، وما يخلقونه من زعم توتر العلاقات بين حضرة
مولانا الإمام أيده الله وبين حضرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود،
وأن في أنحاء الجزيرة ما يعد من مقدمات الحرب، والتأهب من الطرفين لاقتحام
مجال الطعن والضرب، وتصوير ما انطوت عليه تلك النفوس الشريرة من أن في
البين موقف عدوان، أو موقف دفاع ونسبة الرغبة في تحرج الحالة التي توهموها
واختلقوها إلى جلالة مولانا الإمام مد الله في عمره، ونسبة حضرة سمو المولى
العلامة سيف الإسلام أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله إلى أنه ذو تشوق لإضرام
نار الحرب بين الطرفين، كأنه من أعتام الأعلاج، أو من ذوي الزيغ والاعوجاج.
كل هذا محض الافتراء، وقد خاب من افترى، فلا توتر علاقات، ولا
احتشاد، ولا تأهب ولا غير ذلك مما هذى به المهوسون خدمة لأعداء الإسلام
وترويجًا لبضاعة تخذيلهم، فلم يحدث بين حضرة مولانا الإمام وبين حضرة الملك
عبد العزيز بن سعود ما يقدح زند العدوان، ولا ما يثير عجاجة تكهن هؤلاء الكهان،
ولم يجر سوى ما استمر من الجميل، وحسن الرعاية من الجانبين، والمراجعات
الودية بين الطرفين مستمرة، والأحوال كما هي عليه مستقرة.
وأنى يكون من مثل جلالة مولانا الإمام أيده الله سعي فيما يخالف صالح
المسلمين وهو -والمنة لله- أولى الناس برعاية الإسلام والمسلمين، وإقامة شريعة
سيد المرسلين، وهل يقبل ذو العقل السديد والرأي الرشيد أن يكون من جلالة
مولانا الإمام في الحال الحاضر ميل إلى إثارة فتنة تخالف صالح الإسلام والمسلمين،
وهو الذي لم يزل دوي الصراخ من أفراد شعبه يتردد في كل آن في مقامه
الشريف الإمامي بطلب الإنصاف في شهداء تنومة الذين يربو عددهم على ثلاثة
آلاف شهيد قتلوا ظلمًا وهم عُزَّل من السلاح، آمِّينَ بيت الله الحرام لأداء فريضة
الحج وركن الإسلام، وفيهم العلماء والفضلاء والأشراف فلم يكن من جلالته غير
إرشادهم إلى الصبر والترويح عليهم بالوعود الجميلة؛ لأن المصلحة العامة اقتضت
في رأي جلالته أن لا يكون الإلحاح على حضرة الملك عبد العزيز في إنجاز حكمه
في شأنهم بعد أن حكَّمَه مولانا الإمام عقيب الواقعة، وأجاب بكل إنصاف، ومرت
على ذلك طوال الأعوام والسنين.
وهو الذي رأى بعينه كيف تطورت الأحوال في قطعتي عسير وما إليها
والمخلاف السليماني، وكيف كان فصلها عن أمها اليمن، وهي منها جغرافية،
وسكانها من أهل اليمن نسبًا، ولم يقابل ذلك بغير المراجعة الودية، والصبر
الجميل.
وهو الذي سعى السعي الكامل للإصلاح في الفتنة التي نشبت بين السيد حسن
الإدريسي وبين حضرة الملك عبد العزيز فلم يقل: فرصة سانحة أو جاءت لما
عندي مزاجًا، وهو الذي له المواقف الحميدة، في كل حادث وقع بين متجاورين
من قبل أن تَعرف جزيرة العرب ما ولد لها من الوضعيات، وما تَكَيَّف لها من
التطورات.
