للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بهجت البيطار


تفسير المنار
تقريظه بمناسبة طبع الجزء الأول منه
للأستاذ العالم العامل، الأديب الخطيب الفاضل
الشيخ محمد بهجة البيطار الدمشقي
سليل بيت البيطار الشهير بالعلم، وهو الآن مدير المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: ٥٣) .
طلع علينا الجزء الأول من تفسير عالم الإسلام الشهير، الأستاذ السيد محمد
رشيد رضا منشىء المنار المنير، وفي النفس شوق إلى رؤيته يعجز اللسان عن
بيانه، وفي عصرنا الحاضر حاجة إلى ظهوره يقصر القلم عن وصفها، يعرف
قيمة المنار وتفسير المنار من عرف مطالب هذا الزمن المنوعة، ومشاكل المسلمين
الكثيرة، التي أوقعتهم في بحران من الاضطراب العظيم، وسلكت بهم في سبيل
النجاة منه طرائق قددًا.
نهض السيد الجليل بذلك العبء الثقيل، وأخذ يحل عقد المنازع الدينية
الدنيوية المتجددة المعقدة، ويبين لأمته وجه الحق فيها، وطريق الخلاص منها،
مستهديًا بهدي السنة والتنزيل، وهما خير هاد ودليل، مسترشدًا بسنن الوجود التى
لا تبديل فيها ولا تحويل، وإليك أهم ما انفرد به المنار وتفسيره عن غيره، وجعله
وحيدًا في نوعه:
(١) تصديه لملاحدة العصر الداعين إلى استباحة الأبضاع، الساعين في
تقويض دعائم العمران، وقلب سنن الاجتماع، ونظام الاشتراع، وفي صحفهم
المنشرة المشتهرة، فهذا التفسير يكشف عن مخازيهم وإفكهم، ويرد سهامهم
الخاسرة في نحورهم.
(٢) مقاومته لمهاجمة دعاة التثليث في كتبهم التي لا تنضب مادتها، ولا
يحصى عددها، وما أشد مزاعمهم في الإسلام ومفترياتهم عليه، وحسبك أنه لا تمر
به شبهة منهم إلا ويأتي عليها نقضًا وإبطالاً.
(٣) فتاويه التى تبحث في أدق المسائل الإسلامية، وتحل أعقد المشاكل
الدينية الاجتماعية حلاًّ يفي بحاجة العصر، ويتمشى مع قواعد النصوص الشاملة،
والمصلحة العامة الراجحة، وعالم الإسلام -أيده الله تعالى بروح منه- يذكرنا بما
يلقى إليه من الأسئلة المشكلة من أطراف المعمور، وبما يجيب به عنها بأسلوبه
الحكيم، الصادر عن علمه الراسخ بشيخ الإسلام ومفتي الأنام الإمام ابن تيمية
رضي الله عنه في ذلك كله، على أن مشاكل عصرنا أكثر، وطرق حلها أصعب.
(٤) دعوته إلى التوحيد الخالص، ومذهب السلف الصالح، وتحذيره من
شوائب الشرك والبدع والشكوك، والافتتان بدعاء المخلوق، ومقارعته القبوريين
الذين يغرون الناس بالتهافت على أضرحة الصالحين، وإنزال حوائجهم وطلباتهم
بهم، وتذكيره علماء الأمة ونصحه لهم بأن يرشدوا العامة إلى كل ما هو أهدى
سبيلاً، وأقوى دليلاً، وأجمع لمصالحهم في الآخرة والأولى.
(٥) أنه يثبت أن جميع ما استحدث في هذا العصر من السيارات
والطيارات والغواصات والكهرباء وسائر المخترعات التي تحفظ بها مصالح الأمة
وتحمي حوزتها وتدفع عوادي الشر عنها، وتجعلها قوية البأس، موفورة الكرامة،
هو مقتضى دين الإسلام، ومن تعاليم السنة والقرآن، وأن المسلمين الذين هداهم
الله تعالى في كتابه إلى علوم الأكوان، وسخر لهم ما في السموات وما في الأرض
تسخير تمكين هم أولى بالمسابقة بل السبق في هذا المضمار، (وها هي ذي
الحكومات الإسلامية لا سيما الحكومة السعودية الحجازية النجدية التى تعد أرسخها
تدينًا ومحافظة على هدي السلف قد أخذ جلالة ملكها المعظم يستعمل في مملكته من
وسائل النقل الحديثة ما قرب البعيد، وأدخل البلاد في طور جديد) ألا وإن عمل
خير أمة أخرجت للناس في خير القرون وأفضلها بشهادة الله ورسوله هو حجة
عملية مبطلة لمزاعم الفريق الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وصرح غلاتهم
بمروقهم من الإسلام فرارًا من ضعف المسلمين واستكانتهم! كأن الإسلام هو الذي
أورثهم هذا الحرمان! {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ
نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف: ١٠٥) نعوذ بالله من الخذلان.
