للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كيف تنال الأمة حقوقها

إن للأمم حقوقًا طبيعية وشرعية، وإن حقوقها كحقوق الأفراد تغصب منها
وتغلب عليها، وإن الغاصب لها قد يكون واحدا منها أو واحدًا من غيرها وقد يكون
جماعة منها أو من غيرها، وأعني بالفرد الذي يغصب حق الأمة: الحاكم المستبد
المطلق، الذي يرجع إليه الأمر كله في سياستها، إن شاء عدل، وإن شاء ظلم،
وإن شاء أشرك غيره بالحكم، وإن شاء انفرد، وأعني بالجماعة: الحكومة المقيدة
كيفما كان شكلها ونوعها.
إذا ظلم الأفراد وغصبت حقوقهم يختصمون إلى الحكام، فإما أن ينصفوهم
وإما أن لا ينصفوهم، وأما الأمم فليس لها محاكم تختصم إليها؛ لأن حكامها هم
الذين يغصبون حقوقها، وماذا تفعل وخصمها هو الحكم، وكيف تنتصف منه إذا
جار وظلم؟ ومتى تسترد حقوقها منه إذا اعتز وغلب؟
لا تنال حقوق الأمم بنظم الأقيسة وترتيب المقدمات، وإقامة الحجج وإيراد
البينات، ولا بالرجاء والتعليل، ولا بالبكاء والعويل؛ لأن الغاصب لا يكون فاضلاً
عادلاً فيقنعه البرهان، ولا رؤوفًا رحيمًا فيؤتى من ناحية الوجدان، وإنما يكون فظًّا
غليظ القلب، لا يخضع إلا للقوة والبأس، فيعطي بالقوة كما يأخذ بالقوة.
كيف تصير الأمة المغلوبة على أمرها ذات قوة تسترد بها حقها، إذا كان
الحاكم واقفًا لها بالمرصاد، مانعًا إياها بقوته من إيجاد قوة لها؟ أنقول: إن اليأس من
قوة أمة هذه حالها أقوى من الرجاء فيها؟ أم نقول: يجب أن تثور على حكومتها ثورة
تشيب النواصي، وتزلزل الرواسي، وتجعل الرفيع وضيعًا، والذليل عزيزًا؟ أم
هنالك حيلة أخرى يكتفى منها بالقوة المعنوية، عن القوة المادية؟
هذه المعاني قد انتقلت من أوربا إلى الشرق، وكثر الحديث بها في هذا العصر
ولا سيما بعد الانقلاب العثماني والانقلاب الفارسي، وربما تكون قد جالت في
أدمغة زعماء الأرنؤوط الذين أوقدوا نار الفتنة في هذه الأيام، وكانوا عونًا على
الدولة وعلى أنفسهم، لأولئك الأعداء الذين أجمعوا كيدهم على إسقاط هذه الدولة بل
على محوها واقتسام تراثها بدون حرب طحون تسفك فيها دماؤهم، وتغتال بها
أموالهم، فهم إنما يحاربونها حربًا معنوية، يغرون عناصر أمتها بالعداوة والبغضاء
ويضربون بعض أعضائها ببعض حتى تقضي على نفسها قضاء وشيكًا أو بطيئًا.
يقول لسان حال هؤلاء الساسة أو لسان مقالهم للترك: إنكم أنتم الفاتحون
وأصحاب السيادة القادرون، ولا حياة لكم ولا شرف، بل لا بقاء لكم ولا وجود إلا
بتعصبكم لجنسكم، وجعل زمام الأمة في أيديكم، فإن هذا المزية إذا فاتتكم تكونون
وراء سائر العناصر المنسوبة إلى دولتكم؛ لأنهم أقدر منكم على الكسب، ولا
تقدرون أن تسبقوهم بالعلم، فاعتمدوا على هذه الكتائب قبل الكتب، فهي التي تحفظ
لكم السيادة على العجم والعرب.
ويقولون للعرب: إنكم العنصر الأكبر في هذه الدولة، ولكم الحق الأول في
السلطة والخلافة، وبلادكم قلب الأرض، وموطن الدين ومهبط الوحي، ولغتكم لغة
القرآن الذي يدين به فيتعبد بها ثلاث مائة مليون من الناس ولكم من السلف في
المدنية والعلم ما يدل على أن استعدادكم أعلي من استعداد الترك، بل ومن غير
الترك من شعوب الأرض، وهو قد خربوا بلادكم بعد عمرانها، وحالوا بينكم وبين
الاستفادة من كفاءتكم ومزاياها، وقد آن أوان طلب الحقوق، والمؤاخذة على العقوق.
ويقولون للأرنؤوط: إنكم شعب مجيد، وإنكم أولو قوة وأولو بأس شديد، وإنكم
أقوى من الترك استعدادًا للمدنية؛ لأنكم من الشعوب الأوربية، وبلادكم قابلة لذلك
إذا هي استقلت بالحكم، وألقت عن كاهلها أثقال سلطة الترك، فدونوا بلغتكم
الحروف اللاتينية، ولتتحد البلاد الشمالية بالجنوبية، وستنالون كل أمنية، بمساعدة
أوربا عاشقة الإنسانية.