أفمن كان هذا ماضيه وحاله يصح في مدارك العقول السلمية أن يكون مُريدًا
لتأجيج نار الهيجاء يا ذوي الحِجَى، وهل يصح أن ينسب إليه أنه ممن يبذر البوس
لتشتعل نيران حرب البسوس؟ كلا ثم ألف كلا، ولكن هنالك أصابع خفية،
وأهواء ردية، ونفوس شريرة، أرادت أن تنتزع من العدم اختلافًا، ومن صلاح
الأحوال في الجزيرة العربية اختلالاً، ومن تبادل الوداد بين جلالتي الملكين توترًا
في العلائق وانقطاعًا، فكان لتلك النفوس الشريرة ما أرادت من الاختلاق فحسب،
وأما الحقائق فهي على نقيض ما قالوا على طول الخط، والهوى يعمي ويصم.
وأما ما قالوه عن حضرة صاحب السمو الملكي المولى العلامة سيف الإسلام
أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله فذلك عين قول الزور، والإفك المعدود في وخيم
الفجور، فهو أعظم من تعقد على فضائل سداده الخناصر، وتستمد من إرشاداته
حقائق الصلاح السوافر، وإنما هو بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن
العلماء العاملين، الجامعين بين الرجاء فيهم للدنيا والدين، وهو أشد الناس رعاية
للصداقة بين جلالة والده مولانا أمير المؤمنين وبين حضرة الملك عبد العزيز، فكم
قابل وسائل ذوي الفتنة بالرد، ومنع المتحرشين أعظم منع جاوز الحد، وشهادة
الواقع لا تحتاج إلى برهان، وهي بمرأى ومسمع من بني الإنسان.
وإنا لنعجب أن كل ما نراه من الصيحة في الفلاة برغم أولئك المفترين لما
كان في وادي نجران من سعي في إصلاح جماعات تجاوز إضرارهم أسرهم
وإخوانهم إلى مجاوريهم، ولم يكن ضررهم بأقل من سفك الدماء، والتعرض
للسبيل، ودوام الغزو والغارات، وعدم الانقياد إلى شريعة الإسلام في شيء، ولم
يكن المراد منهم سوى ترك تلك العادات القبيحة التي ليس لها في عادات المسلمين
من نصيب، والإقبال إلى شريعة الله من بعيد منهم وقريب، وإذا كانوا يرون أن
ذلك هو العدوان فمتى كان نجران، وهو من اليمن وإلى اليمن إلى غيره يُنْسَب،
وفي غيره يُذْكَر، وإلى هذه الساعة لم ينصب فيه علم لأحد غير ذويه، ولا دان
بطاعة لا لحضرة الملك عبد العزيز ولا سواه، ومع ما ذكرناه فإنه دفعًا لتشويش
الأفكار، ومنعًا لتحرش الفجار، كان من مولانا الإمام قبل توجه الأجناد إلى تلك
البلاد الكتابة لحضرة الملك عبد العزيز عن ذلك الشأن فرجع جواب حضرة الملك
عبد العزيز حاويًا لكل إنصاف واعتراف فما هذا التضليل؟ يريدون أن يجعلوا من
الحادث الضئيل، ما يروع من التهويل.
وأعظم من هذا اندلاع لسان بعض المفترين بأن الوفد السعودي الذي بارحنا
قريبًا قوبل بغير التجلة والاحترام وكرم الوفادة، والإعظام في الاستقبال والإقامة
وفي العودة، وهذا محض الإفك الصريح، فألسن الوفد هي الحكم والشاهد في هذا
الشأن، لا ما يفتريه ذوو الهذيان.
ونعود إلى ما بدأنا به فنقول: لم يكن الحادي لنا إلى طروق هذا الموضوع
والنزول إلى ميدانه سوى بيان الحقيقة، فليكف المفترون أقوالهم المزورة،
وليستحيوا من جميع العالم فقد تعدد افتضاحهم مرة بعد مرة، وليخلعوا عن جسومهم
ثياب النفاق وليطهروا قلوبهم من الخبث والشقاق، وليعضوا أناملهم من الندم على
ما كان، فهم إلى التوبة أحوج من سواهم، أخذ الله بنواصينا إلى ما فيه رضاه،
ونزهنا من العد فيمن خسر دينه ودنياه، والله الهادي. اهـ بنصه.
