للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

السواك بعد الصلاة أو عندها
(س ١٠٩) عبد الرحمن أفندي رحمي (بالخرطوم) : رأيت أحد أساتذة
العلم يستاك بعد كل صلاة ركعتين فسألته عن ذلك فقال لي: ورد في الحديث
الصحيح (كل من يصلي ركعتين بسواك أفضل ممن يصلي ستين ركعة بلا
سواك) . فقلت له: إني لا أعلم ذلك إلا أن استعمال المسواك محمود بعد اليقظة من
النوم لإزالة قذارة الأسنان ومنع الرائحة الكريهة من الفم فجئت بهذا ملتمسًا إرشادنا
إلخ.
(ج) السواك سنة مؤكدة ووردت أحاديث متعددة باستحبابه عند القيام من
النوم وعند الوضوء وعند الصلاة , ومن أصحها حديث أبي هريرة عند أحمد
والشيخين وأصحاب السنن: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل
صلاة) قال النووي: (السواك مستحب في جميع الأوقات لكن في خمسة أوقات
أشد استحبابًا: عند الصلاة , وعند الوضوء , وعند قراءة القرآن , وعند الاستيقاظ
من النوم , وعند تغير الفم. وتغيره يكون بأشياء منها: ترك الأكل والشرب , ومنها
أكل ما له رائحة كريهة , ومنها طول السكوت وكثرة الكلام) . والحديث الذي
ذكرتموه رواه الدارقطني في الأفراد عن أم الدرداء بلفظ: (ركعتان بسواك أفضل من
سبعين ركعة بغير سواك) وابن زنجويه عن عائشة مثله لكنه بلفظ صلاة بدل كعتين,
وهو ضعيف وله طرق تقويه , وليس منها ما ذكرتم.
والغرض من سنة السواك تنظيف الأسنان وتطييب الفم كما في حديث:
(ما لكم تدخلون عليّ قلحًا؟ استاكوا) إلخ. والقلح جمع أقلح وهو أصفر الأسنان.
ومن اطلع على كثرة الأحاديث في السواك يكاد يعجب لشدة تأكيدها ويتوهم إذا كان
جاهلاً بطبائع البشر وعادات الناس أنها مبالغة ربما كانت غير صحيحة إذ لا حاجة
إلى ذلك في هذا الأمر الصغير الواضح , ولكنه إذا فطن مع هذا إلى تقصير الناس
في تنظيف أسنانهم وأفواههم حتى المسلمين الذين هم أحق الناس بهذه النظافة وعلم
ما لهذا التقصير من الضرر في الصحة لأنه من أسباب تآكل الأسنان وسرعة
سقوطها , وأن هذا سبب لعدم إجادة مضغ الطعام وقلة التلذذ به , وبذلك تقل تغذيته
وفائدته، ثم فطن إلى أن مجرد إقناع الناس بأن هذا الشيء نافع لا يحملهم على
المواظبة عليه والعناية به حتى يلزموا به بأمر ديني أو يتربوا عليه من الصغر
بالإلزام والتعويد - فإنه يفهم سر ذلك الحث والتأكيد.
* * *
الاستعانة بأصحاب القبور
أو حديث (إذا ضاقت بكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)
(س١١٠) ن. ب. في (سراي بوسنة) : إنكم تنكرون الاستعانة
بأصحاب القبور فضلاً عن الاستعانة منهم (كذا) وأوردتم الحجج والدلائل على
ذلك إلا أنكم لم تقولوا شيئًا في حديث: (إذا تحيرتم في الأمور فعليكم بأصحاب
القبور) الذي اشتهر بين الناس وأورده ابن كمال باشا الوزير - الذي هو من
مشاهير العلماء وثقاتهم - في رسالته الأحاديث الأربعين. وشرحه على وجه يقنع
كل أحد ممن لم يتعمق في العلم مثلكم بصحة الحديث المذكور، ومضمونه الاستعانة
من أصحاب القبور (كذا) نرجوكم أن تتفضلوا علينا بحل إشكالنا هذا , والإجابة
عن الحديث المذكور ولكم الفضل ومنا الشكر، ومن الله الأجر.
