للمكان الذي شُيد عليه المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة (تل موريا) منزلة دينية سامية من أقدم أزمنة التاريخ يقدسها المسلمون والمسيحيون واليهود حتى الوثنيون. ويظهر من شكل الساحة التي عليها قبة الصخرة أنها كانت في بداية الأمر بيدرًا لأحد اليبوسيين (سكان فلسطين الأقدمين) وقد بنى فوقها سيدنا داود عليه السلام بعد فتحه البلاد مذبحًا تقدم فيه القرابين لله تعالى. (هيكل سليمان) وفي سنة ١٠١٣ ق. م أمر سيدنا سليمان عليه السلام بإنشاء قصر له حيث المسجد الأقصى، وهيكل فخم حيث قبة الصخرة الشريفة، ولم يكمل البناء إلا بعد وفاته بمدة طويلة , وقد دمره الكلدانيون سنة ٥٨٨ ق. م. فحاول اليهود عقب عودتهم من الأسْر تجديده سنة ٥١٦ ق. م. فلم يصنعوا شيئًا مذكورًا. (هيكل هيرودس) وفي السنة العشرين قبل الميلاد شرع هيرودس الكبير بتشييد هيكل فخم وبرج عالٍ (أنطونية) في المكان نفسه فلم يوفق إلى إتمامه، وبقى إلى سنة ٧٠ ميلادية إذ دمره جنود الرومانيين حرقًا إبان محاصرة الإمبراطور طيطوس بيت المقدس واستيلائه عليها. (زون المشترى) وبنى الإمبراطور إدريان سنة١٣٠ م مدينة إيلياء وأمر بتشييد زون كبير للمشترى (إله الحرب) اثنا عشري الشكل Dodcceastile كالذي ترى على صورة بعض النقود القديمة فنصب فيه صنمًا للمشترى وآخر (لديوسقورس) أو صنمًا بتوأمين (كاستور وبلوكس) وأقام تمثالاً لنفسه بالقرب من الصخرة المباركة. (الحرم الشريف) وسنة ٦١٤ م اكتسح الفرس البلاد فخربوا بيت المقدس وقضوا على ما فيها من المعابد والكنائس، لكن جيوش المسلمين لم تلبث أن فتحت بيت المقدس سلمًا سنة ١٥ هجرية و٦٣٧ م بحضور الخليفة الثاني سيدنا عمر رضى الله عنه. فلما دخلها ذهب تَوًّا إلى مكان الحرم الشريف وأزال ما كان فيه من الأقذار، ولما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان وحيل بينه وبين الحرمين الشريفين لقيام خصمه عبد الله بن الزبير خليفة في الحجاز ولى وجهه شطر القبلة الأولى فأمر بإنشاء المسجد الأقصى وقبة الصخرة في بيت المقدس، ورصد لذلك خراج مصر سبع سنين، ووكل على العمارة أبا المقدم رجاء بن حيوة بن جود الكندي وكان من العلماء الأعلام، ويزيد بن سلام مولى عبد الملك من أهل بيت المقدس وولديه. ويقال: إن عبد الملك وصف ما يختاره من عمارة القبة وتكوينها للصناع فصنعوا له - وهو ببيت المقدس - القبة الصغيرة التي هي شرقي قبة الصخرة (قبة السلسلة) فأعجبه تكوينها وأمر ببنائها كهيئتها. وبقيت بعد الفراغ من عمارة الحرم مئة ألف دينار فأمر بها عبد الملك جائزة لرجاء ويزيد فكتبا إليه: (ونحن أولى أن نزيده من حُلِيِّ نسائنا فضلاً عن أموالنا فاصرفها في أحب الأشياء إليك) فكتب إليهما بأن تسبك وتفرغ على القبة فسكبت وأفرغت عليها فما كان أحد يقدر أن يتأملها مما عليها من الذهب، وهيئا لها جلالاً من لبود توضع من فوقها، فإذا كان الشتاء أُلبستها لتُكِنَّها من الأمطار والرياح والثلوج. وكان الفراغ من عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى في سنة ٧٢ من الهجرة، وقد قرن اسم عبد الملك بهذا الأثر الخالد منقوشًا بالفسيفساء عند مدخل الصخرة من الباب الجنوبي بعبارة هذا نصها: (بنى هذه القبة عبد الملك (لله الإمام المأمون) أمير المؤمنين في سنة اثنتين وسبعين، يقبل الله منه ورضي الله عنه، آمين) ويظهر من اختلاف الخط واللون فيما أشرنا إليه بين هلالين أنه من الإضافات التي حدثت بعد ذلك التاريخ. (الحرم الشريف في زمن العباسيين) وفي سنة ١٣٠ هـ سقط شرقي المسجد الأقصى وغربيه في الرجفة التي حصلت في خلافة أبي جعفر المنصور العباسي فخوطب بلزوم عمارته فأمر بقلع صفائح الذهب والفضة التي كانت على الأبواب فقلعت وضربت دنانير ودراهم وأنفقت عليه حتى فرغ. ثم حصل زلزال سنة ١٥٨ هجرية تهدم فيه البناء الذي كان أمر به أبو جعفر، فلما كانت خلافة المهدي أمر ببنائه فأنقص من طوله وزيد في عرضه. وذلك في سنة ١٦٩ هـ، وأخيرًا جددت عمارة قبة الصخرة في أيام المأمون (٢١٦ هـ) كما جاء في الكتابة المذهبة الواقعة على الباببن الشرقي والشمالي من الداخل. (الحرم الشريف في زمن الفاطميين) ثم جاءت زلزلة ثالثة سنة ٤٠٧ هـ. تهدمت من جرائها قبة الصخرة وبعض الجدران الواقعة في الشمال الشرقي من الساحة المحيطة بها، فقام الظاهر لإعزاز دين الله ابن الحاكم بأمر الله برفعها وتجديد عمارتها سنة ٤١٣ هـ على يد علي بن أحمد كما نقش على الأعمدة الواقعة داخل القبة. ومما زيد فيها في زمن الفاطميين البناء المسمى اليوم بجامع النساء. (الحرم الشريف في دولة بني أيوب) ولما احتل الصليبيون بيت المقدس حولوا قبة الصخرة إلى كنيسة، والمسجد الأقصى إلى منزل لسُكْنَى ملكهم وسموا ما تحت الأقصى من الأبنية بإصطبل سليمان وربطوا فيه الخيل، فجاء صلاح الدين الأيوبي وهدم ما أحدثوا من الأبنية والسواري وأعاد الحرم الشريف إلى ما كان عليه وذلك سنة ٥٨٣ هـ. وكان الملك العادل نور الدين الشهيد قد أعدَّ منبرًا عجيب الصنعة برسم القدس صنعه حميد بن ظافر الحلبي وسليمان بن معالي من خشب مُرَصَّعٌ بالعاج والآبنوس وعليه تاريخ يرجع إلى سنة ٥٦٤ هـ وقد أدركته المنية قبل الفتح فأحضره صلاح الدين من حلب وجعله في المسجد الأقصى وهو الموجود في عصرنا هذا. وأمر بترميم محراب الأقصى، وكتب عليه بالفصوص المذهبة ما نصه: (بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بتجديد هذا المحراب المقدس، وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مُؤَسَّسٌ، عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وهو يسأل الله إذاعة شكر هذه النعمة، وإجزال حظه من المغفرة والرحمة) . وفي سنة ٦٣٤ قام الملك المعظم عيسى ابن أخي صلاح الدين بعمارة (واجهة) المسجد الأقصى الشمالية والرواق الموجود في مدخله من تلك الجهة. وفي سنة ٦٦٨ هـ اعتنى السلطان الملك الظاهر بيبرس بعمارة المسجد ورمم صدع الصخرة الشريفة وجدَّد فصوصها التي على الرخام من الظاهر والتي على قبة السلسلة. وعمر السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي سنة ٦٨٦ سقف المسجد الأقصى من جهة القبلة مما يلي الغرب. وفي أيام السلطان الملك العادل كتبغا في سنة ٦٦٥ جدد عمل فصوص الصخرة الشريفة وعمارة السور الشرقي المطل على مقبرة باب الرحمة. وفي أيام السلطان الملك المنصور لاجين جددت عمارة محراب داود الذي بالسور القبلي عند مهد عيسى عليه السلام بالمسجد الأقصى. وعُنِيَ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إبان سلطنته الثالثة بعمارة السور القبلي الذي عند محراب داود عليه السلام ورخم صدر المسجد الأقصى وفتح به الشباكين اللذين عن يمين المحراب وشماله (٧٣١ هـ) وجدد تذهيب القبتين: قبة المسجد الأقصى وقبة الصخرة سنة ٧١٨ هـ. وعمر القناطر على الدرجتين الشماليتين بصحن الصخرة التي أحدهما مقابل (باب حطة) والأخرى مقابل باب الدويدارية، وعمّر باب القطانين بالبناء المحكم. وفي أيامه أيضًا عمّر الأمير تنكز الناصري نائب الشام البركة الرخام بين الأقصى والصخرة والرخام الذي في قبلة المسجد عند المحراب، وكذا الجانب الغربي سنة ٧٢٨ هـ. وفي أيام الملك الأشرف شعبان ابن الأمير حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون عمرت المنارة التي عند باب الأسباط بمباشرة (السيقي قطلو بغا) ناظر الحرمين الشريفين في ٧٦٩ هـ. وكذا تم تجديد الأبواب الخشب المركبة على الجامع الأقصى والقناطر التي على الدرجة الغربية صحن الصخرة المقابل لباب للناظر في (٧٧٨ هـ) . وفي سلطنة السلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق عمرت دكة المؤذنين التي بالصخرة تجاه المحراب إلى جانب المغيرة بمباشرة ناظر مين ونائب القدس الشريف الناصري محمد بن السبفى بهادر الظاهري ٧٨٩ هـ. وفي أيام الملك الظاهر أبي سعيد جقمق العلائي الظاهري احترق سقف الصخرة القبلي من جهة الغرب، من جانب القبة فأخمدت النار، وعمر السقف أحسن مما كان وفي سنة ٨٨٧ هـ. أمر السلطان الملك الأشرف أبي النصر بعمارة الدَّرَج الموصل إلى صحن الصخرة الشريفة تجاه باب السلسلة المجاور لقبة المدرسة النحوية، وفي سنة ٨٨٤ جدد رصاص قبة الأقصى ولم يكن من حيث الجودة والإتقان كالقديم. وفي سنة ٨٨٧ هـ أنشئ سبيل قايتباي المقابل لدرج الصخرة الغربي على بئر هناك، وكذلك الفسقيتان المجاورتان له. وقد تمت في الحرم الشريف عمارات متعددة في زمن سلاطين بني عثمان كزجاج شبابيك الصخرة العجيبة فإنه من آثار السلطان سليمان القانوني ٩٤٥ هـ كما تدل على ذلك الكتابات المرسومة على زجاج الطاقات. وكذلك القاشاني البديع المحيط بقية الصخرة من الخارج فإنه صنع في زمنه سنة ٩٦٩ هـ وهذا التاريخ مثبت في صدر محراب قبة السلسلة والنقوش والكتابات النفيسة، فإن قسمًا كبيرًا منها جُدِّد في أيام السلطان محمود سنة ١٢٣٣ وسنة ١٢٥٦ هـ وفي أيام السلطان عبد العزيز سنة ١٢٩١ هـ جدد رصاص الصخرة الخارجي وتذهيبها وحصلت عمارات طفيفة في زمن السلطان عبد الحميد كتجديد سبيل قايتباي وباب الصخرة الغربي وغير ذلك. انتهى.