ويليه بيان وجهة الحكومة العربية السعودية نقلاً عن جريدتها (أم القرى)
وهذا نصه:
بين الرياض وصنعاء
(من عدد أم القرى الذي صدر في أول رجب سنة ١٣٥٢)
انتشر في الآفاق خبر ما سمي خلافًا بين الرياض وصنعاء، ولم تشأ أن
تتعرض هذه الجريدة لأمر ذلك الخلاف، رجاء أن يحل الأمر بالتي هي أحسن؛
لما نعلمه من محبة جلالة الملك وسيادة الإمام يحيى للاتحاد والاتفاق، ولا نزال
نرجو كما يرجو سائر العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن ينتشر في
القريب العاجل خبر انتهاء ذلك الخلاف فيفرح المسلمون والعرب باتحادهم واتفاقهم
وجمع كلمتهم، وكنا نود السكوت إلى النهاية حتى ننشر الخبر الحاسم في الأمر،
لولا أننا اطلعنا على كتاب من سيادة الإمام يحيى أرسله لتحسين الفقير في دمشق
نشرته جريدة فلسطين يشير فيه سيادته للأمور التي هي موضوع الخلاف بين
البلدين، وقد سألنا عن بعض المصادر المطلعة عن حقيقة ما أشار إليه سيادته في
كتابه فأطلعنا على بعض المعلومات التي نوردها للرأي العام العربي والإسلامي
ليكون على بينة من الأمر.
(١) دافع سيادته عن (نجله العلامة سيف الإسلام أحمد بن أمير المؤمنين)
ونفََى عنه حبه لإضرام نار الحرب بين الجهتين، ونحن نثق أن نجل سيادته
وسيادته لا يحبون أن تشتعل نار الحرب بين البلدين؛ لأنه لا يقدم عليها طائعًا مَن
في قلبه ذرة من إيمان، أو مسكة من عقل؛ لأن الحرب معلوم نتائجها ومضارها.
(٢) ذكر سيادته أنه (لم يحدث بينه وبين جلالة الملك ما يقدح زند العدوان
وأنه لم يحدث إلا الجميل وحسن الرعاية من الطرفين) وهذا شيء نتمنى أن يدوم
وأن يصل الفريقان لحل المشكل، ولا يزال جلالة الملك على اتصال بَرْقِيٍّ مع
سيادته لإنهاء ذلك المشكل بالتي هي أحسن، ولا شك أن سيادته كما ذكر عن نفسه
أنه من أولى الناس برعاية الإسلام والمسلمين، وأحق الناس بمنع الإفساد والفتن
وإيقاد نار الشقاق بين المسلمين.
(٣) أشار سيادته إلى ما يسمعه (من شعبه السعيد مما يثير الحفيظة) عن
قتل من قتل من اليمانيين في الحادثة التي تسمى حادثة العصبة أو حادثة تنومه،
وأنه ما يزال يصبر شعبه (بحسن العبارات وألوان الاعتذارات) إلى آخر ما ذكره
سيادته في هذا الباب. ونرى بهذه المناسبة أن نبسط حقيقة هذه القضية ليكون
الناس على بينة منها:
إنه إلى حدوث حادث العصبة لم يكن بين جلالة الملك وبين سيادة الإمام يحيى
أي صلات من التعاقد والتعاهد، ولا هناك أي مخابرة في مسابلة أو مسير،
والحادث وقع قبل أي مكاتبة أو استئذان في مرور هؤلاء، وصادف أنه يوم
مرورهم كان عبد العزيز إبراهيم (أمير المدينة الحالي) أميرًا في أبها ومرت
العصبة في (خميس) وكان لا بد لهم في وصولهم إلى مكة من مرورهم في بني
شهر، وكان جماعة بني شهر وعلى رأسهم الشبيلي أغروا بتحريضات من الملك
حسين غفر الله له بقتال جلالة الملك والانتقاض عليه، وكان ابن إبراهيم أمير أبها
