للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الملك فيصل بمصر

مر الملك فيصل بمصر في الخريف الماضي عائدًا من أوربة إلى العراق
واتفق لنا التلاقي مع جلالته بسعي الأخ إحسان بك الجابري الذي كان رئيس الأمناء
له في دمشق إذ كنت فيها؛ لاعتقاده أن تلاقينا قد يفضي إلى ما يفيد الأمة العربية ما
كنا سعينا له هنالك، ولم يتم أو أكثر منه، ذلك بأنه ذكر لي بعد زيارته له أنه
جرى ذكري في الحديث معه في اختلاف السوريين المشتغلين هنا بسياسة المسألة
السورية، وأن جلالته أثنى عليَّ بهذه المناسبة ونوَّه بما كان من احترامه إياي
وتقديمي والثناء عليَّ، وأنه لم يجر بيننا من التغاير ما يسوغ في نظره ما كان بعد
ذلك من طعني فيه، وذكر أنه مع ذلك لم يقل فيَّ كلمة سوء وما زال يقول كل خير.
وسألني إحسان بك هل لدي مانع يصدني عن لقائه بعد هذا العلم بشعوره
الشريف، وكلامه اللطيف، قلت: إن إخواني من هيئة إدارة جمعية الرابطة
الشرقية قد كتبوا إليَّ بأنهم قرروا أن يستقبل جلالته وفد منهم ودعوني إلى ذلك فلم
أذهب؛ لأنني لم أر من الذوق أن أقابله بادئ ذي بدء بعد أن كان ما كان من كلامي
في سياسته وسياسة والده وإخوته، ولو فعلت لكان ذلك مدعاة للقيل والقال، وسوء
التأويل.
قال: وما تقول إذا أبدى جلالته رغبة في هذا التلاقي؟ قلت: أقابل هذه
الرغبة بمثلها بل بخير منها؛ لأنني أسأت إليه ولم يسئ إليَّ، فهل يصح أن
يرضى هو وأظل أنا ساخطًا؟ إذًا أكون حكمت على نفسي باللؤم، وحكمت له
بأعلى مكارم الأخلاق، مهما أكن موقنًا بأنني كنت مصيبًا في انتقادي عليهم وخادمًا
لأمتي وملتي فيه وأنه كان واجبًا عليَّ.
ثم جاءني إحسان بك وأخبرني بأنه كلَّم جلالة فيصل في الموضوع فأظهر
حسن الرغبة في التلاقي، وقال: إنه لم يبق وقت فراغ للقاء الخاص إلا الليلة
المستقبلة، وكان ذلك مساء يوم الثلاثاء، وأن جلالته سيتعشى مع المندوب السامي
البريطاني ويعود إلى الفندق في منتصف الساعة الحادية عشرة ويكون مستعدًا
لمقابلتك، فإن لم يكن لديك مانع أخبرته، قلت: لا مانع وقد عاد جلالته في الموعد
وكان كل منا قد سبقه بدقائق قليلة فخلونا به في حجرة صغيرة من الحجرات التى
خصت به ومكثنا معه إلى نهاية الساعة الأولى بعد نصف الليل، وكنت أنا الذي
استأذنت بالانصراف خلافًا للمعتاد في لقاء الملوك معتذرًا عنه بأنه يريد السفر ظهر
غد فلا بد من ترك فرصة له للنوم، ولم يحضر مجلسنا أحد غير إحسان بك إلا
الأمير أمين أرسلان الذي كان حضر بمعيته من الإسكندرية.
بدأت الكلام معه بعد السلام والمصافحة بذكر وساطة إحسان بك الجابري وأنه
ذكرنا بعهدنا في التلاقي بدمشق، وذكرت له ما قلته له وقال هو مثل ما نقله لي
عنه إحسان أيضًا من استغرابه لطعني فيه مع ما كان بيننا من المودة وعدم صدور
شيء منه يكدرها، وكون اختلافي مع والده لا ينال منه شيء؛ لأنهما لم يكونا
متفقين في موضوعه، بل كان والده ساخطًا عليه وبقى خمس سنين لا يكتب له.
لا أستحسن أن أنقل من حديثه في هذا الخلاف إلا قوله: إنه بذل جهده لدى
والده في أمور منها ما كنا بدأنا بالسعي له في دمشق من الصلح بينه وبين ابن سعود
قال: إنه كان يعتقد أنه مهما يتساهل والده فيه يكن خيرًا له ولهم وللقضية ولا سيما
مسألة الحدود بين الحجاز ونجد وبين سبب ذلك بما علمت منه أنه كان يريد به
حصر ابن السعود مع قومه في دائرة نجد الفقيرة؛ لاعتقاده أنه لا يمكنهم الحياة فيها
فتذكرت أنني لما اتفقت معه على السعي لإقناع كل من والده وابن السعود بالصلح
والاتفاق وكتب كل منا كتابًا لابن السعود بذلك وكتب هو وحده لولده جاء في جواب
ابن السعود لي مع التصريح بالرغبة في الاتفاق بطاقة صغير بأنه هو يرغب في
ذلك ظاهرًا وباطنًا بخلاف شرفاء مكة الذين تنقض أفعالُهم أقوالَهم، وأما هو فلم
يستطع أن يحول والده عن رأيه فيه، ولكنه على كل حال والده يجب عليه تقبيل
يده والمحافظة على كرامته والأدب معه فيما وافق رأيه وفيما خالفه كما قال،
ووافقته على قوله هذا.
