للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


... ... تصنيف كتب في الكلام ملائمة لحاجة العصر
توحيد المذاهب الإسلامية

إصلاح نظام التعليم في المدارس الدينية
ألقى أستاذنا الفاضل موسى كاظم أفندي العضو في مجلس الأعيان، والأستاذ
في مدرستي الحقوق والقضاة محاضرة في هذه الموضوعات الثلاثة، فضبطها عنه
حضرة الأديب حسين أشرف بك أديب صاحب مجلة (صراط مستقيم) التركية،
فرأيت أن أترجمها لقراء مجلة المنار النافعة بما يأتي:
كان الراسخون في العلم من أهل الصدر الأول للإسلام يكتفون بظاهر المعنى
الذي دل عليه الكتاب والسنة ويرجعون إلى صاحب الرسالة في كل ما يشتبهون به
من المسائل على عهده، ولهذا لم تضطرهم الحاجة إلى وضع المصنفات ومراجعة
الأسفار.
ثم ظهر الاختلاف على عهد التابعين، فرأوا أن يُدوِّنوا الكتب احتفاظًا بوحدة
الدين من وقوع التفرقة، وبُعدًا بها عن مزالق الانشقاق وفقدان القوة إذا تَشَتَّتْ آراء
ذوي الرأي، واختلفت أنظار أهل النظر، وهنالك الطامة الكبرى، والخسران
العظيم.
فأخذوا يدونون العلم، وأكثر ما دونوا كان في علم الكلام، لأنه هو منشأ
الخلاف، فكان لذلك فائدة عظيمة.
على أن الفلسفة لم تكن قد دخلت بادئ بدء في المصنفات الأولى؛ لأن الأمة
لم تكن قد عانتها بعد، بل كانوا يبرهنون على مذاهبهم بنص من الكتاب والسنة،
وهي طريقة علماء السلف، ولم يكن ذلك العصر في حاجة أكثر من ذلك.
ثم انتقلت علوم الفلسفة إلى العربية، فتشعبت الآراء طرائق ومذاهب،
وعرف أبناء هذه اللغة لأول مرة ماهية مذهب (الفلاسفة المشائين) وآراء (الفلاسفة
الطبيعيين) ، وأخذوا يدخلون فيها، ويقولون بقول أصحابها على قلة عددهم، لولا أن
المشائين تغلبوا على الطبيعيين من حيث إقبال الطالبين على كتبهم حتى اضطر
علماء الدين إلى مناهضتهم جميعًا وإنقاص ما لهم من السلطة والنفوذ في قلوب
الدارسين والمفكرين، ومن الردود على المشائين والإشراقيين تألف علم الكلام ممتزجًا
بالفلسفة كما قضت الحاجة؛ لأن علماء الكلام كانوا يدرسون كتب الفلاسفة أولاً، ثم
يردون عليها، إلى أن كسدت سوق (الفلسفة الإشراقية) وكثر انتقاد أقوال المشائين
فدالت دولتها وانقرضت سلطتها، ولم يبق لها ولي ولا نصير.
لم تكد تُلقي هذه الحرب أوزارها حتى كان لعلماء الكلام من ظهور (الماديين)
في هذا العصر ميدان آخر للنضال والكفاح، فبهؤلاء يجب أن نشتغل اليوم كما كان
أسلافنا يشتغلون بالطبيعيين والمشائين والإشراقيين بالأمس.
ورب قائل يقول: كيف يجوز لنا أن تزيد من عندنا في علم الكلام ما لم ينص
عليه من قبلنا أو ليس من الواجب علينا أن نتبع الأولين في ما قالوه ونسلك السبيل
الذي انتهجوه.