يعلم بوجود قوة من الإخوان مشتبكة بالقتال مع بني شهر في الطريق، وخاف أن
يحدث على العصبة حادث في طريقهم؛ لأنهم سيسيرون في المحل الذي يشتبك
القتال فيه فحذرهم ونصحهم بعدم التقدم في طريقهم ذلك، فرفضوا وأصروا على
المسير معتزين بقوتهم وجمعيتهم، وصدف أنه يوم وصلوا وادي تنومه الواقع بين
بني الأحمر وبني الأسمر كانت رحى القتال دائرة بشدة، وكانت الخيالة في أسفل
الوادي، والمشاة قد تسلقت الجبال لاحتلال الأماكن المنيعة فيها، فوصل الخبر
للخيالة أن جمعًا عظيمًا جاءكم من الوادي لقتالكم، فأرسلت الخيالة للمشاة بالعودة
من الجبال لقتال الذين أتوا مع الوادي، ورغمًا عن أن وصول مثل هذا العدد في
مثل تلك الساعة الرهيبة من ساعات الحرب يدعو للريبة ولعدم التساهل، فإن جند
الإخوان على ما به من شدة وغلظة وقسوة في الحروب أرسل خيالة تستطلع خبر
القادمين فأعلموهم أنهم العصبة وأنهم يريدون المرور، فأشاروا عليهم بالعودة فأبوا
وصمموا على المسير وقتال من يقاتلهم، ثم ساروا بهيئة حربية وحصل إطلاق
بعض العيارات النارية منهم للإرهاب والمرور.
فلم يكن من جند الإخوان في ذلك الموقف إلا أن قابل العدوان بأشد منه وكانت
المعركة المؤسفة التي قتل فيها من قتل، ثم عاد الإخوان فأتموا المعركة مع جند
الملك حسين، وهم يعتقدون أن هذه العصبة لم تقدم في تلك الساعة من اليمن إلا
نصرة للملك حسين، وتأييدًا للعصاة، ولم يتصل الخبر بجلالة الملك حتى تأسف
للحادث أي أسف، وكتب لسيادة الإمام يحيى كتابًا رقيقًا يظهر أسفه لذلك الحادث،
وأمر حالاً بجمع جميع ما وجد من متاع كان من تلك العصبة ورده إلى سيادة الإمام
يحيى، ولم يُخْلِ الإخوان من المسؤولية في ذلك رغم الشبه التي كانت لديهم في
قدوم العصبة في ذلك الوقت فجازاهم بعد ذلك بالجزاء الذي يستحقون.
هذا هو الحادث كما هو بغير زيادة أو نقصان، فهل يرى ذو الحجى والعقل
بأن على جلالة الملك أو على جنده تبعة شيء من ذلك الحادث بعد ما كان من نهي
أمير أبها لهم عن المسير، وبعد أن كان من الجند من منعهم عن التقدم وعصيانهم
للفريقين؟ ثم لم يكن من الإمام يحيى طلب سابق يطلب الرخصة لهم، فهل هناك
عرف دولي يقضي بمسؤولية حكومتنا في ذلك؟ إنا نترك الحكم في ذلك لعلماء
الإسلام كما نتركه لعلماء الحقوق من الباحثين.
(٤) ذكر سيادته أنه (قد علم من تحت أديم السماء ما كان من فصل قطعة
من اليمن الميمون عن أمها اليمن الخضراء مع علم كل ذوي العقول أن قطعتي
عسير وما يليها، وجيزان وما يليها من اليمن جغرافية ونسبًا) إلى آخر ما ذكر
سيادته في هذا الباب.
إن هذه القضية قضية اليمن لليمانيين، وكلمة الوحدة اليمانية، وأن عسير من
اليمن وجيزان من اليمن، وأكثر من هذا سمعناه قبل اليوم، وكنا نعرض عن
البحث فيه؛ لاعتقادنا أن هذه دعوى لا يتمسك بها ذو دين، ولا من يفهم معنى
القوميات في العصر الحاضر، كما أنه لا يوجد دليل ديني ولا تاريخي يعطي
لصنعاء ومن فيها حق التحكم في كل ما تدعي به من اليمن.
