(٢) رئيس الشرف للجماعة صاحب الدولة الأمير محمد علي باشا شقيق الجناب العالي الخديوي لما علم صاحب الدولة الأمير محمد علي باشا شقيق سمو الأمير المعظم بتأسيس هذه الجماعة سر سرورًا عظيمًا، لما حلاه الله تعالى به من الغيرة على الدين، والعلم بشدة حاجة الإسلام إليه؛ لخبرته الواسعة بأحوال المسلمين، واشتغاله بالمشروعات الإسلامية كالاكتتاب لتجديد بناء جامع عمرو بن العاص الذي هو أول مسجد للإسلام في هذا القطر، صلى فيه كثير من الصحابة رضوان الله عليهم، وما اطلع عليه من ذلك في سياحاته في الشرق الأدنى والأقصى، ولذلك تفضل بكتاب يظهر فيه ارتياحه للعمل وتبرعه له بمئة جنيه مصري. وقد قرر أعضاء مجلس إدارة الجماعة بإجماع الآراء اختيار دولته رئيس شرف للجماعة، والتشرف بزيارته في قصره؛ لعرض هذا القرار عليه وشكره على عنايته وفضله، وأنفذوا ذلك في ضحوة يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر، فقابلهم الأمير - حياه الله تعالى - بما عهد فيه من الطلاقة والحفاوة، وقبل رياسة الشرف للجماعة بالشكر والعناية، ونثر عليهم من درر الفوائد التي اقتبسها من رحلته في اليابان والصين، ما زادهم بصيرة في عملهم العظيم، فخرجوا مودعين من دولته أجمل وداع، وهم ما بين مثن وداع. إنه ليسر كل عاقل مخلص في هذه البلاد وكل محب لها ولخير أهلها أن يشارك الأمراء فيها سائر طبقات الأمة في الأعمال النافعة والمشروعات العامة؛ كالجمعيات الخيرية والعلمية والدينية وإنشاء المدارس؛ لأن هذا التعاون أرجى للنجاح وأقرب إلى الحكم الذاتي طريقًا، وقد سرنا أن كان صاحب الدولة الأمير حسين كامل باشا عم الجناب الخديوي رئيسًا للجمعية الخيرية الإسلامية، والأمير أحمد فؤاد باشا رئيسًا للجماعة المصرية، فلا بدع أن نزداد سرورًا أن صار الأمير محمد علي باشا رئيسًا للجامعة الدعوة والإرشاد، وندعو الله أن يوفقه دائمًا إلى خدمة العلم والدين، وترقية شؤون المسلمين. *** عضو الشرف الأول للجماعة (الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم) زار مصر في هذا الربيع الوجيه السري، الغني السخي، الكريم ابن الكريم، الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم، وآل إبراهيم هؤلاء أكبر تجار العرب وأجودهم ومحل تجارتهم في بمباي ثغر الهند العظيم. كان الشيخ قاسم علم بمشروع الدعوة والإرشاد وهو في الهند، فلما جاء القاهرة كان همه الأول فيها لقاء كاتب هذه السطور؛ لأجل مساعدة المشروع، فزرته في فندق شبرد فكان جل حديثنا في ذلك، وكاشفني برغبته في المساعدة، وقال لي: إن آمالنا في خدمة الإسلام معلقة بكم، فعليكم العمل وعلينا المساعدة بالمال، وسألني إلى أين انتهيتم في المشروع؟ قلت: لا يزال في طور التكوين، وقد وضعنا له النظام الأساسي، فكان كالنظام الذي وضعناه لجمعية العلم والإرشاد في الآستانة، وزدنا فيه ما يتعلق بالدعوة إلى الإسلام، وألفنا له مجلس إدارة من خيار المصريين، وقد أقروا هذا النظام بعد مراجعة ومناقشة وتحوير كما هي العادة، ولا يمكن أن نقبل التبرعات إلا بعد إصدار النظام الأساسي، وسيكون ذلك في يوم المولد النبوي الشريف. ولما رد لي الشيخ الزيارة في إدارة المنار، راجعني في مسألة تبرعه واشتراكه فيه، فسألته عن مقدار ما يحب أن يجود به، فاقترح أن يقول ذلك لي سرًّا حتى إنه لم يصرح به أمام كاتب سره المرافق له في سياحته وهو عبد الله أفندي البسام، وبيت البسام يلي بيت إبراهيم في تجار العرب الكرام. بحثت معه في سبب إخفاء ما يجود به وعدم الإذن في ذكر اسمه، فعلمت أنه الإخلاص وابتغاء المزيد من الثواب، فأقنعته بالدلائل بأن إظهار اسمه لا ينافي الإخلاص، وأنه قد يكون نافعًا من حيث يكون قدوة في الخير، وفرقت له بين الصدقة على الفقير والصدقة في المصالح العامة، فسكت ولم يظهر ارتياحًا، ثم حضر الاجتماع الذي عقده للدعوة إلى التبرع؛ لإنشاء مسجد للمسلمين في لندره عاصمة إنكلتره وهنالك دعت الحال لخطبة وجيزة في إظهار الصدقات وإخفائها ألقيتها هنالك وسيأتي ذكرها في باب الأخبار من هذا الجزء. فازداد الشيخ قاسم اقتناعًا، وبعد ذلك كاشفت إخواني أعضاء مجلس جماعة الدعوة والإرشاد باشتراكه وبتبرعه. *** (مقدار ما تبرع واشترك به الشيخ قاسم) ٢٠٠٠ جنيه إنكليزي تبرع ناجز ٠١٠٠ جنيه إنكليزي اشتراك سنوي بلغت إخواني أعضاء مجلس إدارة جماعة الدعوة والإرشاد ما تبرع واشترك به هذا المحسن العظيم، وكان له به فضيلة السبق والمسارعة إلى هذا الخير، فأجمعنا على عقد جلسة خاصة للمذاكرة في الشكر له، وأجمعنا في تلك الجلسة على تسمية (عضو الشرف الأول لجماعة الدعوة والإرشاد) ، وعلى أن يكون باسمه مكافأة سنوية توزع على تلاميذ (دار الدعوة والإرشاد) وعلى أن نبلغه ذلك في كتاب شكر نحمله إليه بأنفسنا، وأننا نذكر ذلك الكتاب بنصه: (كتاب جماعة الدعوة والإرشاد إلى الشيخ قاسم إبراهيم) (بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله الذي قدر فهدى، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وجعل إنفاق المال في سبيله، أول آيات صدق الإيمان به، فقال عز وجل: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: ١٥) والصلاة والسلام على إمام المصلحين، وخاتم النبيين والمرسلين، سيدنا محمد النبي العربي الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وأتم به النعمة وأكمل الدين، وعلى آله وأصحابه الذين نشروا دعوته، وأقاموا سنته، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين. من جماعة الدعوة والإرشاد بمصر، إلى السابق إلى الخيرات بإذن الله، المسارع إلى المغفرة ورضوان من الله، المساعد على إحياء الدعوة إلى الله، السخي الكريم، المحسن العظيم، الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم التاجر العربي في بمباي من الهند، ونزيل مصر الآن، زاده الله نعمة وتوفيقًا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد، فقد بلغ الجماعة وكيلها السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ما وفقكم الله تعالى له من التبرع لها بألفي جنيه ناجزة، والاشتراك فيها بمئة جنيه مسانهة، فاجتمع مجلس إدارتها اجتماعًا خاصًا للمذاكرة في كيفية الشكر لكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) . وقرر باتفاق الآراء تسميتكم (عضو الشرف الأول) في هذه الجماعة، وأن يجعل باسمكم