للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: صالح مخلص رضا


أهمية الإسلام

ما زال الأوربيون منذ ولوا وجوههم شطر العالم الإسلامي , واستبدلوا الخطة
السلمية بالخطة العدائية في استعمار البلاد الإسلامية يبحثون وينقبون عن الوسائل
الموصلة إلى مطلوبهم من أقرب الطرق , بحيث يأخذون البلاد بدون حرب على
طريقة الاستعمار أو الحماية، وأن أكثر دول أوربة رقيًّا أقلها اهتمامًا باسم السلطة
والألقاب الضخمة , فالإنكليز والفرنسيون مثلاً يرضون بأن تكون البلاد التي تكون
تحت سلطتهما استعماريًّا , أن تكون ذات ملك أو باي أو راجا أو سلطان وما أشبه ,
ولكن مثل روسية لا يرضيها إلا إزالة الشكل والصورة، ثم إن الأمم الحية كل آمال
أفرادها موجهة لمصلحة أممهم.
كل يسير من طريق والغاية الاستئثار بمصالح ومنافع الشرق واستعباد أهله
واستخدامهم، فخدمة غردون لإسماعيل باشا الخديوي الأسبق , وخدمة كثير من
ضباط الجيش البريطاني والألماني في الجيش العثماني وغيرها من الخدمات الإدارية
والحربية كلها لمصلحة أولئك الخَدَمة الصادقين أنفسهم ولأممهم، وكذلك النصائح
الحربية والإدارية التي توجه إلى أمراء الشرق وحكامه وقواده: مثل نصيحة سفير
ألمانية لحقي باشا بنقل الجيش من طرابلس الغرب إلى اليمن ونصيحة قنصل الإنكليز
في البصرة لواليها سليمان نظيف باشا بتأديب الشيخ خزعل صاحب المحمرة ,
وانتهاء ذلك التأديب بإعلان الحماية البريطانية على ذلك الشيخ وبلاده؛ كل هذا وما
سبقه ولحقه من النصائح الفرنسية التي كانت تلقى لباي تونس , والنصائح التي كان
الأوربيون يرشدون بها العرابيين , وكذلك ما كان يتلقاه مصطفى كامل باشا من
النصائح الأوربية؛ لتأييد المقاصد الوطنية المقدسة التي هو وأعقابه من أنصارها؛
كل هذه الإرشادات من آلات الفتح الاستعماري الجديد.
ثم إن العلماء الاجتماعيين لم يفتهم قسطهم من هذه الخدم لأممهم , فكتاب
(الإسلام) لمسيو هنري دي كاستري و (مدينة العرب) لغوستاف لوبون , وما
يكتبه وينشره العلماء الأوربيون في مدح الإسلام وتقريظه , وبيان منزلته وتأثيره
في نفوس المسلمين , والكلام في مسمى الجامعة الإسلامية , وغير ذلك مما يكون
معظمه - إن لم نقل جميعه - معاول لهدم الجامعة الإسلامية , وتنبيه دولهم إلى ما
بقي في الشرق من القوة الأدبية بعد أمنهم جانب حكوماتهم؛ لضعفها وانقلاب شكلها إلى ما يضعف تماسكها , ويضمن انحطاطها تدريجيًّا بسرعة دخول الأوربيين في جميع شئون الشرق , وانطلاق دعاة النصرانية يجوسون خلال الديار إلخ، ومن
ذلك ما نشره جوا كيم دي بولف في مجلة (دي هايف) الألمانية تحت
عنوان (أهمية الإسلام) , ولخصته عنها جريدة المؤيد الصادرة في ٣ ربيع
الأول سنة ١٣٣٠ وهو:
(يتبادر إلى الأذهان من جهات عديدة أنه سيأتي على الإسلام بعد قليل زمان
لا يَحسب فيه أحد للإسلام حسابًا , وأنه جدير بالدول الأوربية أن لا تعيره من الآن
فصاعدًا جانب الاهتمام , إذ لم يبق له فعلاً دولة سياسة دينية في الشرق وعلى وجه
خاص في أفريقية) .
(وتأييد مثل هذه الأفكار يشف عن تشاؤم وتفاؤل عظيمين يختلفان باختلاف
وجهة النظر , إلا أن هذا لا ينطبق على حقيقة الواقع؛ لأن المسلمين في العالم أكثر
عددًا من المسيحيين , وحركة التبشير عندهم أيسر من أعمال المبشرين المسيحيين
في البلاد الشرقية) .
(ولما كانت قواعد وأصول الدين الإسلامي تنطبق على الشكل الذي يبرز
فيه , فمن الممكن في كل وقت أن يتولد من الإسلام عامل سياسي ذو أهمية قصوى
وهذا لا يحتاج إلا إلى وجود رجل يعرف كيف يستميل هذه الجماهير , ويبث فيها
الحمية والحماس) .
(والموضوع الذي أخوض فيه الآن لا يتناول الإسلام من حيث أهميته
السياسية والدينية بل يقتصر على وجه خاص من هذه الأهمية - وقد ترك في زوايا
النسيان - إلا أن لهذا الوجه شأنًا عظيمًا خصوصًا في أعين أوربة , وهو عامل
جدير بالانتباه وهو يشمل الواجبات الصحية التي فرضها الإسلام , وقد امتاز القرآن
(الشريف) بالخوض فيها عن سائر الكتب السماوية.