ويقولون للأرمن: إنكم أذكى العثمانيين أذهانًا، وأطلقهم لسانًا، وأجرؤهم
جنانًا، وأقدرهم على الكسب والأعمال، وأسبقهم إلى الاتحاد على طلب الاستقلال،
وقد جمعتم من المال، وركبتم في عصر نيرون الترك ما ركبتم من الأهوال، حتى
اقتحمتم العقاب، وذللتم الصعاب، فلا تهنوا ولا تنوا في الأمر، ولا يصدنكم ما
تنالون من الدولة عن طلب الملك، وإن أوربا المسيحية، لزعيمة لكم بتحقيق هذه
الأمنية، فخذوا الأهبة وانتظروا الفرصة، وأعدوا لها الشعب كله، بتعليم المدارس،
ووعظ الكنائس، ووضع صور ملوككم، وصور يتامى وأرامل المقتولين منكم،
في بيوت عامتكم وخاصتكم، مع تحريك الأشجان، وإثارة الأضغان، بالأناشيد
والألحان.
ذلك ما يوسوس به شيطان السياسة الجنسية، في إغراء الشعوب العثمانية،
وما هو إلا كيد وخداع، جدير بالعصيان لا بالاتباع، وأما ملك الإلهام، الداعي إلى
الوفاق والسلام، فإنه يصبح بهؤلاء الأقوام: لا تستحبوا العمى على الهدى،
واستجيبوا لداعي العقل دون داعي الهوى، واعلموا أن تفرقكم وانقسامكم، وعداءكم
وخصامكم، وإلجاء الدولة إلى تفريق قوتها في بلادكم، لمقاومة فتنكم وثوراتكم،
هو الذي يحول دون ارتقائها وارتقائكم، ويفضي - والعياذ بالله - إلى هلاكها
وهلاككم، وإرث الدول الأوربية لأرضكم ودياركم، ووالله إنكم لتكونن حينئذ أبعد
عن الاستقلال، وأقرب إلى الخزي والنكال، إنكم تملكون اليوم في حجر هذه الدولة
جميع أسباب الارتقاء ولا تملكون غدًا في حجور أوربا إلا أسباب التدلي
والاستخذاء:
لا مرحبًا بغد ولا أهلاً به ... إن كان (تفريق العناصر) في غد
لا أقول: إن الدولة نفسها ترقيكم. بل أقول: إنه لا يرجى أن ترقيكم، لا لأنها
لا تريد، بل إنها إن أرادت لا تقدر، وإنما يجب عليكم أن ترقوا أنفسكم، وترقوها
بترقيتكم، فقد صار أمرها في أيديكم، نعم إن العنصر التركي هو الذي يدير اليوم أمر
الحكومة؛ لأن له الكثرة في مجلس الأمة، وإن منكم من يسيء الظن به، ويعده
غاصبًا لحق غيره ومانعًا له من الوصول إلى مطلبه، وإن هؤلاء ليكبرون الصغير،
ويغفلون عن الأمر العظيم.
الخطب سهل والأمر طبيعي ولا ضرر في كون الغلبة في الحكومة لعنصر
يرجح قومه على غيره من الأعمال، وإنما الضرر أن يكون أمر الحكومة في أيدي
العاجزين عن الإصلاح، وإن القادرين عليه من جميع العثمانيين لقليلون، وإننا
الآن في دور تجربة فندعهم يجربون، ولا يجوز لنا أن نتمادى في سوء الظن، ولا
أن نؤاخذهم على كل ذنب، فنجعل ما يقترفه الشخص ذنبًا للعنصر والشعب، بل
يجب على العقلاء المحبين للإصلاح العناية بأمرين أحدهما يتعلق بإصلاح الحكومة
والآخر يتعلق بإصلاح الأمة.
أما إصلاح الحكومة فله طريقان لا بد من الجمع بينهما؛ أحدهما: حسن اختيار
المبعوثين، وأعضاء المجالس العمومية. وثانيهما: مراقبة العقلاء وأصحاب الجرائد
للحكام والعمال في النظارات عامةً، ونظارة المعارف خاصةً، والانتقاد على
الظالمين والمفسدين منهم، والسعي في زلزالهم، ولا يتم شيء من ذلك إلا بالاجتماع
والتعاون.
وأما إصلاح الأمة فله طريقان أيضًا لا بد من الجمع بينهما، أحدهما: نشر
التعليم الأهلي مع التربية الصالحة، وثانيهما: الأعمال المالية التي تنمي ثروة البلاد،
ولا يتم شيء منهما إلا بالاجتماع والتعاون.