(ج) الحديث لا أصل له ولم يروه المحدثون ولكن ورد في حديث أنس عند
البيهقي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه قسوة القلب فقال:
(اطلع في القبور واعتبر في النشور) وقال البيهقي: متن هذا الحديث منكر ,
وراويه مكي بن نمير مجهول , ولو صح الحديث الذي أورده ابن كمال باشا لكان
بمعناه لأن من تحير في أمره وضاق له صدره فتفكر في أصحاب القبور وكيف
تركوا كل شيء كان يهمهم ولقوا ربهم - هان عليه الأمر واتسع منه الصدر، ولا
تهولنك شهرة ابن كمال باشا بالعلم فتعجب لإيراده حديثًا لا أصل له , فهو إنما
اشتهر بفقه الحنفية , وأكثر هؤلاء الفقهاء لا يعنون بالحديث ولا يعرفون صحيحه
وضعيفه وموضوعه ومعروفه ومنكره، بل منهم من يزعم أنه لا حاجة إليه مع الفقه
إلا أن يقرأ للتبرك به ويصرحون بأنه لا يجوز العمل به لأن ذلك من الاجتهاد الذي
حرموه باجتهادهم , وإنك لترى كتب الفقهاء الذين هم أعظم منه شهرة بهذا الفقه من
غير استعانة بالوزارة والإمارة قد حشوا كتبهم بالأحاديث الموضوعة كالأحاديث
التي أوردها صاحب الدر المختار في مدح الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وغيرها. وقد صرح علماء هذا الشأن بأنه لا يجوز لأحد أن يسند إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم حديثًا إلا إذا كان هو قد رواه رواية يثق بها , أو يذكر درجتها
أو أخذه عن كتب الحفاظ الذين يذكرون ذلك , وليس ابن كمال الوزير منهم. ثم إن
عبارة الحديث تدل على وضعه لمن ذاق طعم الأساليب العربية الفصيحة فلعل
واضعه من المتأخرين، وناهيك بنكارة متنه ومخالفته لظاهر أصول الدين لا سيما
إذا حمل على ما ذكرتم.
وإذا فرضنا أن الحديث صح وكان معناه ما ذكرتم دون ما أولناه به فإننا نرجح
عليه ما يعارضه مما هو أقوى منه كحديث الطبراني مرفوعًا: (إنه لا يستغاث بي
إنما يستغاث بالله تعالى) وحديث ابن عباس مرفوعًا: (وإذا استعنت فاستعن
بالله) بل عندنا القطعي كقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) فإنها
نص في عدم جواز الاستعانة بغير الله تعالى كما أن قوله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: ٥) نص في عدم جواز عبادة غيره لمكان الحصر في تقديم المفعول.
ومن عجائب تحريف المسلمين الجغرافيين لنصوص القرآن القطعية ما أطلعنا عليه
بعض الناس في الجريدة المحدثة التي تسمي الظاهر من تأويل {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) .
إذ قال المحرف: إن الاستعانة على ضربين: حقيقية، وهي الممنوعة بنص
الآية، ومجازية كالاستعانة بالموتى الصالحين , وهي جائزة لا تمنعها الآية , ولا
يتناولها الحصر فيها. ولو صح هذا لصح أن يقال مثله في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: ٥) ويقال: إن العبادة حقيقية ومجازية؛ فالأولى لله والثانية لغيره
فيعبد هؤلاء المحرفون غير الله ويسمون عبادتهم مجازية لا يخرجون بها من دائرة
الإسلام وحظيرة الإيمان، ونعوذ بالله من الخذلان، فإن هذا الضرب من التحريف
للنصوص القاطعة لم يسمع عن أمة من الأمم أقبح منه ولا يمكن أن يثبت معه دين!!