أما الدين فإن الإسلام قد آخى بين المسلمين ولم يسمح بجعل الفروق القبيلية
أساسًا للحكم والسلطان، وكل من اطلع على الحديث يرى الأحاديث الكثيرة في نفي
العصبية في الإسلام.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الأقوال في ذلك مما لم يرو
له صلى الله عليه وسلم لفظ مثله في نهي أو زجر حفظًا لجامعة الإسلام، فقد روى
صاحب مشكاة المصابيح في باب المفاخرة والعصبية عن أبي بن كعب قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه) إلى
آخره، رواه في شرح السنة، وقد شرح الحديث بما لا نرى في هذه العجالة مناسبة
لإيراد ما ذكره في ذلك الشرح، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يوم دخل
اليمن في الإسلام أرسل معاذًا رضي الله عنه من مكة ليعلم أهلها الإسلام فلم يجعل
صلى الله عليه وسلم لليمن قومية خاصة، ولا كيانًا خاصًّا، ولا مزية خاصة،
وإنما هي بلد من بلاد العرب دخلت في الإسلام فكانت جزءًا من أجزاء بلاد الإسلام
الذي لا فضل لعربي على عجمي فيه إلا بالتقوى، فكل دعوى في الإسلام إلى
العصبية باطلة ساقطة، الإسلام دين واحد، والمسلمون أمة واحدة، والعرب
بعضهم أكفاء لبعض إلا ظنينًا بولاء أو نسب.
ومما نذكره بهذه المناسبة مع شكر الله وحمده ما قام به جلالة الملك حفظه الله
تعالى في الجزيرة العربية من إبطال العصبيات القبيلية ومنع الغارات والشحناء بين
العرب في سائر ما امتد إليه حكمه في دياره، فقد كانت القبائل يتحامى بعضها على
بعض، كلٌّ يدعو قَبِيله ونفيره ويستعديه على أخيه، فدعاهم لتوحيد الله ونبذ ما
كانوا عليه من الشرك والضلال، فانقادوا لذلك طوعًا أو كرهًا، وجعل منهم أمة
واحدة لا تشعر بغير الشعور الإسلامي، ولا تعرف غير الإسلام مذهبًا دينيًّا
وسياسيًّا، ولا تتخلق بغير أخلاق العرب التي أقرها الإسلام، فالحمد لله على نعمه،
ونسأله المزيد من فضله وكرمه.
أما دعوى الوحدات الجزئية من الأمة الواحدة فقد انتشرت هذه الفكرة ويا
للأسف عن طريق مدارس التبشير المسيحية في مصر وسوريا ليفسدوا على
المسلمين عقائدهم الدينية، وعلى العرب جامعتهم العربية السياسية، فألقوا في
أذهان الأطفال ألفاظًا طربت لها آذانهم صغارًا، وأثرت في نفوسهم كبارًا، فظنوا
أن ذلك طريق العزة لهم والمنعة، وما علموا أن ذلك سبب لضعفهم وتفكيك
لأوصالهم، قالوا لهم نكاية بالترك والسوريين يومئذ: مصر للمصريين، ثم صاروا
يقولون: سوريا للسوريين، والعراق والحجاز للحجازيين ونجد للنجديين، واليمن
لليمانيين، ثم زادوا هذا الخرق اتساعًا في سوريا خاصة، فقالوا: فلسطين
للفلسطينيين والشام للشاميين، وحلب للحلبيين وبيروت للبيروتيين .... إلخ
وهكذا كانوا:
وتفرقوا شيعًا فكل قبيلة ... فيها أمير المؤمنين ومِنْبَر
متى ضعفت جامعتهم وتفككت أوصالهم ضاعت عزتهم، وفقدوا المهم من
شأنهم، وأصل هذا دعوة دعا إليها (مونرو) رئيس في الولايات المتحدة جعل هذا
شعارًا لأميركا فقال: (أميركا للأميركيين) منعًا لعدوان أوربا عن أميركا، ومثل
هذا اللفظ وإطلاقه على أميركا وسير أميركا عليه ليس منه إلا حفظ لشأن أميركا
وطرد لأوربا عنها، فأميركا دول متفرقة بينها، ولكنها إزاء أوربا والمجموعة
الدولية أمة واحدة وبلد واحد، أما في بلاد العرب فإن هذه الدعوى السخيفة التي
انتشرت فيها لم تنشر إلا من أهل السوء وأعداء العرب والإسلام، ولم يقصد منها
غير طعن العرب والإسلام في الصميم، وتفكيك أوصال الصلات بينهم، ومن كان
فيه مسكة من دين أو قليل من العلم بعلم الاجتماع وتكوين الأمم يربأ بنفسه عن مثل
هذه النغمة التي تناقض الدين وتنافي ما بنَى عليه علم الاجتماع قواعده في تكوين
الشعوب والأمم في العصر الحاضر، على أن هذا الباب طويل عريض لا يتسع
المجال لبسط الكلام فيه فنرجئه لفرصة أخرى ولمقام آخر، والمهم فيه الإشارة إلى
ما نرى من أمر الإسلام في مثل هذه الدعاوى المحلية والإشارة لأغراض المفسدين
في تفريق شمل الأمة العربية والأمة الإسلامية.