قد أشرت في مقالة (الاجتماع والتعاون) إلى شيء مما يتعلق بالتربية والتعليم
والاستعانة على ذلك بالأغنياء، وإنما قصدت بذلك تنبيه الأذهان، وتوجيه الهمم
وتحريك الأقلام، دون التفصيل والاستقصاء، وعسى أن أبين في مقال أو مقالات
أخر كيفية الاجتماع والتعاون على كل من إصلاح الحكومة وإصلاح الأمة بشيء
من التفصيل، وأحوج العثمانيين إلى ذلك العرب والترك والكرد والأرنؤوط، وأما
الأرمن والروم والبلغار واليهود فلهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، وطرق
معبدة هم فيها يهرعون، فلا يحتاجون إلينا، ولا إلى معرفة طرق تعليمنا وسعينا،
بل نحن المحتاجون إلى معرفة سعيهم، وطرق تربيتهم وتعليمهم.
إن الاجتماع والتعاون على ذينك الإصلاحين هو الأمر العظيم الذي غفل عنه
الذين يتحدثون ويكتبون في مسألة حقوق العناصر، هو القوة المعنوية التي تغني عن
الثورة، وتنال الأمة به من حقوقها ما لا ينال بالسيف والمدفع، مع أمن الخطر على
الدولة، التي يجب الاتفاق على حفظ كيانها، وتعزيزها ورفعة شأنها، قبل كل
سعي، ومع كل سعي، وبعد كل سعي.
يسمع في البلاد العربية قليل من الكلام، ويوجد في بلاد الأرنؤوط كثير من
السلاح، وكذلك في صحاري الجزيرة والعراق، ولا يصلح البلاد بهذا ولا ذاك، على
أن السلاح هنا وهناك لم يقتن للاستعانة به على الإصلاح، وإنما يقتنى ليكافح
ويدافع به الناس بعضهم بعضًا، وقد يَسُلُّونَهُ في وجه الحكومة إذا أحسوا بالظلم،
وكانت الحكومة ولا تزال بشؤم الماضي عاجزة عن تأمين تلك البلاد وحماية الأعزل
فيها من عدوان شاكي السلاح، وأما البلاد التي يشكى فيها من الحكومة ويطالب
بعض العناصر فيها بحقوقه فهي أشد البلاد إخلاصًا للدولة، وأبعدها عن الخروج
والفتنة.
أما العرب فقد خرج صوتهم من عاصمة الملك، ورددت صداه سوريا
ومصر، وهل يوجد أحد أعرف من العاصمة وسورية ومصر بقيمة الدولة وأغير
عليها وأحرص على عزتها ورفعة شأنها؟ كلا وإنما ذكرت هذه الجملة استدراكًا على
كل ما تقدم لأبين أن الباحثين في حقوق العرب أكثرهم في هذه البلاد، وإنهم أعرق
العثمانيين في الغيرة والإخلاص، على ما كان من سوء التفاهم بينهم وبين القابضين
على أزمة الأمور كما بينا ذلك بالتفصيل في مقالاتنا (العرب والترك) بحسب ما
أدانا إليه اجتهادنا إلى ذلك الوقت.
نحن نعتقد أن الإسلام قد حرم العصبية الجنسية، وجعل المسلمين إخوة على
اختلاف أجناسهم وعناصرهم، وكنا نعتقد أن أشد التعصبات الجنسية ضررًا على
المسلمين في هذا العصر تعصب العرب والترك للعربية والتركية، ولذلك سعينا هنا
(في الآستانة) جهد طاقتنا بالقول والكتابة، لسد هذه الثغرة التي فتحتها السياسة،
وقد قلت ولا أزل أقول: إن الإسلام قد أبعد العرب عن النعرة الجنسية حتى صاروا
أبعد الأمم عنها، وإنه لا يقدر أحد على إعادتها إليهم أو إعادتهم إليها اللهم إلا من
يتحاملون عليهم من الترك فهم وحدهم القادرون على هذا الأمر، وقد عجز عنه
الإفرنج إذ حاولوه من قبل.
إن سيرة ساسة الترك ومتولي أزمَّة أمورهم وكتَّاب أشهر جرائدهم هي سيرة
من يريد تحريك الجنسية العربية لا مفر من ذلك إلا بادعاء كونهم لا يعلمون ماذا
يعملون، فإذا تحقق هذا؛ فإن نهي مثلي عن نهوض العرب باسم العرب ما عاد له
فائدة، فما عليَّ إذًا إلا أن أذكرهم في جنسيتهم بأمرين لا مندوحة عنهما، ولا يمكن
أن يحل محل العرب سواهم فيهما: أحدهما: جعل أساس نهضتهم تعزيز الدولة
العلية. وثانيهما: أن يكونوا حلقة التعارف والاتصال بين جميع الشعوب الإسلامية،
فالأمر الأول يجب على المسلم وغير المسلم منهم؛ لأنهم العنصر الأكبر لهذه الدولة،
والأمر الثاني يجب على مسلميهم خاصة؛ لأنهم أولى بالإرشاد الإسلامي وأقدر
عليه من غيرهم، فحقوقهم أعظم، والواجبات عليهم أثقل، وأمامهم الصراط
المستقيم، فليتبعوه إن كانوا فاعلين، والله الموفق والمعين.