أتظن أن صاحب هذه الجريدة أضاف هذا التحريف إلى نفسه حتى لا يخشى انخداع
العامة به لعدم ثقتهم بهذه الجرائد في أمر الدين وعلمهم بجهل أصحابها؟ كلا , بل
زعم أنها جاءته من عالم أزهري، ولا تدري العامة أن رواية الثقة عن
المجهول غير معتبرة فكيف برواية غير الثقة. فبمثل هذه الكتب والصحف فسدت
الأديان , واختل نظام العلم , ولذلك نقول تبعًا للأئمة المجتهدين:
إنه لا يجوز لأحد أن يأخذ في الدين بكلام عالم ما لم يعرف دليله، فإن كان
الدليل حديثًا شريفًا فلا تصح الثقة به إلا إذا نقل عن المحدثين الثقاة الذين رووه
لتعرف درجته وتمكن مراجعته، وعلى هذا جرينا، في المنار والله المستعان، دون
فلان وفلان.
* * *
تعدد الجمعة عند الشافعية
وإعادة الظهر
(س١١١) مستفيد في (سنغافورا) . حصلت مباحثة أحببنا رفعها إليكم
لاستجلاء الحقيقة والاستهداء فنرجوكم الإجابة على صفحات المنار. تفضلتم في
الجزء التاسع عشر من المنار الهادي بنقل نصوص الإمام الشافعي في تعدد التجميع
مما لم تكتحل به عيوننا قبل , وجزمتم آخر الجواب بأنه لا محل لصلاة الظهر
عقب الجمعة في نحو مصر، فبعد التأمل وقع لدينا ما جزمتم به موقع الاستحسان
وعليه عملنا منذ تيقظنا. ولكن ظهر لبعض طلبة العلم من الشافعية بطرفنا أن
مقتضى تلك العبارات ونتيجتها هو أن الذمة لا تبرأ يقينًا إلا بصلاة الظهر بعد
الجمعة في نحو سيقافورة [*] وأن من أراد الاقتصار مثلاً على الجمعة فقط أو الظهر
فقط فالأولى له أن يصلي الظهر ويترك الجمعة لأنه بالظهر يبرأ يقينًا ولا تبرأ ذمته
بالجمعة وحدها يقينًا. وقال: إن ما نقلتم عن الشافعي لا يفيد سوى ما فهمه لا ما
ذكرتم. فهل ما قاله هذا البعض صحيح أم محتمل أم لا؟ ولتكونوا على بصيرة من
سيقافورة نفيدكم أنها بلد مستطيل يبلغ طوله نحو ستة أميال إنكليزية لكن عرضه لا
يبلغ نحو نصف طوله , وتُصلى الجمعة فيه في نحو خمسة عشر مسجدًا بعضها
مزدحم , وباليقين إن المحتاج إليه منها للجمعة هو بعضها , وربما كان أقل من
النصف لا لقلة المسلمين ولا لكثرة تاركي الصلاة منهم بالكلية بل لتهاونهم في
حضور الجمعة , وقد يظن أن اعتقادهم عدم إجزاء الجمعة منهم يثبط بعضهم،
فأفيدونا بالحكم على رأي الشافعي , ثم اشرحوا لنا على طريقة المنار ما هي شروط
الجمعة التي لا تصح إلا بجميعها وتبطل بفقد واحد منها؟ وما هي أدلتها الشرعية
الواضحة وبينوها بالعزو إلى مخرجيها لتتم الفائدة لمستجديكم وأهل هذه القاصية، لا
زلتم هداة للرشاد نافعين للعباد.