فنجيبه بأن الفلاسفة الذين عني السابقون من المتكلمين بتزييف أقوالهم لم يبق
في زماننا من يذهب إلى صحة نحلهم وإذا كانت براهين أسلافنا سلاحًا قاطعًا لتلك
المزاعم فأين من يحاربنا لنصده بها وهذا الميدان خال منهم على حين نرى جهة
أخرى غاصة بأعداء آخرين لا يعمل فيهم ذلك السلاح، أو هو لا يقابل الأسلحة التي
يستعملوها، والحاجة ماسة إلى اختراع سلاح آخر يصلح أن نقابلهم به.
لا يوجد اليوم علماء معروفون يقولون إن العالم ثلاث عشرة طبقة كرية: الأولى
تراب، والثانية ماء، والثالثة هواء، والرابعة نار، والأفلاك بعد ذلك تسعة
متواليات بعضها فوق بعض، وإنها أزلية أبدية في نوعها وفي جنسها، وهي بهذا
الاعتبار قديمة.
فإذا قلنا للفلاسفة اليوم: إنكم كنتم تزعمون قبل عصور أن الأرض وما عليها
قديم ولدينا حجج تدحض مُدّعاكم وتبرهن على حدوث الأرض وما عليها؛ أجابونا
قائلين: كلا نحن لا نقول بقدم الأرض بل نذهب إلى ما تذهبون إليه من أنها
حادثة.
ومَن منهم يُصغي إلينا إذا قلنا له: إنك تقول برأي بطليموس مِن أن الأفلاك
تسعة متداخلة أزلية أبدية وهو يرى: (أن هذا الفضاء لا نهائي، ولا نهاية لما فيه
من الأجرام، وهي حادثة من حيث صورها، ولا قديم فيها إلا أجزاؤها الفردة) ،
وربما سخر منا عندما نبرهن له على فساد مالا يعتقد صحته.
فمن الواجب علينا إذًا إصلاحُ الدروس الكلامية وفقًا لحاجة هذا العصر وأهله،
ووضع مصنفات جديدة في دحض مذاهب هذه الأزمان، وأن نعلم أن الدين لا
يُناضَل عنه اليوم بسلاح الأمس لِمَا بين العدوين من البَوْنِ الشاسع والفرق العظيم.
كان المشاؤون يعترفون بوجود الله تعالى، وأنه العلة الأولى، وواجب الوجود،
ولكنهم كانوا يقولون: هو فاعل مضطر لا فاعل مختار.
أما الماديون في هذه الأيام فلا تنفعهم براهيننا على ذلك لأنهم لا يُسَلِّمون
بوجود الله سبحانه، وكان الحكماء يقولون: إن الله واحد حقيقي وباطل وصفه بتلك
الصفات المتعددة لأنها تنافي الوحدة فهو قائم بذاته، عالم بذاته، قادر بذاته، مريد
بذاته، والعلم عين الذات، والقدرة عن الذات إلى غير ذلك من الصفات الأخرى،
وبهذا قالت المعتزلة.
أما الماديون فهم يضحكون منا إذا برهنا لهم على أن الله عالم بعلمه قدير
بقدرته مريد بإرادته: لأننا متخالفون معهم من حيث المبدأ الذي يجب علينا أن
نقربهم إلينا فيه بوضع كتب حديثة تصلح لإقناعهم، ولا يتسنى لنا ذلك إلا بدرس
فنونهم، وإلزامهم بأقوالهم وآرائهم.
وبعد؛ فإن الإسلام قد مني باختلافات ذهبت بأهله مذاهب كثيرة باد أكثرها وبقي
بعضها، فالشافعية والحنبلية والمالكية يخالفوننا نحن معشر الحنفية بالفروع وإن
كانوا كلهم أهل السنة، فمن الواجب علينا أن لا ننزل هذا الاختلاف بمنزلة
الخصومة فنعد الشافعي خَصمًا لنا، بل الصواب أن نرى لنا ما لنا، ويرون لهم ما
لهم، وربما كان الحق في جانب أحد الطرفين مرة، وفي الجانب الآخر تارةً أخرى،
لأن المسألة مسألة اجتهاد، والاجتهاد يبنى على الأدلة الظنية التي يَستدل بها كلا
الطرفين ولا فرق في ذلك بينهما ولذلك نصوا على أن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد.
