للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فقيد مصر
مصطفى رياض باشا

(٣)
نقلنا في الجزء السابع (الماضي) ما كتبه الإمام في كتابه (أسباب الثورة
العُرابية) عن إبطال رياض باشا للسخرة , ووعدنا بأن ننقل عنه شيئًا آخر من
أعماله الإصلاحية , وها نحن أولاء ننجز الوعد، فنقول: كتب الأستاذ عقب ما
تقدم ما نصه:
(العدل في الري)
واهتم رياض باشا بأن توزع مياه النيل بالقسط، وقد كان الفقراء لا ينالون
من النيل أيام هبوطه إلا فضلات ما يبقى عن ري أراضي الأغنياء، فوضعت
نظارة الأشغال العمومية بعض الروابط، وشددت المراقبة في تنفيذها، فأصاب
التوزيع جانبًا من العدل، غير أن عادة بعض موظفي الهندسة حالت دون الغاية
المطلوبة، خصوصًا مع تعود الأهالي على السكوت عن ذلك وعدم الشكوى منه؛
ظنًا منهم بأن الدعاء لا يجاب في أرض مصر على ما يعهدون , ولكن أتذكر أنني
ذكرت لرياض باشا يومًا حالة قسم الحاجر في مديرية البحيرة وأن الماء محجوز
عنه، وقد كادت تتلف زراعة القطن فيه، فلم تمض بضع دقائق حتى كتب لنظارة
الأشغال بتحقيق السبب، وبعد يومين أطلقت المياه، وأوخذ المتسبب في حجزها،
وهكذا كان شأنه عند سماع أي شكاية من هذا القبيل.
وإني أتذكر حادثة عُدّت في وقتها من أغرب الحوادث؛ ذلك أن بولينو باشا
كانت له آلة بخارية رافعة للمياه على جدول عظيم بجوار دمنهور، وكان يعطي
الماء للأهالي بالأجرة، وكان يستمر في إدارة وابوره إلى ما بعد ارتفاع الغيطان
وتزاحم المياه على فم الترعة؛ ليستزيد من الأجور، وكانت تلك عادته من سنين،
والأهالي متعودون على هذا الظلم؛ لكثرة الشكوى وعدم الإشكاء.
ففي أول نظارة رياض باشا كانت قد ارتفعت مياه النيل، ومن المعروف أن
المياه في شهر سبتمبر تعلو فوق مستوى أغلب الزرع في مصر، فركبت المياه فم
الجدول، ووابور بولينو باشا مستمر الدوران والمياه محجوزة عن الأهالي إلا أن
تكون من مياه بولينو باشا، فشكوا للمدير لإحساسهم بفائدة الشكوى إذ ذاك،
وعرض المدير شكواهم على رياض باشا فأمر بفتح الترعة , وعند التنفيذ جاء
رجال بولينو بالسلاح لمقاومة المنفذين، وأشعر رياض باشا فأمر بفتح الترعة ولو
بقوة السلاح، ففتحت تحت حماية العساكر المصرية.
كانت مديرية البحيرة من أسوأ المديريات حالاً من جهة الري وأعمال
التطهير, فكان أهاليها يسامون العذاب أيام الشتاء في تطهير ترعة الخطاطبة،
ويجلب من سكان المديريات الأخرى عدد عديد لمساعدتهم؛ ليستحصلوا على قليل
من الماء , لا يكفيهم بعد شدة العناء , وكثيرًا ما فتك الموت فيهم أيام العمل لشدة
البرد , فاهتم رياض باشا ليخفف المصاب عنهم، وأنشأت نظارة الأشغال العمومية
نظام شركة ري البحيرة، وكان يوم البدء بإدارة آلاتها يومًا معروفًا، احتفلت فيه
الحكومة احتفالاً عظيمًا، حضره كثير من كبار الموظفين والأجانب، وشرب فيه
رياض باشا كأسًا من ماء النيل على ذكر نجاح عمل يتعلق بمنفعة النيل.
(إلغاء الضرائب)
ولم تمض بضعة أشهر على تعيين هذه الوزارة، حتى ألغي نيف وثلاثون
ضريبة من الضرائب الصغيرة التي كانت أخرت بالمصنوعات، وأوقفت حركة
الأعمال التجارية والصناعية الخاصة بالأهالي، وأساءت حال المزارعين , وزيد
مئة وخمسون ألف جنيه على ضريبة الأطيان العشورية؛ تعويضًا لما فات بإلغاء
تلك الضرائب , ولا يخفى أن أغلب هذا النوع من الأطيان في يد الأغنياء، فقد
خف بذلك عن الفقراء ما ثقل على أهل الثروة، وهو مما لا يمحى أثره من نفوس
الفريقين.
وذهب الأفواج من التجار والصناع إلى سراي الإسماعيلية؛ ليعلنوا شكرهم
للجناب الخديوي على إلغاء تلك الرسوم القاتلة للأعمال في مصر, وكان لذلك
احتفال عظيم. ولكن الذوات الكرام لم يحتفلوا له، ولم ير لجماهيرهم سواد حول
السراي ولا داخلها؛ إلا في أيام التشريفات والمقابلات التي ينحصر موضوع الكلام
فيها في حالة الجو وحره وبرده واعتداله، ولا يذكر فيها أمر إلغاء الضرائب،
وربما ذكر فيها استحسان إبقائها أو الزيادة فيها على أن يكون ذلك على الفقراء.
ثم عفت الحكومة عما عجزت عن تحصيله من الضرائب والرسوم المتأخرة
لغاية سنة ١٨٧٦، ورفعت بذلك المطالبة به عن الأهالي، وفرح به كثير من
الأغنياء الذين ظهروا بمظهر العجز، وراوغوا في دفع الضرائب فيما سبق،
وساعدتهما الحظوة على الإمهال إلى ذلك الوقت.