ولما ذكر جلالته أن موقفي معه كان غير موقفي مع والده وافقته أيضًا مع
الإشارة بلطف إلى أن سياسة أهل بيتهم في أساسها واحدة، وصرحت بأنني لم
أكتب شيئًا في ذلك كله إلا وأنا أعتقد أنه حق وواجب عليَّ لمصلحة ملتي وأمتي قال:
وأنا ووالدي نعتقد مثل ذلك، ولكن كل أحد يخطئ في اجتهاده ويصيب أفلست
أنت كذلك؟ قلت: بلى، وحاش لله أن أدعي العصمة، ولكني أرجع عن خطئي إذا
ظهر لي، وإنني قد صرحت في أول مقالة كتبتها في انتقاد سياستهم ونشرت في
جريدة الأهرام قبل المنار بأنه هو ووالده من قبله وأخوه الأمير عبد الله من قبلهما قد
عاملوني بمنتهى الاحترام والتكريم والآداب العالية، وإنني لم أنتقد أحدًا وأنا في
خجل من نفسي مما سبق من حسن لقائه وتكريمه غير أهل هذا البيت، ولكن
مصلحة الأمة فوق المجاملات الشخصية.
ثم ذكرت له أنني من عهد قريب ذكرت في المنار ما كان في دمشق من لطف
احتياله عليَّ لقبول شيء لائق من التكريم المادي منه؛ إذ ألح عليَّ بأن أستأجر دارًا
لأن طول الإقامة في الفندق غير لائقة بي وقال: عليك الدار وعلينا الفرش والأثاث
وأنني لما استأجرت الدار لم أخبر جلالته بها، وكتبت إلى نسيبي في طرابلس
فأحضر لي جميع الأثاث منها (قلت له) : إنني ذكرت هذا في ردي على الذين
زعموا أنني أخدم الآن ملك الحجاز ونجد لما بذل لي من المال وأنني فعلت ذلك
معكم من قبل، ليعلموا أنني لم أخدم أحدًا ولا أخدم أحدًا، إنما أخدم أمتي في كل
وقت بما أعتقد أنه الصواب والمصلحة وإنكم تعلمون ذلك كملك الحجاز ونجد،
ويعلمه كل من اطلع على كلامي.
ثم انتقلنا من بحث العتاب إلى البحث الأهم وهو بحث الأمة العربية ومستقبلها
وما يجب على ولاة أمورها وأهل الرأي والعمل فيها وهو الذي كنت أحاول
استخلاصه من لقائه لأعلم ما عسى أن يكون بقي من تأثير تلك الأيمان المغلظة
والعهود الموثقة التي أخذتها عليه جمعيته العربية، بل لأعلم ما يقول في المسألتين
العربية والإسلامية اللتين بينت له في دمشق القول الفصل فيهما، وقد صار ركنًا
في تنفيذ ما وافقني عليه يومئذ من ذلك ولا سيما الاتفاق مع عبد العزيز آل سعود
الذي بدأنا به في دمشق وقد علمت من فحوى الحديث أنه لا مجال لعمل شيء في
المسألتين على أنه ذكر في حديثه رأيه في ابن السعود وملكه، وليس من الأصول
أن أذكر ما سمعته ولا استنبطته من كلامه، ولكنني أجيز نشر كلمة صالحة من
كلامه في خصمه باعترافه الملك عبد العزيز بن سعود ومعاهدته الأخيرة مع
الإنكليز قال ملخصه: إن عبد العزبز زعيم كبير ذو مزايا نادرة تفتخر به الأمة
العربية فإنه عمل بكفايته الشخصية عملاً عظيمًا في زمن قصير، إنه وفق في هذه
المعاهدة توفيقًا عظيمًا، ثم لما ذكر رأيه في قومه وسياسته لهم وتعذر دوامها مع
فقرهم وصعوبة مراسهم، ذكر مسألة إغارة فيصل الدويش على العراق وقال: إنه
يعتقد أن هذا الاعتداء بدون إذنه ولا رضاه وأنه لا يبعد أن يسر بتمكن العراق من
كبح جماحه إن حصل، ثم جاءت الأنباء بما يؤيد هذا بعد وصوله إلى العراق بمدة
طويلة، لكن لم تلبث المصادر الشبيهة بالرسمية في الحجاز أن بينت أن حكومة
العراق هي المتحرشة بالنجديين وحكومتهم ببنائها سلسلة حصون على الحصون
خلافًا للمعاهدة بين الحكومتين المانعة من ذلك.