وهو أيضًا حجة على بعض المستذلين المستضعفين من المسلمين الذين مزقهم
الغرب بآلاته الفاتكة المدمرة التي يعادون تعلم صنعتها كل ممزق، ويقولون هي
كلها من علوم الإفرنج، وما هي كلها من علوم الإفرنج، ولكنها من علوم المسلمين
الأولين الذين عملوا بما هداهم إليه كتابهم، فأخذها الأفرنج عنهم، وزادوا فيها
وأضافوا إليها عجائب أخرى، كما عمل سلفنا فيما نقلوه من حضارة من تقدمهم،
وكما هو شأن المتأخر مع من تقدمه، فمن حاجَّنا في ذلك حاججناه بالكتاب والسنة،
وما كان عليه سلف هذه الأمة.
إذًا أليس من الخزي والعار أن يصرح بعض غلاة التفرنج بمفارقة الإسلام
افتتانًا بزخارف مدنية قد أوجب الله عليهم الأخذ بمنافعها من قبل، وعدَّ الإسلام
بعض أعمالها من الفروض، وبعضها من المندوب إلخ، وعمل بها السلف الصالح؟
كلا إنهم جمعوا بين محاسنها ورذائلها معللين ذلك بأن المدنية الغربية لا تتجزأ!
وأنهم من أجل ذلك تركوا دينهم وفضائله! فهل سمعت في الدنيا بعذر أبشع من هذا؟
أوليس من المؤسف المخجل أن يحرم آخرون ممن غزاهم الأجنبي في عقر دارهم
على أنفسهم، وعلى أمتهم ما أوجب الله عليهم وعلى أمتهم تعلمه والعمل به صونًا
لهم عن الوقوع فيما وقعوا فيه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ومنهم من
ينتظر ظهور المهدي ليقيم الإسلام وينجيهم مما هم فيه، وقد فاتهم أنه إذا ظهر كان
جهاده فيمن يعطل أحكام الشريعة.
(٦) أنه يضيف إلى وجوه إعجاز القرآن، ومعجزات النبي صلى الله عليه
وسلم التى ذكرها سلفنا وجوهًا أخرى لم تكن معروفة من قبل، وانكشفت الآن لدى
المحققين الباحثين في خواص الكون، وتاريخ البشر وسنة الله في الخلق، وقد
حققها القرآن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه قبلهم بثلاثة عشر
قرنًا، ككون الرياح تلقح الأشجار والثمار، وكون السموات والأرض كانتا مادة
واحدة، وكجعل كل شىء حي من الماء، وجعل النبات مؤلفًا من زوجين اثنين،
والريح هي التى تنقل مادة اللقاح من الذكر إلى الأنثى (راجع تفصيلها من ص
٢١٠ ج ١) .
قال السيد المفسر: وفي هذا المعنى عدة آيات أعمها وأغربها وأعجبها قوله
تعالى: {سبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ
يَعْلَمُونَ} (يس: ٣٦) .
ومنه (أي مما حققه القرآن من المسائل العلمية) قوله تعالى: {وَالأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (الحجر: ١٩) إن
هذه الآية هي أكبر مثار للعجب بهذا التعبير (موزون) فإن علماء الكون
الأخصائيين في علوم الكيمياء والنبات قد أثبتوا أن العناصر التي يتكون منها النبات
مؤلفة من مقادير معينة في كل نوع من أنواعه بدقة غريبة لا يمكن ضبطها إلا بأدق
الموازين المقدرة من أعشار الغرام والملليغرام، وكذلك نسبة بعضها إلى بعض في
كل نبات، أعني أن التعبير بلفظ (كل) المضاف إلى لفظ (شىء) الذي هو أعم
الألفاظ العربية الموصوف بالموزون هو تحقيق لمسائل علمية فنية لم يكن شيء
منها يخطر ببال بشر قبل هذا العصر، ولا يمكن بيان معناها بالتفصيل إلا
بتصنيف مستقل) (ج١ ص٢١١ تفسير) .