وإذا انتقلنا من هذا البحث إلى التاريخ القريب نجد أن هذه القطعة من البلاد
العربية والتي تسمى عسير منذ نشأة آل سعود الأولين كانت تابعة لهم وخاضعة
لحكمهم، وظلوا فيها إلى أن وقعت الحرب بين آل سعود والترك حيث كانت الغلبة
للترك، وكان آل عايض من أمراء آل سعود في تلك الأطراف، ثم نشأت بعد ذلك
سيادة آل حميد الدين في أعالي اليمن، كما نشأت سيادة الإدريسي في بعض جهات
تهامة، إلى أن حصل ما حصل في استرداد جلالة الملك لإمارة آل عايض ثم حماية
الأدارسة ثم نقض الإدريسي للعهد، ونكثه ثم إلحاق تهامة وعسير بالمملكة العربية
السعودية التي تدين بدين الإسلام، وتحيي مآثر العرب التي أقرها الإسلام، وتنفي
دعوة الجاهلية، ولو سئلت رأيها من قبلها في التقدم إلى هذا الأماكن لاختارت عدم
التقدم لها، ولكن بليت بكل ناحية من بلاد العرب بمن ينغص عليها السكون
والراحة، فتقدمت للدفاع فأعان الله حتى أعطى الله ما أعطى وهو المعطي وهو
المانع لا مرد لحكمه ولا معقب لأمره.
وليس هذا مجال شرح أسباب احتلال كل قطعة من قطع البلاد العربية لتبرير
موقف حكومتنا؛ لأن أكثر ذلك أصبح مشهورًا ومعروفًا عند أكثر المشتغلين
بالقضية العربية.
ومن هذا يتبين أن دعوى صنعاء بأنها أم اليمن، وأنها ينبغي أن تجمع اليمن
إليها، أمر ظهر من صنعاء في مواقف كثيرة، ولو أردنا أن نسمح لأنفسنا بالاسترسال
وبالتسليم جدلاً بدعوى الجاهلية لكان هناك مجال للقول بأن اليمن لليمانيين
ولا يَمُتُّ مَن في اليمن بنسب إلى قريش وقريش في الحجاز وأهل اليمن من اليمن
كما أن الأدارسة لم يأتوا لتهامة إلا من أفريقيا، وهم ينتسبون لقريش أيضًا. على
أن هذا مما نحمي لساننا عن قوله، ولا ندعو إليه وننتهي بنهي الرسول صلى الله
عليه وسلم عنه.
وسيادة الإمام يحيى سبق أن أعطى من في تهامة عهودًا ومواثيق ثم أوقع بهم
أي وقيعة، وننشر في عقب هذا المقال نص العهد الذي قطعه للزرانيق والقبائل
وذلك بتوسط والي اليمن الأسبق محمود نديم؛ ليعرف الناس حقيقة ما هو واقع في
تلك النواحي، والذي نعلمه أن جلالة الملك لم يسمع لمن في تلك الجهات نداء، ولا
أجاب لهم استصراخًا، رغم اختلافهم مع من في صنعاء في المذهب وذلك تفاديًا
وبعدًا عن الشحناء.
