للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتاب نهج البلاغة

قد طبع هذا الكتاب الجليل، المستغني بشهرته عن التعريف، طبعة جديدة
مضبوطة بالشكل على نفقة الشيخ محمد سعيد الرافعي الكتبي وهي الطبعة الثالثة
بإذن شارحه الأستاذ الإمام وقد طبع في سوريا طبعة أخرى بغير حق. وتعدد الطبع
آية على معرفة الناس بقدر الكتاب. ولا نرى وسيلة لتعريف غير العارف به إلا
تزيين المنار بخطبة الشارح - حفظه الله تعالى - فإنها في أسلوبها ومعناها صورة
مصغرة للكتاب وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لله سيّاج النعم، والصلاة على النبي وفاء الذمم، واستمطار الرحمة على
آله الأولياء، وأصحابه الأصفياء، عرفان الجميل، وتذكار الدليل، وبعد: فقد
أوفى لي حكم القدر بالاطِّلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمل أصبته
على تغير حال، وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وغطلة من أعمال، فحسبته تسلية،
وحيلة للتخلية، فتصفحت بعض صفحاته، وتأملت جُملاً من عباراته، من مواضع
مختلفات، وموضوعات متفرقات، فكان يخيل لي في كل مقام أن حروبًا شبت،
وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة، وأن للأوهام عرامة [١]
وللريب دعارة، وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة، في عقود النظام،
وصفوف الانتظام، تنافح [٢] بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، وتمتلج المهج،
برواضع الحجج، فتفل [٣] من دعارة الوسواس، وتصيب مقاتل الخوانس، فما أنا
إلا والحق منتصر، والباطل منكسر، ومرج [٤] الشك في خمود، وهرج الريب في
ركود، وإن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب، أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب.
بل كنت كلما انتقلت من موضع منه إلى موضع أحس بتغير المشاهد،
وتحول المعاهد، فتارة كنت أجدني في عالم يعمره من المعاني أرواح عالية، في
حُلَل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب
الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوّم منها مرادها. وتنفر بها عن مداحض المزال،
إلى جوادّ الفضل والكمال.
وطورًا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، وأرواح
في أشباح النمور، ومخالب النسور، قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب،
فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها، واغتالت فاسد الأهواء،
وباطل الآراء.
وأحيانًا كنت أشهد أن عقلاً نورانيًّا، لا يشبه خلقًا جسدانيًّا، فُصل عن
الموكب الإلهي. واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به
إلى الملكوت الأعلى. ونما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمار جانب
التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس.
وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة، ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة،
يعرّفهم مواقع الصواب، ويبصرهم مواضع الارتياب، ويحذرهم مزالق
الاضطراب، ويرشدهم إلى دقائق السياسة. ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم
إلى منصات الرئاسة، ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير.
ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضِيّ رحمه الله من
كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، جمع متفرقه
وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة) ولا أعلم اسمًا بما تليق بالدلالة على معناه من هذا
الاسم، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه ولا أن آتي
بشيء في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار كما ستراه في مقدمة الكتاب.
ولولا أن غرائز الحيلة، وقواضي الذمة تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه
وشكر المحسن على إحسانه ما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج البلاغة من
فنون الفصاحة، وما خص به من وجوه البلاغة، خصوصًا وهو لم يترك غرضًا
من أغراض الكلام إلا أصابه، ولم يدَع للفكر ممرًّا إلا جابَهُ.
إلا أن عبارات الكتاب لبعد عهدها منا، وانقطاع أهل جيلنا عن أصل لساننا.
قد نجد فيها غرائب ألفاظ في غير وحشية، وجزالة تركيب في غير تعقيد، فربما
وقف فهم المطالع دون الوصول إلى مفهومات بعض المفردات أو مضمونات بعض
الجمل. وليس ذلك ضعفًا في اللفظ أو وهنًا في المعنى، وإنما هو قصور في ذهن
المتناول.