مكافأة سنوية لطلاب مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) لتكون ذكرى دائمة؛ لسبقكم إلى المشاركة في تأسيس هذا العمل الذي يراد به خدمة العالم الإنساني، بنشر الدين الإسلامي، دين الفطرة والمدنية، الجامع بين أسباب السعادتين الدنيوية والأخروية، وقرر تبليغكم ذلك في كتاب شكر يوقع عليه أعضاء المجلس، ويحملونه إليكم بأنفسهم، وها هو ذا فتقبلوه محمودين مشكورين، ولا زلتم موفقين لما ينفع الناس ويرضي الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله. وكتب في القاهرة لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثلاث مئة وألف من هجرة الداعي إلى طريق الحق. *** عناية مولانا الأمير أيّده الله تعالى بالشيخ قاسم آل إبراهيم بلغ مولانا العزيز أيده الله تعالى أن هذا السري العربي، الكريم الغيور على الملة والدولة، قد زار مصر في هذه الأيام سائحًا، وأنه هو الذي أعطى وجمع المال الكثير لسكة الحجاز الحديدية وللأسطول العثماني، وأنه قد تبرع الآن لجماعة الدعوة والإرشاد بمبلغ كبير واشترك فيها، فارتاح سموه لذلك وسر به، وأجدر بسموه أن يرتاح لخدمة دينه القويم ونجاح المشروعات العلمية الخيرية في البلاد العثمانية وفي قطره السعيد، ومن أجدر من سموه بمعرفة قيمة كبار الرجال العاملين، وكرام الأجواد المحسنين؟ وقد أظهر الارتياح للقاء ضيف مصر الكريم، وعين الوقت لذلك فتشرف الشيخ قاسم بمقابلة سموه مقابلة خاصة في قصر القبة، وكان بصحبته كاتب هذه السطور، فمكثنا زهاء ثلثي ساعة في حضرته، لقي فيها ضيف مصر الكريم من حفاوة عزيزها العظيم وإقباله وعطفه، ما ملأ قلبه غبطة وسرورًا، وقد كرر له الأمير عبارات الشكر البليغة المؤثرة، ورغب إليه أن يبلغ سموه كل ما يريد من مساعدة، حتى قرأت في وجه الشيخ آيات تأثير كلام الأمير وتواضعه، وسأله عما رآه من آثار مصر، فعلم أنه لم ير القناطر الخيرية، فقال: إنني سآمر بإعداد باخرة من بواخر النيل الخديوية لكم، تركبونها إلى القناطر للنزهة ورؤية هذا العمل المصري العظيم الذي هو ركن من أركان ترقي الزراعة والثروة في هذه البلاد (وسموه حقيق بأن يفخر بهذه القناطر التي هي من أفضل ما عمل جده الأعلى؛ من أسباب عمران هذه القطر) ثم انصرف الشيخ من حضرة الأمير وهو يردد الدعاء والثناء. *** (الحفاوة بالشيخ قاسم آل إبراهيم) كان يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر موعد زيارة أعضاء مجلس (جماعة الدعوة والإرشاد) للشيخ قاسم، وموعد النزهة النيلية في الباخرة الخديوية، اجتمع إخواننا الأعضاء في إدارة المنار بعد الظهر، وكان كتاب الشكر الذي نشرنا نصه آنفًا قد كتب بخط جميل فوقعوه بأيديهم، وتخلف منهم محمد لبيب بك البتنوني فقط؛ لأنه كن منحرف الصحة. ثم قصدنا فندق شبرد، فلقينا الشيخ ينتظرنا في بهو الحجرات التي يقيم فيها من الفندق، فقدمت له أخانا الرئيس محمود بك سالم وهو عرفه بسائر الأعضاء، وتلا أحدنا كتاب الشكر وأعطاه للرئيس، وقدمه الرئيس للشيخ، ثم ذكرنا للشيخ قاسم أن هذا الوقت هو موعد النزهة النيلية التي أكرمه بها الأمير، وأنه أذن للشيخ أحمد زناتي أن يبلغ إخوانه أعضاء جماعة