كانت هذه الحال مدعاة للتفرقة وانشقاق القوة، ومباينة لما أمر الله به من
الاعتصام بحبل الاتحاد والاجتماع، وما أشد ضرر التخاصم في المذاهب والفروع؟
وفي الإسلام اليوم غير هذه المذاهب مذهب آخر وهو مذهب الشيعة، والعداوة
بينهم وبين السنيين شديدة، وفي نظري أن هذا العداء أمر منكر يجب إزالته ليتسنى
للمسلمين أن يتحدوا وإلا التهمهم الغرب قبل مرور نصف عصر، وكانت القاضية
على المسلمين أجمعين.
أجل يجب علينا أن نعتصم جميعًا بحبل الله ونتحد مع كل قائل بوحدة الله
ونبوة رسول الله ونحاول بعد ذلك تقويم الأود، وإرجاع المنحرفة إلى أصلها
ومجادلة أهل المذاهب الأخرى لا كما يُجادِل العدوُّ العدوَّ، بل بالتي هي أحسن، وذلك
بأن يجتمع العلماء من كل فريق ويقول بعضهم لبعض تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم نتجنب ما تقوم الحجة على بطلانه ونعمل بما تبرهن الأدلة على صحته وفي
يد كلا الفريقين كتاب الله يؤمنان به وبمن أنزله وبمن نزل عليه وبهذا ينجو
المسلمون مما مُنوا به من التفرقة والانشقاق، وأنا الكفيل بأن المسلم لا يلبث أن
يذعن للحق مهما بعد عنه.
وإني أقص عليكم هنا تفاصيل مناظرة دارت بيني وبين أحد علماء
الشيعة وكان متعصبًا، وعلى مكانة من الجَّد في وقت واحد، فبادرته أنا سائلاً:
أين هو موضع النزاع بيننا وبينكم، وفيما ترتابون من عقيدتنا فأجابني: الخلافة
هي موضع النزاع ... قلت له:
إن هذه المسألة في رأيي ليست مما يستحق النزاع، قال:
كلا، بل هي ذات شأن عظيم لا ينكر فهي التي قضت على الإسلام وشتت
شمل المسلمين وقلبت بالدين رأسًا على عقب.. . إن الخليفة بعد النبي كان يجب أن
يكون عليًا، فأجبته:
تلك دعوى لا نسلم بها مالم يقم على صحتها برهان ساطع، فما هو برهانكم
على ذلك.
وهاهنا عدة أشياء كثيرة كانت كلها واهية في نظري وبعد أن أصغيت إليه
كثيرًا قلت له:
ليس كل هذا مما يتألف من دليل واحد؛ لأن ما قلته لا يفيد إلا الظن، وإن الظن
لا يغني من الحق شيئا، أنت سردت على مسامعي قضية هي من المطالب اليقينية
وأنى لمثلها من مسائل الاعتقاد أن يُبرهَن عليه بشيء من الظن الذي ربما كان مقنعًا
في مسائل الفروع.
فترك صاحبنا هذه السبيل وانتهج منهًجا آخر تكلم فيه أكثر مما تكلم من قبل،
ولكن هذا أيضًا كان واهيًا، فقلت له حينئذ:
إني أدعي أنه لم يؤثر عن النبي قول يستدل به على تعيين خليفة باسمه،
وبرهاني على ذلك أنه لو كان ثمة قول صريح في هذا الباب لما اختلف الصحابة في
ذلك الأمر، وهو على ما هم عليه من التمسك بسنته، والخنوع لطاعته.