(ميزانية الحكومة ونظام الجباية)
ثم نظم برنامج الإيراد والمنصرف من مال الحكومة (ميزانية) ، وشكلت
لجنة لسماع شكايات المطالبين بالضرائب وإنصافهم , ووضع نظام التحصيل في
الأوقات المعينة حسب على مواسم الزراعة، وعرف الفلاح ما له وما عليه , وهذه
الأمور أجريت طبقًا لما كانت أشارت له لجنة التفتيش العليا، كما صرح به رياض
باشا فيما كتب به إلى لجنة صندوق الدَّيْن.
ولما نظمت أوقات التحصيل على حسب مواسم المحصول، نما في الناس
الشعور بأن الحكومة نوع محدود من النظام، وأنها لا تريد منهم إلا مبالغ معينة ,
وليس من شأنها أن تشغل الأهالي كما تشغل الماشية بدون استبقاء شيء في أيديهم,
وبدأوا يوقنون بأن ما زاد من الضرائب المحددة فهو لهم خصوصًا، بعد ما صدرت
الأوامر الصريحة بأن لا ضريبة توضع إلا بنظام معروف، تراعى فيه المصالح
وتبين فيه الأسباب.
ثم ظهر عقب ذلك مبدأ المساواة بين الأغنياء والفقراء وبين الأجانب
والوطنيين , فقد كان الغني أو الذات الكريمة من ذوات الحكومة يماطل في دفع
الضرائب من سنة إلى سنة، وربما عوفي من دفعها بعد ذلك، ويوزع ما لم يدفعه
على أراضي جيرانه من فقراء الأهالي , وهكذا كان شأن الأجانب بعد ما يأخذون
الأراضي من مالكيها؛ إيفاء لديونهم، أو يشترونها بالثمن البخس عند اشتداد
الضيق على الفلاح وإلحاح الكرباج على بدنه بدفع ما لا يلزمه، وليس في يده منه
شيء.
كانوا يماطلون في دفع الضرائب، وما أبوا دفعه يوزع بغير حق على
المساكين الذين لا حامي لهم. أما بعد مضي أشهر من نظارة رياض باشا، فقد
صدرت الأوامر مشددة بتحصيل ما على الأجانب والذوات بالطريقة التي يجري بها
تحصيل ما على الأهالي بدون مراعاة، وقد نفذت الأوامر بعدما لاقت صعوبات
كثيرة , وظهر عند التنفيذ أن بعض الأغنياء والأجانب كان في ذمته ضرائب سبع
سنين، فحصلت منه بقوة الحكومة , وهذا مما لم يكن يسمع به من قبل.
ثم صدرت أوامر في ابتداء سنة ٨٠ بإلغاء لائحة المقاولة، وإعفاء الممولين
من دفع ما بقي منها. ولكن مع إلغاء الامتياز الذي اكتسبه من دفعها جملة، وبعض
الامتياز الذي ناله من دفع بعضها، وفرح بذلك قوم وسيء به آخرون، وسنذكر
شيئًا من أثر ذلك فيما بعد.
(إبطال الكرباج ومنع الحبس لتحصيل الحقوق)
وصدرت الأوامر بإبطال استعمال الكرباج بتحصيل الأموال الأميرية،
وعجب كثير من الناس من ذلك، وقالوا: كيف يمكن أن يحصَّل مال من الفلاح
بدون ضرب؟ وأنكرته نفوس كثير من المديرين، وظنوا أن قد هدم ركن عظيم
من سلطان الحكومة على قلوب الرعية، ولكن لم يمض إلا قليل حتى ظهر الخزي
على وجوه القائلين بأن الفلاح المصري لا يؤدي ما عليه إلا بالكرباج، وأخذ
الممولون يتسابقون إلى دفع ما عليهم حتى قبل الأجل؛ خوفًا من ضياع النقد عند
حلول الآجال المعينة.
وهكذا صدرت الأوامر مشددة في عهد رياض باشا بمنع الحبس؛ لتحصيل
الحقوق، سواء كانت أميرية أو شخصية، وقد لاقى تنفيذ هذه الأوامر مصاعب
ومقاومات؛ لتمكن الميل إلى الظلم في نفوس أغلب المأمورين. لكن رغمًا عن كل
ذلك فقد ظهر أثره ظهورًا بينًا. ولم تأت آخر مدة رياض باشا حتى محي أثر
الحبس لتحصيل الحقوق إلا ما ندر ولم يكن يعرف , ومن غرائب آثار التعود على
الظلم وعلى رؤيته ملازمًا للسلطة في مصر؛ أن الذين حفظت أبدانهم من الضرب
والجلد وأرواحهم وأجسامهم من الحبس في سبيل اقتضاء الحقوق، سواء كانت
للحكومة أو للأفراد، كأنهم يعدون تلك الأوامر مخالفة لما يجب أن يعاملوا به , وأن
لا يفيد فيهم إلا الكرباج، كما لا يزال قوم منهم يقولون بذلك إلى اليوم , وكانوا
يهزءون بتلك الرحمة. اللهم إلا الذين لمع في عقولهم روح الفهم ووصل إلى
أبصارهم شعاع الإحساس؛ بما للإنسان من حق التكرمة التي خصه الله بها. ا. هـ
المراد.
هذا ما ننقله من صفحات هذا التاريخ الصادق؛ للاستدلال به على أن رياض
باشا كان من الرجال المصلحين في إدارة الحكومة , وإن لنا لمجالاً واسعًا في
الاستدلال على سائر ما ذكرنا من أخلاقه وصفاته الحميدة.
((يتبع بمقال تالٍ))