الدعوة والإرشاد أن يكونوا معه في هذه النزهة، فأجاب شاكرًا. ركبنا السيارات الكهربائية (الأتموبيلات) من أمام الفندق إلى ساحل روض الفرج، حيث كانت السفينة الخديوية راسية، فركبنا فيها باسم الله مجراها ومرساها، ولما توسطت المسافة بين روض الفرج والقناطر، نصبت مائدة الشاي وما يتبعه من اللبن وأنواع الحلوى والفطير والمثلوجات، فأصاب كل من الضيف الكريم والجماعة ما شاء منها. وأرست السفينة أصيل ذلك النهار الجميل عند حديقة منتزه القناطر، فخرجنا وطفنا بالضيف الكريم القناطر كلها، ودخلنا الدار التي فيها مثل ونماذج أعمال الري في القطر المصري، ثم عدنا إلى السفينة عند الغروب، فعادت بنا إلى ساحل البلد. وقد رغب الشيخ قاسم إلى الشيخ أحمد زناتي عند وداعه أن يبلغ الأمير شكره ودعاءه على هذه العناية به، ونحن أولى بالشكر والدعاء، فنسأل الله تعالى أن يديم التوفيق لأميرنا، وأن يحسن جزاء هذا المحسن إلى جماعتنا. *** الرابطتان الإسلامية والوطنية (وجماعة الدعوة والإرشاد) أتى على المسلمين حين من الدهر وهم أعلى أهل الأرض حياة، وأشدهم قوة ومنعة، وأكثرهم خيرًا ونائلاً، وأوسعهم كرمًا وفضلاً، ثم قضت سنن السكون أن يكون من بعد تلك القوة ضعف، كاد يكون موتًا زؤامًا، وقد دبت فيهم الآن حياة جديدة، تتنازع رابطة الإسلام فيها روابط أخرى كالجنسية الوطنية واللغوية. من آيات هذه الحياة الجديدة تبرع الشيخ قاسم إبراهيم بألفي جنيه لجماعة الدعوة والإرشاد، استكبر هذا السخاء كبراء المسلمين بمصر وغير مصر واستكثروه، استكبروا أن يعطي مسلم مالاً كثيرًا لخدمة دينه في بلد غير بلده، ووطن غير وطنه، لا يرجو به رتبة ولا وسامًا، ولا الزلفى من الملوك والأمراء، ولا الجاه والشهرة عند الدهماء، وقد طال عليهم العهد، ولم يسمعوا بمثل هذا العطاء. لو تأمل مسلمو هذه البلاد فيما بين أيديهم لرأوا من مدارس جمعيات الإفرنج الدينية ومستشفياتهم وجرائدهم ما ينفق عليه مئات الألوف من الجنيهات في كل عام؛ من تبرع الأسخياء الغيورين على دينهم، المجتهدين في نشره وتحويل الناس كلهم إليه وإدخالهم فيه، وهم يقرؤون في الصحف تبرعهم بالملايين لإحياء العلم والدين، فكيف يستكبرون أن يكون في المسلمين من له غيرة على دينه كغيرتهم، وحرص على نشره كحرصهم، أو ما يقرب منه؟ ولو نظر المسلمون إلى ما وراءهم لرأوا من آثار سلفهم وأوقافهم في أيام حياتهم الأولى ما يستصغر دونه كل كبير، ويعد ما يستكثرونه اليوم غير كثير، فإن معظم بلاد المسلمين وأرضهم قد وقفت على الخير، ولكن ضاعت وقفيات أكثرها فعادت ملكًا، وما حفظ منها ليس بقليل، ولكن ما سلم من تلك الأوقاف من اغتصاب الأهالي ضبطته الحكومات. ولو أن مجلس العثمانية أحصى الأوقاف، وأعاد إليها ما أكلته الحكومة منها وما تصرف به عبد الحميد وأعوانه، وفصلها من الحكومة وجعلها بأيدي الأمة بنظام يكفل وضع ريعها في مواضعه، وصرفه على المنافع العامة؛ كالتعليم والتربية وإصلاح شؤون الأمة لأغنى مسلمي المملكة العثمانية عن تبرعات المعاصرين الذين غلب على أكثرهم البخل إلا على شهواتهم. الشيخ قاسم إبراهيم رجل مسلم، أمته هي الأمة الإسلامية أينما وجدت وحيثما حلت، ولم