أجل، لم يصرح النبي بذلك؛ لأن المهاجرين والأنصار وقع بينهما على الخلافة
اختلاف كان من نتيجة أن قال الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير) فدحض الصديق
ما طلبوا بحديث (الأئمة من قريش) فأجابوه: إذًا لم يبق بيننا مدعاة للخلاف بعد
هذا، ومن ذلك تعلم أنه ليس ثمة صراحة قوله يستدل بها على تعيين خليفة بشخصه،
وإنما هم رجحوا الصديق لتوليه الصلاة بالناس في مرض النبي ولم يرجحوا عليًّا،
وهذا ما أداهم إليه اجتهادهم.
وكان أبو بكر قد سَمَّى عمر لولاية العهد قبل وفاته، فلم يبق مجال للنزاع
وجعلها عمر شورى من بعده، فوقع الاختيار على عثمان، ثم تولى منصب الخلافة
من بعدهم عليّ، هذا كل ما في الأمر، فأين ما تذكره من أن هذا المسألة هي التي
قضت على الإسلام، وقلبت الدين رأسًا على عقب.. . هل سلك أبو بكر غير منهج
الرسول؟ كلا، إنه لم يفعل ذلك باعترافكم، وهكذا فعل عمر وهو الذي افتتح
الأقطار وعلى يده دخلتم في الإسلام، وأصبح المسلمون يحكمون بلادًا فيها مائة
مليون من النفوس، ومع كل ما كان له من النصر، وللإسلام من المجد، بقي في
آخرته كما كان في أولاه يضن على قدميه بحذائين يخرج ثمنهما من بيت المال
فما هو معنى (القضاء على الإسلام) حينئذ؟
وهنا سكت صاحبنا ولم يفه ببنت شفة، فواصلت كلامي قائلاً: نحن نقدس
هؤلاء؛ لأنهم لم يحيدوا عن خطة النبي قيد أُنملة، ومن الواجب على كلِّ مَن في قلبه
ذرة من إيمان أن ينظر إليهم بالنظر الذي ننظر به إليهما، فأجابني: إن عليَّا
كان على سعة من العلم والفضل، وواقفًا على سر الكتاب، قلت له: ذلك مما
لا ريب فيه. قال:
فلماذا إذًا لم يجعلوه خليفة؟
أجبته:
أنت الآن تخرج عن الصدد، فقد عدلت عن زعمك الأول أن الإسلام قد قضى
عليه، ورحت تقول الآن: كان الأولى تولية عليّ لأنه كان أعلم وأفضل، فقال لي:
إنك يا أخي لا تدع لي مجالًا للإفصاح عن رأيي، إنني أقول: إن عليًّا واقف على سر
الكتاب ولو كان أول خليفة في الإسلام لخدمه خدمات جلى، ولتعالى الدين أكثر
مما شهدنا. قلت له:
أنت غيرت دعواك، ومع ذلك فإني أقول لك: كان من الواجب عليه إذا كان
الأمر كذلك أن يبين تصوراته في إعلاء شأن الإسلام أنَّ تَوَلِّي أمر الخلافة من قِبَلِهِ،
وفي كل حال إنه صار خليفة بعد ذلك، وكان في وسعه أن يقوم بالخدمات التي
تذكرها.
وبعد أن أَفَضْتُ البحث في هذا الباب أذعن مناظري للحق ورجع إلى إنصافه
ثم قال:
الحق أقول: إن هذه المسألة مسألة سياسية، لا مسألة دين، وما هي إلا وسيلة
جعلت في القديم لإحداث التفرقة بين فريق وفريق.
فترى من هذا أنه مهما كان بين المسلم والمسلم من الاختلاف، يرجع أحدهما
إلى الحق بعد ظهوره له؛ لأن المسلم منصف على كل حال.