ومن ثَم همت بي الرغبة أن أصحب المطالعة بالمراجعة. والمشارفة
بالمكاشفة. وأعلق على بعض مفرداته شرحًا، وبعض جمله تفسيرًا، وشيء من
إشاراته تعيينًا. واقفًا عند حد الحاجة مما قصدت، موجزًا في البيان ما استطعت،
معتمدًا في ذلك على المشهور من كتب اللغة والمعروف من صحيح الأخبار، ولم
أتعرض لتعديل ما روي عن الإمام في مسألة الإمامة أو تجريحه؛ بل تركت
للمطالع الحكم فيه بعد الالتفات إلى أصول المذاهب المعلومة فيها، والأخبار
المأثورة الشاهدة عليها، غير أني لم أتحاشَ عن تفسير العبارة، وتوضيح الإشارة،
لا أريد في وجهي هذا إلا حفظ ما أذكر، وذكر ما أحفظ، تصونًا من النسيان،
وتحرزًا من الحيدان، ولم أطلب من وجه الكتاب إلا ما تعلق منه بسبك المعاني
العالية في العبارات الرفيعة في كل ضرب من ضروب الكلام وحسبي هذه الغاية
فيما أريد لنفسي ولمن يطلع عليه من أهل اللسان العربي.
وقد عني جماعة من أجلَّة العلماء بشرح الكتاب، وأطال كل منهم في بيان ما
انطوى عليه من الأسرار، وكُلٌّ يقصد تأييد مذهب، وتعضيد مشرب، غير أنه لم
يتيسر لي ولا واحد من شروحهم إلا شذرات وجدتها منقولة عنهم في بطون الكتب.
فإن وافقت أحدهم فيما رأى فذلك حكم الاتفاق وإن كنت خالفتهم فإلى صواب فيما
أظن. على أني لا أعد تعليقي هذا شرحًا في عداد الشروح. ولا أذكره كتابًا بين
الكتب. وإنما هو طراز لنهج البلاغة وعَلَمٌ تُوَشَّى به أطرافه.
وأرجو أن يكون فيما وضعت من وجيز البيان فائدة للشبان من أهل هذا
الزمان، فقد رأيتهم قيامًا على طريق الطلب، يتدافعون إلى نيل الأرب من لسان
العرب، يبتغون لأنفسهم سلائق عربية، وملكات لغوية، وكل يطلب لسانًا خاطبًا،
وقلمًا كاتبًا، لكنهم يتوخَّوْن وسائل ما يطلبون في مطالعة المقامات، وكتب
المراسلات. مما كتبه المولدون، أو قلدهم فيه المتأخرون، ولم يراعوا في تحريره
إلا رقة الكلمات، وتوافق الجناسات، وانسجام السجعات، وما يشبه ذلك من
المحسنات اللفظية، التي وسموها بالفنون البديعية، وإن كانت العبارات خلوًا من
المعاني الجليلة، أو فاقدة الأساليب الرفيعة.
على أن هذا النوع من الكلام بعض ما في اللسان العربي وليس كل ما فيه بل
هذا النوع إذا انفرد يعد من أدنى طبقات القول وليس في حلاه المنوطة بأواخر
ألفاظه ما يرفعه إلى درجة الوسط، فلو أنهم عدلوا إلى مدارسة ما جاء عن أهل
اللسان خصوصًا أهل الطبقة العليا منهم لأحرزوا من بغيتهم ما امتدت إليه أعناقهم،
واستعدت لقبوله أعراقهم، وليس في أهل هذه اللغة إلا قائل بأن كلام الإمام علي بن
أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه وأغزره مادة
وأرفعه أسلوبًا وأجمعه لجلائل المعاني، فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة والطامعين في
التدرج لمراقيها أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهم
معانيه في الأغراض التي جاءت لأجلها، وتأمل ألفاظه في المعاني التي صيغت
للدلالة عليها؛ ليصيبوا بذلك أفضل غاية، وينتهوا إلى خير نهاية.
وأسأل الله نجاح عملي وأعمالهم، وتحقيق أملي وآمالهم اهـ.
هذا، وقد جعل ثمن النسخة من هذه الطبعة المشكولة ١٥ قرشًا وهو يطلب
من طابعه.