يترب على بدعة الوطنية المفرقة التي يعد بها المسلم من أهل بلد دخيلاً بين المسلمين في بلد أخرى، ليس له عليهم حق الإخاء ولا المساواة، لم يترب على هذه البدعة التي فتن بها بعض المسلمين في هذه البلاد، ولهذا جاد لجماعة الدعوة والإرشاد مما جاد به، ووعد بأن يجمع لها أكثر من ذلك، فأين منه ذلك الرجل المفتون بنزعه الوطنية التي رجحت بها كفة القبط في مصر على كفة المسلمين؛ إذ قال: كيف نبذل المال لجمعية تربي الدعاة والمرشدين لأجل إحياء الإسلام ونشره في غير مصر! ! إن سرى هذا الشعور الوطني إلى جمهور المسلمين، فأنذرهم بطشة الله تعالى الانحلال والزوال، ونسأل الله تعالى أن يقي المسلمين شر هذا الشعور المتدفق على مثال هذا المغرور، وشر دعاة هذه الوطنية الخاطئة الكاذبة التي كانت من أكبر المصائب على المسلمين، على أنها لم ترض غيرهم من الوطنيين. إن سم هذه الوطنية لم يدخل بنية مسلمي جزيرة العرب، ولا مسلمي الهند؛ لذلك نرجو أن يتبرع كثير من أغنياء تلك البلاد لجماعة الدعوة والإرشاد، كما يتبرع الإنكليز والأمريكان والفرنسيس لجمعياتهم الدينية في الشرق الأدنى والشرق الأقصى، ولا يضر هذا العمل بخل المفتونين بالوطنية عليه، ولا تنفيرهم عنه. هذا، وإننا نرجو من سخاء مسلمي مصر ما لا نرجو مثله من غيرهم، فهذا العمل عملهم، لهم من شرفه وثوابه ما ليس لغيرهم، وهم من أوسع المسلمين ثروة وأبسطهم يدًا، والرابطة الإسلامية عند السواد الأعظم منهم أقوى من الرابطة الوطنية، ولا قيمة لأولئك الأفذاذ الشذاذ الذين يرون الوطنية والدين ضدان، ويرون أنه يجب أن تنسخ الوطنية آية الدين وتحل محله في ارتباط أفراد الأمة بعضهم ببعض، حتى لا يبقى له تأثير إلا في المعابد. هؤلاء الغلاة في الوطنية، لا يزالون قليلي العدد عندنا وأكثرهم لا يتجرأ على إبداء رأيه كله، بل يدهن للناس حتى يوهمهم أحيانًا أنه يغار على الدين ويؤيده، وأن وطنيته نافعة للمسلمين أو خاصة بهم، وأنه لا يريد بها إلا خدمتهم، وأنه يخادع الإفرنج وغيرهم بذلك، حتى لا ينسبوه إلى التعصب الديني. الإسلام والنفاق هما الضدان اللذان لا يجتمعان، فنحن لا نخادع ولا ندهن ولا نقول بهذه الوطنية الخاطئة الكاذبة التي تحل عرى الإسلام وتقطع أخوته العامة، وتحل محلها أخوة وطنية بين المسلمين وغيرهم. ولكنها أخوة نفاق وخداع يمقتها الدين، ويكون الغبن والخسار فيها على المسلمين، كما نشاهد في البلاد من ارتباط المسلمين بالقبط، وقد شرحنا القول فيه بمقالات خاصة. حاربت القبط الحزب الوطني ما لم تحارب غيره من الأحزاب، واتهمته بالتعصب الديني بما لم تتهم بمثله سائر المسلمين، فعلم من ذلك أن دعوة الوطنية بمصر قد أضعفت الأخوة الإسلامية، ولم تستبدل بها أخوة وطنية حقيقية. وقد جنت هذه الوطنية الخاطئة الكاذبة على الدين نفسه، لم تقف جنايتها عند حد رابطته الجنسية وأخوته العامة. ذلك بأن الفضيلة والكمال والمزايا التي يتفاضل بها أهلها، ويكونون من الزعماء والرؤساء ليست من فضائل الدين، ولا مما يعده الدين كمالاً، فيجوز في عرفها أن يكون الزعيم الذي يقود الأمة، وتبذل له أموالها، وتطلب منه حياتها فاسقًا عن أمر ربه، يخاصر في حله وترحاله