ويا ليت شعري كيف يجوز لنا أن نجعل الاختلاف في المذهب سببًا للعداوة
ونحن كلنا مسلمون، في حين أن من المحظور على المسلم أن يجعل العداوة في قلبه
حتى لغير المسلمين، حقًّا إن هذه حال قد سئمتها النفوس، ونتجت منها مضار،
أزف الوقت الذى يجدر بنا فيه أن نقلع عن هذه البغضاء الشائنة، ونؤسس فيما بيننا
وبين جميع الفرق المسلمة وغير المسلمة وحدة صحيحة، فيكون الاتحاد شعارنا في
كل أين وآن، لأن بالاتحاد نجاتنا، وبالإعراض عنه اضمحلالاً.
فمن الواجب علينا أن نضع كتبًا في علم الكلام مؤسسة على مبادئ عدة؛ كأن
ندرس مذاهب الفلاسفة المعاصرين، ونجادل أصحابها ولكن (بالتي هي أحسن)
فبهذا يزول الخلاف، وتلك كانت خطة النبي صلى الله عليه وسلم في جدله.
نحن نفكر اليوم في أمر إصلاح المدارس الدينية وحسبنا أنكم تقدرون هذا
الإصلاح حق قدره - الطلبة: تلك حقيقة ناصعة فنرجوكم أن تثابروا على
الإصلاح - إنكم إذا كنتم على غير رأينا في لزوم هذا الإصلاح، فليس في
وسعنا أن نأتي بعمل، أما إذا عرفتم وجوبه، فهو أهم الإصلاحات في نظرنا.
يجب أن نُدخل على نظام المدارس القديم خمسة من الفنون الحديثة أو أكثر،
وأن نُعدِّل ذلك النظام تعديلاً هامًّا، فنبطل تدريس الحواشي والتقريرات بتة، ونُعَلِّمَ
الطالبين المتون فقط، ولكن تعليمًا حقيقيًّا، ونتوسع كثيرًا في درس اللغة والأدبيات.
ترى ماهي الحواشي والتقريرات؟ هي انتقادات قواعد لغة لا نعرفها بعد،
وأحر بنا أن ندرس تلك اللغة نفسها قبل أن نقرأ انتقاد قواعدها.
ولعل قائلاً منكم يقول: نحن لاندرس لغة العرب، بل ندرس كتبًا أنشئت بلغة
العرب، وكان خيرًا لنا لو تُرْجِمَ القرآن إلى التركية، فدرسناه بلغتنا، كما يدرس
العرب القرآن واليهود التوارة بلغتيهم.
فأجيب هذا القائل: إن ترجمة القرآن متوقفة على معرفة اللغة العربية معرفة
تامة، وهذا ما ندعو إليه الطلبة والعلماء، ونريد منهم أن يكونوا ذوي وقوف تام
على هذه اللغة، ولا يكون هذا إلا بدرس المتون أولاً، والتوسع بالأدبيات بعد ذلك
جهد المستطاع، ولا بأس إذا رجع التلميذ بنفسه إلى بعض الشروح عند مسيس
الحاجة.
ولست أدري كيف أعرض الطلبة قبلنا عن المتون وتعلقوا بهذا الشروح حتى
إذا أتموها شرعوا بقراءة الحاشية فحاشية غيرها ثم بالتقريرات فتقريرات أخرى
وبعد أن يصرف الطالب أكثر من خمس سنين على هذا المنوال في كتاب واحد
تمتحنه فيه فلا تجده على شيء! ! ولا يقدر أن يفهم معنى سطر واحد من الشعر
العربي؛ ذلك لأنه بدَّد وقته بمناقشة ما قاله العصام وما نبه إليه عبد الغفور، وبوجه
التفهم من قوله (فافهم) عند ما تعرض مسألة من المسائل.
فَكِّروا يا هؤلاء قليلاً: يجتهد عالم بتلخيص القواعد في متن يُسّهل به على
الطلبة سبيل الوقوف على أصول أحد العلوم، فيجيء غيره ينتقد ما كتبه وهو حُر فيما
يعمل ثم يجيء آخر فينتقد الانتقاد.