(ج) عبارة مختصر المزني ليس فيها ذكر إعادة الظهر على من صلى
الجمعة وعلم أنها صليت في مسجد آخر , بل هي نص في وجوب التجميع في
مسجد واحد وإن كان لا يسع الناس , وأنه لا يصلى بعد إقامتها في أحد المساجد إلا
الظهر أي بعد العلم بأنها صليت. وزادتها إيضاحًا عبارة الأم وهي: (وأيها جمع
فيه أولاً بعد الزوال فهي الجمعة , وإن جمع في آخر ساعة بعد الجمعة كان عليهم
أن يعيدوا ظهرًا أربعًا) فقوله: في آخر ساعة بعد الجمعة؛ يشعر بأنهم جمعوا مع
العلم بأن الجمعة صليت , ويؤيده مسألة الإشكال التي أوردها بعد فإنها تفيد أن
المسألة قبلها مفروضة في صورة العلم. وإنما تتأتى مسألة الإشكال التي قالها الإمام
في صورة الاجتماع والشك في السبق بعد التجميع بأن صلوا في مساجد متعددة
معتقدًا أهل كل مسجد أنهم السابقون أو غير عالمين بتجميع غيرهم بالمرة , ثم
علموا وطرأ عليهم ما أوقعهم في الشك والإشكال , ولذلك أوجب عليهم إعادة الجمعة
في قول. فقال: (ولو أشكل عليهم فعادوا فجمعت منهم طائفة ثانية في وقت
الجمعة أجزأهم ذلك) وصلاة الظهر في قول آخر وهو الذي ذكرناه هناك عنه أولاً
وعن الربيع آخرًا. وهل المراد من القولين التخيير أم يريد الإمام أن الظهر حتم
على من لم يتمكن من إعادة الجمعة أم رجع بأحد القولين عن الآخر؟ كل محتمل
ولا محل هنا للبحث في الترجيح، وإنما المراد أن الإمام لم ينص على ما إذا جمعوا
في مساجد متعددة , ولم يطرأ عليهم إشكال في السبق بأن أحرم أهل كل مسجد بها
بناء على أن الأصل عدم سبق غيرهم لهم بجمعة في بلدهم , ولو أحرموا غير
معتقدين بأحد هذه الشروط وهم يعتقدون أنها شروط (لأنهم شافعية) لكانوا عصاة
متلاعبين بالدين كمن يصلي بغير وضوء وحاشاهم من ذلك.
وجملة القول أن الإمام منع تعدد التجميع اختيارًا مع العلم , وصرح بعدم
إجزاء جمعة ثانية بعد الأولى , فجعل الاعتقاد بأن هذه الجمعة هي الأولى أو عدم
العلم بأنها مسبوقة بجمعة صليت قبلها شرطًا لصحة الجمعة , فمن لم يتحقق عندهم
الشرط لا يجوز لهم التجميع عنده. فإذا كان أهل الأمصار التي تتعدد مساجدها لا
يتحقق عندهم هذا الشرط فلا يجوز لهم التجميع إذ لا تنعقد صلاتهم بالجمعة مع فقد
شرطها، وإن كان يتحقق لأن الأصل عدم السبق كما قلنا كانت جمعتهم صحيحة ,
ولا يجوز لأحد أن يصلي عقبها ظهرًا. وأما الإقدام على صلاة فريضتين في وقت
واحد مع اعتقاد أن كلاًّ منهما واجب كما يفعل أكثر الشافعية في الأمصار فمما لا
دليل عليه في قول الإمام رحمه الله تعالى بل مقتضى المذهب حرمته.
وقد زارنا بعد كتابة ما كتبناه في الجزء التاسع عشر أحد علماء الشافعية
المدرسين في الأزهر فقرأه فأعجبه فقلنا له: أتظن أحدًا ينازع فيه؟ فقال: ربما
ينازع فيه الضعيف. فذكرنا له نحو ما كتبناه آنفًا في النية , فقال: إن هذا يقنع من
عساه يعارض وليتك كتبته. فإذا اقتنع ذلك الطالب في سنغافورة بهذا الإيضاح وإلا
فليشرح لنا فهمه ودليله.
ثم إن هذا كله مفروض فيما إن كان التجميع في مساجد تزيد عن الحاجة ,
وقد علم مما كتبه الشبراملسي وغيره أن العبرة بزيادتها عمن تجب عليهم الجمعة لا
عن المصلين بالفعل، فإذا كانت مساجد سنغافورة دون حاجة المسلمين فيها لو صلوا
الجمعة فلا إشكال في صحة الجمعة وعدم وجوب إعادة الظهر. ومن الغريب أن
يذهب ذاهب إلى ترك هذا الشعار بالمرة ويزعم أنه من الاحتياط. وقد اطلعنا في
هذه الأيام على رسالة في المسألة للشيخ مصطفى الغلاييني البيروتي كانت بيد
بعض الأزهريين , ورغب إلينا في نشرها فنحن ننشرها لزيادة الإيضاح , وسنذكر
بعد نشرها ما صح في الكتاب والسنة في صلاة الجمعة إن شاء الله تعالى.