لو تأملنا حكمة الواجبات الصحية في القرآن (الشريف) وما لها من
الأهمية الكبرى بجعل الجنة نصيبًا للذي يعمل بها لاتضح لنا أنه لولا الإسلام
لأصبح الشرق الذي هو بؤرة الأوبئة أكثر خطرًا على أوربة بكثير مما هو الآن
(؟ !) وتبين لنا أن مناوأة الإسلام ومناضلته هي بمثابة قطع فرع الشجرة الذي
يتخذه الإنسان متكأ وسندًا.
وأي حكمة أمتن وأظهر من فرض واجبات الوضوء وما يترتب عليها من
غسل الجسم من أعلى إلى أسفل وتنظيف الفم والوجه؟ والشرط الأكبر للقيام بهذه
الواجبات هو استعمال الماء الجاري [*] .
ولقد جرى النبي محمد على شاكلة موسى (عليهما الصلاة والسلام) فأدرك
خطر مرض (تريخنين) في الخنزير، والحمى التفوئية والهيضة الوبائية في
الحيوات المحارية (ذوات الأصداف) ولذلك نرى كيفية ذبح الحيوانات هامةً جدًّا
خصوصًا في الشرق؛ نظرًا للحرارة التي تفسد الدم , ووجود أمراض فتاكة منشأ
جراثيمها الأمراض الحيوانية.
ثم إن ماهية الحركات والتمرينات الجسمية في الصلوات كماهية التمرينات
الرياضية التي يهتم الناس بها في عصرنا هذا , والسجود ومد الذراعين والأعضاء
سبب من أسباب قلة السمن في الشرق.
وتعدد الزوجات خير واقٍ من قلة النسل ومن الأمراض التناسلية , وعلى
العموم لا يوجد في الشرق بنات مسنات معرضات للتشنج العصبي (الهستريا) .
وإن تحريم شرب المسكرات الذي أتبع به المراكشيون شرب الدخان حسنة من
حسنات الإسلام يجدر بنا - نحن الشعوب الأوربية التي تدعي المدنية - أن نحسد
المسلمين عليها.
وإن الازدراء بالحياة المبني على زيادة اليقين بالله والاهتمام بالصحة لا بقصد
المحافظة على الفرد هما الوسيلتان لبقاء مجموع قوى البنية صحيحًا سالمًا.
وإذا كان الشرق بقي متفوقًا في بعض الأمور ومقصرًا عنا في أمور كثيرة
فذلك ناشئ عن أسباب خصوصية أهمها: اختلاط الأجناس التي هي ضعيفة العلاقة
بالإسلام , وتأثير العناصر الأجنبية على الجامعة العربية بطريق التزوج من نساء
الأقطار الأخرى بدون انتخاب ولا تنقيح , إذ قضت سنة الطبيعة التي لا مبدل لها
أن يكون نقاء الجنس شرطًا في كماله.
وعلى كل فلقد ظهر نفع وقدر التعاليم الإسلامية خصوصًا من حيث اختلاط
الأجناس , وبما أنه لا يمكن إبادة شعوب الشرق بدون إبادة غيرهم , فإذا أردنا أن
نتساءل: ما يمكن أن يكون مصير هذه الشعوب من جراء تأثير الإسلام عليها؟
فأجدر من ذلك أن نتساءل أيضًا ماذا كان مصيرها لولا الإسلام؟
ولا يقتصر الأمر على هذه الشعوب , بل الأحرى بنا أن نتساءل ونعلم ماذا
كان مصيرنا لولا المدنية الإسلامية؟ إن واجب الاعتراف بالجميل يحتم علينا أن لا
ننسى كون علومنا ومعارفنا مقتبسة من العلوم والمعارف العربية , وأنه لم يتسنى لنا
معرفة فلسفة أرسطو إلا من النسخ اللاتينية التي ترجمها العرب إلى لغتهم قبل أن
نعثر على الأصل اليوناني بمدة طويلة.
وإذا تبادر إلى ذهن أحدنا في خلال القرون الوسطى ارتشاف لبان العلوم كان
يولِّي وجهه شطر الأندلس , ولا يزال إلى وقتنا الحاضر يمكن اقتباس أمور شتى
من العلوم السياسية الإسلامية , وليس من الضروري مقاومة الذين يحاولون مناوأة
الإسلام؛ لأنه يتعذر مناضلة الإسلام من حيث هو دين والبرهان على ذلك فشل
المبشرين الذين ارتادوا البلاد الإسلامية , ولم يصلوا إلى نتيجة حسنة , ثم إن هنالك
أسبابًا شديدة تجعل مناضلة الإسلام سيئة العاقبة بغض النظر عن فوائده من الوجهة
الصحية.
ولا يجب علينا ازدراء حركة الجامعة الإٍسلامية والإنكليز والفرنسيون واقفون
على حقيقتها , ويعرفون كيف ينتفعون منها وهاتان الأمتان والإيطاليون معهما قلبوا
للمسلمين ظهر المِجن وظهروا لهم بمظهر عدائي , بينما هؤلاء يعتبرون ألمانية
منفذة لهم) .
ثم اختتم الكاتب مقالته بإسدائه النصح إلى ألمانية بالمحافظة على هذا النفوذ
ولو لمصلحتها التجارية في الشرق وفي المستعمرات الألمانية الأفريقية التي يسود
فيها العنصر العربي , أهو المقصود من مقالته هذه خدمة الأمة الألمانية وتنبيهها لما
يسمى بالجامعة الإسلامية , فتأخذ قسطها من تراث العليل , وتحتفظ بما لديها من
الغنائم الباردة (المستعمرات) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح مخلص رضا