نحن لا نعترض عليهم لانتقادهم، فليبدوا رأيهم في مسائل العلم، والانتقاد في
الحقيقة فلسفة العلوم، ولكن الذي أستغربه هو تسابق الشيوخ إلى هذه الحواشي
والتقريرات مما تجادل به العصام وعبد الغفور، يجعلونها كتبًا مدرسية يقرأونها على
الطلبة قبل أن يدرسوا أصول العلم نفسه.
اعترِضوا على ما أقول إذا كان لكم اعتراض.
نعم إن هذه الحواشي ليست مما يقرأ قبل درس قواعد اللغة، وإنها مع ذلك لم
تؤلف عبثًا، فإن أصحابها لاحظوا من تأليفها تربية قوة المناقشة والانتقاد في نفوس
الطلبة فصنفوها، وما علينا إلا أن نستعملها في الموضع الذي وضعوها له، ولقد
كان من تحريفنا الأشياء عن موضعها أننا ظللنا جاهلين اللغة العربية، وإذا عرض
لنا بيت من الشعر، وقفنا أمامه باهتين، ننتظر من عبد الغفور، ومن العصام إمدادًا
فلا نرى مِن معين، ثم نسعى لفهم البيت من كتب اللغة فيخفق سعينا لأننا لم ندرس
الأدبيات العربية، وغاية الأمر أن إصلاح المدارس يتوقف على درس متون العربية
وكتب اللغة والأدب، ثم يلتفت الطالب إلى الفقه والتفسير والحديث، تلك العلوم
التي أهملناها، لأن الحواشي والتقريرات استغرقت منا كل وقت.
أتمنى من الطلبة كلهم أن يجتمعوا في مكان واحد، ويفكروا فيما يحوجهم
لإصلاح مدارسهم، ويستجلبوا برنامجات المدارس الدينية في مصر، فإن المدارس
الدينية في ذلك القطر قد أصلح نظامها، فأثمر التعليم فيها ثمرات شهية، وبعد
الاطلاع على تلك البرنامجات يضعون لأنفسهم برنامجًا يوافق حالهم وحال
العصر معًا ويكفل لهم التقدم في اللغة العربية، ثم يبحثون في أي الفنون الحديثة
أكثر لزومًا لهم.
أما أمر معاشكم فنحن نكفله لكم، لأن لكم أوقافًا كثيرة جدًا استولت عليها
الأيدي، وهي تغل لكل واحد منكم ثلاثة جنيهات مشاهرة، لو كان عددكم خمسة
آلاف طالب، وعدا ذلك فإن الأمة لا تنساكم، وما عليكم إلا أن تبرهنوا على
كفاءتكم، ثم إنكم في حاجة إلى تعلم لغة أجنبية، وليس في هذا ما يخالف الدين،
لأنه ليس للدين لغة خاصة به.
هذه اللغة العربية بِنْتُ ستة آلاف سنة، والدين الإسلامي لم يكن إلا منذ ألف
عام وزيادة، وهؤلاء مسلمو كريد لا يعرفون العربية ولا التركية ولغتهم لغة يونان،
فهل كان ذلك مانعًا لإسلامهم، ونحن أنفسنا لغتنا التركية، فهل نتركها لأنها ليست لغة
القرآن التي أنزل بها، وهل اليهود من العرب مسلمون لأن لغتهم عربية؟ كلا،
وإذا كانت العربية لسان الدين ولا يجوز للمسلم أن يتكلم بغيرها، فنحن آثمون لأننا لم
نترك التركية، وهذا ما لا يُسَلِّمُ به عقل ولم يَرِدْ به نص.