ولقد كان من العجب العجاب تلك الجموع المتتابعة التي لا تزال تتابع والتي
أرسلها سيادة الإمام يحيى إلى نجران وهم لم يجنوا ذنبًا ولم يقترفوا معه إثمًا فاحتل
ديارهم وحرق بيوتهم وقطع نخيلهم وشرَّد بهم وهم من العرب، ولا نعلم لهم ذنبًا
اللهم إلا أن يكونوا لأنهم ينتسبون إلى نجد، وأنهم عاهدوا جلالة الملك وبايعوه على
بيعة آبائهم وأجدادهم لآباء جلالته وأجداده كما نشرنا ذلك في حينه في أم القرى عدد
٣٨٨ بتاريخ ١٤ محرم سنة ١٣٥١.
ورغم هذا كله فالذي نعلمه أن جلالة الملك لا يزال يكرر مراجعة سيادة
الإمام يحيى لحل المشاكل المعلقة، ويعمل كل ما يستطيعه في سبيل السلم، ولنا
الأمل الكبير إن شاء الله تعالى أن تُكَلَّل المساعي بالنجاح فيسر العرب والمسلمون
بحفظ قواتهم وجمع كلمتهم.
وقد اتصلت بنا عدة وثائق عن الموقف الحاضر توقفنا عن نشرها رجاء أن
ينتهي الأمر إن شاء الله تعالى فلا تحوجنا الظروف لنشر شيء قد يوجب انتقاد
الناس لفريق من العرب مما لا نحب أن نسمعه إلا إذا أرغمنا عليه، فلا حول ولا
قوة إلا بالله. اهـ.
(المنار) هذا ما نشرته أم القرى من الرد على ما كتبه الإمام يحيى لتحسين
باشا الفقير القائد العسكري عنده الداعية له في سورية فنشره في بعض جرائدها،
وقد كتب في معناه وبلفظه كتبًا أخرى لأناس آخرين في سورية ومصر، والغرض
منها كلها إقامة الحجج أنه لا يريد قتال ملك العربية السعودية إلا أن يبدأه بالقتال
بغيًا وعدوانًا، إذًا لا يوجد ذنب ولا سبب يبيح له هذا القتال، ولكن في هذه
المكتوبات كلها أنه مهضوم الحقوق بسلب عسير منه، وأن لقومه ثأرًا على
النجديين لا يفتئون يطالبونه به، والذين لا يفتئون يطالبونه به، والذين ينتصرون
له على الملك عبد العزيز ينشرون هذه المكتوبات، ومنهم من شرح معانيها وكبرها
، ونوَّه بقوة الإمام وعظمها، وذلك كله من أسباب تفاقم الخلاف الذي حمل جريدة أم
القرى على هذا الرد الشديد اللهجة، بأسلوب دفع الشبهة وإقامة الحجة، ونشرت
بعده الملحق الذي أشارت إليه فيه.
ونحن قد كاتبنا كلا من الإمامين، بما نراه من إصلاح ذات البين وجاءنا من
كل منهما رجع مكتوباتنا، ولم ننشر شيئًا منها كعادتنا، وعلمنا أن الملك ينكر على
الإمام أمورًا لم ينشرها، بل جعلها موضوع المفاوضة الخاصة بينهما، ولكن حشد
الجيوش وحشرها على الحدود متصل من كل منهما، والملك عبد العزيز واسع
الصدر والحلم، صريح في حزم وعزم، إذا شرع في شيء لا ينثني عن إمضائه إلا
إذا ثناه القدر، وهو لا يطلب من الإمام يحيى إلا توقيع معاهدة صريحة تقر الحدود
وتضمن الحقوق بما يسد ذرائع العدوان، فلا يتكرر ما وقع في جبل عرو ووادي
نجران، فنسأل الله أن يصلح ذات بينهما بغير قتال، ويحسن العاقبة والمآل.
((يتبع بمقال تالٍ))