(٧) قال الأستاذ: ومما امتاز به هذا التفسير على جميع كتب التفسير:
بيان سنن الله في الكائنات، وسنته في سير الاجتماع البشري، كقوة الأمم وضعفها،
وسعادتها وشقائها، وعزها وذلها، وسيادتها لنفسها ولغيرها، وسيادة غيرها
عليها واستعبادها إياها، مع تطبيق ذلك على المسلمين في ماضيهم وحاضرهم،
المخرج لهم من ضعفهم الحاضر.
(٨) بيان موافقة تعاليم القرآن وهدايته لمصالح البشر في كل زمان ومكان
وأن شقاء البشر الحاضر العام لأمم الحضارة، وما فيها من فوضى الآداب
والاجتماع لا يزول إلا باتباع هدايته.
أقول: ما أشار إليه الأستاذ من الشقاء الحاضر وفوضى الآداب والاجتماع في
أمم الغرب المتمدينة، تقابله الطمأنينة على الأنفس والأعراض والأموال في جزيرة
العرب المتدينة، وأين هذا من ذاك؟ أين تأثير قوة الإسلام على الوجدان من تأثير
قوة السلاح على الأبدان؟
الإسلام دين عام لجميع الشعوب والأقوام، والقرآن هو الذي هدى من دانوا
به من الأمم إلى كل ما تمتعوا به من صنوف النعم، ولقد كثَّر الله به أهله بعد قلة،
وأعزهم بعد ذلة، وقوَّاهم بعد ضعف، وأظهر على أيديهم تلك المدنية الزاهرة،
التي جددت ما اندرس من المدنيات الغابرة، وأوجدت أصول مخترعات الأمم
المعاصرة.
(٩) بيان أن القرآن الحكيم هو الذي هدى السلف إلى الجمع بين مطالب
الروح والجسد، فهم بعد أن سمت عقولهم بالتوحيد، وزكت نفوسهم بضروب
الأخلاق والعبادات، عنوا أشد العناية بالعلوم والفنون النافعة التي عدها الإسلام من
الفروض كفنون الرياضيات وسنن الكائنات، وإن شئت قلت علم الأرض
والسموات، عملا بقوله جل اسمه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: ٢٩) وقوله عز قائلاً: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: ١٠١) وقوله سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: ١٣) فهذه الآيات الكريمة وأمثالها هي التي أرشدت سلفنا
الصالح إلى ما في السموات من أسرار ومنافع، وما في الأرض من كنوز وذخائر،
فارتقت عقولهم وأفكارهم بالعلوم الإلهية، والفنون الصناعية، ارتقاء سادوا به
الأرض، وساسوا به العالم، سياسة هي في نظر المطلعين على تاريخ الأمم القديمة
والحديثة أفضل مثال للعدل والرحمة.
(١٠) تطبيق ما في القرآن من المواعظ والعبر على حال أهل هذا العصر،
والإتيان بالشواهد والأمثال على ذلك، وبيان الفرق بين ماضي المسلمين
وحاضرهم، وحجة القرآن عليهم، ووصف المَخْرَج لهم من جحر الضب الذي
سلكوه باتباع سنن من قبلهم من أهل الكتاب وغيرهم.
وبعدُ فإن تفسير المنار للقرآن، الذي جرى فيه على طريقة شيخه الأستاذ
الإمام غني بشهرته عن الوصف والبيان، فهو كسائر ما يخطه قلم السيد في مجلته
وغيرها منذ أكثر من ثلاثين عامًا تحقيقًا وإبداعًا، ألا وإن خصائص هذا التفسير
لكثيرة، وقد ذكرنا أهمها، وإذا كان شرف العلم تابعًا لشرف الموضوع وتفسيره
العزيز، وحاجة عصرنا إلى مثله، وعدم الاستغناء عنه بغيره، فنسأل الله تعالى أن
يبارك للمسلمين في وقته وعمره، وييسر له التفرغ إلى إتمامه برحمته وفضله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجة البيطار