فالتركية من هذا القبيل لا فرق بينها وبين الفرنسية والإنكليزية؛ لأن هذه
اللغات الثلاث كلها غير العربية، وعدا ذلك فنحن ندرس في جوامعنا باللغة التركية،
فلماذا لا ندرس بالفرنسية أيضًا، ولماذا لا نتعلم في مدارسنا لغة أجنبية؟ فإذا قلتم:
إن التركية لغة أمة إسلامية، أجيبكم: إن في الصين تُرْكًا أكثر منا عددًا وهم كلهم
مشركون.
فتبيّن من هذا أن اللغة شيء والدين شيء آخر، وما التعصب في هذا الباب
إلى الجهل الذي يسخر من صاحبه الناس أجمعون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محب الدين الخطيب
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالقاهرة
(المنار)
بَعثتْ إلىّ إدارة المجلة بهذه المقالة المترجمة وأنا في الآستانة لأرى رأيي في
نشرها فلما قرأتها رجحت المقتضي على المانع، وأذنت بنشرها، أما المانع فهو أنه
قد سبق لنا في المنار بيان هذه المسائل الثلاث الأساسية التي بنيت عليها محاضرة
الكاظم (تصنيف كتب في العقائد ملائمة لحال هذا العصر، وتوحيد المذاهب
الإسلامية وإصلاح التعليم في المدارس الدينية) بل هي من مقاصد المنار التي أبدينا
وأعدنا القول فيها كثيرًا، وكررناه تكريرًا، فقراء المنار لا يستفيدون بنشر ترجمة
هذه المحاضرة شيئًا جديدًا في هذه المسائل التي طرقت مسامعهم وجالت في مباحثها
أبصارهم، وعلم أكثرهم ما لقى شيخنا الأستاذ الإمام من العناء في محاولة إصلاح
التعليم في الأزهر والمدارس التابعة له، وأما المقتضي فهو ما يستفيده قارئ هذه
المقالة من تشابه علل المسلمين وأمراضهم، بل وحدتها ومن اتفاق آراء العقلاء
وطلاب الإصلاح لها على اختلاف اللغات وتباعد الأفكار، فموسى كاظم أفندي من
علماء الآستانة قام يطالب في عهد الحرية ما سبقه إليه إخوانه من عقلاء العلماء في
مصر والهند من غير تواطؤ بينه وبينهم ولا اطلاع منه على أقوالهم وأعمالهم،
فالمسلمون أمة واحدة مرضهم واحد وعلاجهم واحد وأطباؤهم هم العلماء والعقلاء
العارفون بحال العصر الذين يصدق عليهم تعريف الفقيه في أقوال أحد أئمتهم (هو
المقبل على شانه العارف بأهل زمانه) .
قد أحسن الكاظم في حَثَّهِ طلاب الترك على تعلم أدبيات اللغة العربية؛ لأن اللغة
نفسها إنما تعرف بأدبياتها لا بفلسفة فنونها الصناعية، وفي حثه إياهم على تعلم
بعض لغات العلوم الدنيوية، وحجته في هذه المسألة أقرب إلى القبول مِن حجة مَن
يدعو أمثال طلاب الأزهر إلى تعلم الفرنسية والإنكليزية لأنه لا فرق بين التركية
والفرنسية في نظر الدين وأما العربيةُ فهي لغة الإسلام لا يمكن أن يفهم الإسلام حَقَّ
فهمه ويكون من علمائه إلا من يكون متقنًا لها، وترجمة القرآن ترجمةً تقوم مقام
الأصل العربي وتغني عنه في الفهم والاستنباط والهداية، هي متعذرة كما بينا ذلك من
قبل ويحتاج في فهم الإسلام إلى فهم السنة ومعرفة طرق روايتها ... إلخ إلخ، ولم
يعط الكاظم هذه المسألة حقها من البيان والتحقيق، وهي لم تكن موضوع محاضرته
وإنما جاءت بالعرض، وقد عرفت الرجل هنا وأرجو أن يكون من خير أنصاري على
ما أسعى إليه من الخير للمسلمين الذي يدخل فيه موضوع محاضرته.