الأخدان من المومسات الإفرنجيات، ويألف في كل مكان ينزل فيه المواخير ويهجر المساجد. حدثني بعض المصريين الذين التقوا ببعض زعماء الوطنية في الآستانة منذ سنتين؛ أن هذا الزعيم المليم كان يقول: إنه مل النساء الإفرنجيات، وإنه يريد أن يتمتع بالتركيات، ولا يدري كيف يصل إلى الفاسقات منهن، نعم.. ليس كل الذين يلهجون بالوطنية ويرفعون كلمتها مثل هذا الزعيم، ولكن الأمة التي يشرف فيها مثله، تكون أخلاقها وآدابها وعقائدها على شفا جرف هار، فإذا انهار بها، وقعت في الخزي والعار، ولها في الآخرة عذاب النار. غلاة الوطنية يمقتون الإصلاح الإسلامي وأهله؛ لأنهم يرون أن المسلمين إذا صلح شأنهم بدينهم لا يمكن أن يسود فيهم عباد الشهوات، ولذلك كانوا للأستاذ الإمام - رحمه الله - بالمرصاد، حتى إنهم حرضوا اليهود عليه عند تفسيره للآيات التي وبخهم الله تعالى بها في كتابه، فلا عجب إذا وجد فيهم من يقاوم مشروع الدعوة الإرشاد، وينفر الناس عنه بضروب من الكذب والإفك والزور والبهتان والعضيهة والغيبة والنميمة والمحل والسعاية، وأن يجعلوه - وهو أجل ما يخدم به الإسلام - آفة على الإسلام، فإنهم يعبرون بالإسلام عن وطنيتهم وشهواتهم وحظوظهم وأهوائهم. يا أهل الوطنية، لا تغلو في دينكم، ولا تقولوا على دعاة الدين غير الحق، اتركوا لنا خدمة ديننا نترك لكم ما أنتم عليه، إن إسلامنا الصحيح يعطي غير المسلمين في بلاد الإسلام من الحقوق ما لا تعطيه وطنيتكم التي جنت على الإسلام وعلى الوطن. ألم تروا أن غير المسلمين لم يعارضوا المشروعات الإسلامية ولا أهلها، ولكنكم كنتم أنتم المعارضين. فإن أبيتم إلا الطعن والمعارضة، فاعلموا أن وطنيتكم الباطلة لا بقاء لها إذا عارضها إسلامنا الحق، فإنما بقاء الباطل في نوم الحق عنه، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. لا أقول هذا بلسان جماعة الدعوة والإرشاد ولا بالوكالة عنهم، وإنما أقول قولي هذا باسم الإسلام، فكل من يقاوم الإسلام يقاومه أهل الاستمساك به والغيرة عليه. جماعة الدعوة الإرشاد بمعزل عن السياسة وأحزابها، تطلب التعاون من كل حزب، وتقبل المساعدة من كل أحد، وأبوابها مفتوحة لكل مسلم، وأبغض الأعمال إليها وشر السيئات في نظرها الخصام والتعادي والتخاذل والتخاصم؛ لأنها جماعة توحيد واعتصام، لا حزب تفريق وخصام، وقد وسعتها الحرية التي وسعت الجمعيات المسيحية والإسرائيلية، ووسعت كثيرًا من الخيرات والشرور في هذه البلاد، فلماذا ثقلت على قلوب أولئك المرجفين، وطفقوا ينفرون عنها حتى باسم الدين؟ لماذا لا ينفر ذلك المرجف المسلمين عن الصحف الدينية التي تطعن في دينهم وتشككهم فيه، وكثير منهم مشتركون فيها، ولماذا لا يرد عليها، ولا يرجف بالجمعيات التي تنشرها؟ ؟ وجملة القول: إن المسلمين يتنازعهم في البلاد التي دب إليها التفرنج عاملان من عوامل الارتقاء: عامل الإسلام الجامع لكل أسباب الارتقاء، وعامل الجنسيات الجديدة التي أحدثها التفرنج، ورأينا أن المسلمين لا يرتقون ولا يرتقي سائر أهل وطنهم إلا باتباعهم هم هدى الإسلام نفسه، وكم أقمنا على ذلك من البراهين، ونحن مستعدون لإثبات ذلك في كل حين. ((يتبع بمقال تالٍ))