للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: يماني


السيد الإدريسي
والحكومة العثمانية
لصاحب الإمضاء

ولد السيد محمد الإدريسي في بلدة (صبية) من أعمال العسير واسم والده السيد
علي وجده السيد محمد وجد والده السيد أحمد الإدريسي رحمهم الله، وهذا هو الذي
هاجر من المغرب منذ سبعين سنة تقريبًا إلى جهات عسير.
اشتهر والد السيد الإدريسي وأجداده وجميع أفراد عشيرته بالصلاح والتقوى
والعفة والاستقامة وخدمة الدين الحنيف والشريعة الغراء فأصبحت هذه الشريعة
الكريمة موضع إجلال اليمانيين واحترامهم، واتفقت كلمة الناس على حب رجالها
وسماع نصائحهم والرجوع إليهم في كثير من الشئون المهمة، وهذا من أهم
الأسباب التي مهدت للسيد محمد سبيل الظهور في هذا المظهر، مظهر السيادة
والإمارة.
حفظ السيد محمد القرآن، وأخذ بعض العلوم والفنون على أساتذة يمانيين في
صبية، وكان والده رحمه الله يمنعه من الاختلاط بالناس. ويقال: إن السيد
الإدريسي لم يخالط الناس إلا بعد أن جاوزت سنه العشرين.
ذهب السيد محمد إلى الأزهر في مصر وهو في سن الخامسة والعشرين
فدرس فيه بقية العلوم والفنون مدة ٧-٨ سنوات ثم غادر مصر إلى السودان فلبث
هنالك سنة وأشهرًا، ومنها عاد إلى جهات العسير حيث يقيم الآن. وهو اليوم في
سن التاسعة والثلاثين، قوي البنية طويل القامة، صحيح الجسم، أسمر اللون،
وعلائم الدهاء والذكاء والمتانة والرزانة بادية على وجهه.
لا يخاطب السيد الإدريسي اليمانيين في خطاباته إلا بالآيات القرآنية
والأحاديث النبوية، ولم يَسْتَمِلْهم إليه ويمتلك قلوبهم ويتسلط على عقولهم إلا بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وخدمة الدين والشريعة بالفعل، ومنع الغزو وإبطاله،
وإزالة الشقاق والاختلافات القديمة من بين القبائل والعشائر، وإحقاق الحق
وتطبيق العدالة والمساواة بين الكبير والصغير والرفيع والوضيع من الأهلين.
نعم، إن السيد الإدريسي لم يستمل اليمانيين، كما زعم بعض الكاذبين
المنافقين، باستعمال الفوسفور والكهرباء وغير ذلك من الاختراعات العصرية
الجديدة التي لم ترها عربان اليمن بعدُ، قصد إقناعهم بولايته أو نبوته، بل استمالهم
بالحجة والبرهان والمبادئ القويمة الصحيحة، ولم نسمع ونحن من صميم اليمن أن
السيد الإدريسي ادعى هذه الدعوى أي الولاية، وما أشبه.
اليمانيون يحبون السيد الإدريسي حبًّا كالعبادة، وينقادون له انقيادًا أعمى
ويطيعونه طاعة زائدة، وينفذون أوامره بكل ارتياح، والسعيد منهم من يتشرف
بمقابلته ويتبارك بتقبيل يده وركبته، كل ذلك ناشئ من شدة تمسكه بقواعد العدل
والمساواة وتطبيقها بين جميع الطبقات، واعتبار الجميع واحدًا في القضاء
والمعاملات.
قبل أن يعود السيد الإدريسي من مصر إلى عسير كانت الفوضى في هذه
الأنحاء منتشرة والأمن مفقودًا، والراحة مسلوبة والغزو كثيرًا، واعتداء القوي على
الضعيف أمرًا مألوفًا، وكان الابن يخاف على نفسه من والده، والوالد لا يأمن على
حياته من ولده، وكان الإنسان يجلس في الظلام ليلاً خوفًا من أن يراه عدوه إذا أنار
المصباح فيطلق عليه الرصاص، وكانت الطرقات مسدودة لكثرة اللصوص وقطاع
الطريق.
والخلاصة: كانت الأهالي بأشد حالات الضيق من هذه الأحوال التي تسلب
الراحة، ففرج الله عنهم بقدوم السيد الإدريسي إلى العسير حيث بدأ بنصح وإرشاد
القبائل وشرع في نشر مبادئه وتعاليمه الدينية والمدنية بينهم، فاستمالهم إليه،
وامتلك قلوبهم وجمع حوله منهم قوة، ثم أخذ بتطبيق أحكام الشريعة عليهم بدون
محاباة ولا مراعاة، فأعدم المئين من الرجال الذين ارتكبوا جريمة القتل، وقطع أيدٍ
كثيرة إقامة لحد السرقة، فاستتب الأمن، وبطل الغزو، وزال الشقاق، وحل محله
الوفاق بين القبائل، ووقف القوي عند حده، وامتد رواق العدل والمساواة في تلك
الأصقاع، فارتاحت الأهالي وأمنت على أرواحها وأموالها، وصاروا كلما ذكروا
عذاب الماضي وقاسوه بنعيم الحاضر يتضاعف حبهم للسيد الإدريسي، وتزداد
طاعتهم له وانقيادهم لأوامره وتقوى الروابط بينه وبينهم.
أعدم السيد الإدريسي عددًا كبيرًا من كبار القوم الذين ارتكبوا جريمة قتل
الأبرياء الضعفاء قصاصًا ولم يلتفت إلى علو كعبهم ورفعة منزلتهم بين قومهم،
ولا إلى شرفهم وعظمتهم ونفوذهم، فلم يغضب لهذا الأمر إنسان لأنه عدل وحق.
قاعدة السيد الإدريسي في الحكم والإدارة العدل، وهو عنده فوق كل شيء،
وهذا مما جعل الرأي العام في جهات جزيرة العرب وفي جهات العسير منها خاصة
يميل إليه ويحب خطته ويطري مبادئه ويثني على منهجه القويم.
السيد الإدريسي لم يفاجئ الحكومة العثمانية بالعدوان ولم يعلن عليها الحرب
في حين من الأحيان، بل كان الأمر بالعكس، فإن الباب العالي كان يصغي
لأكاذيب ولاة اليمن وقوادها الجهلة المغرورين الذين كانوا يوسوسون له ويدسون
الدسائس ضد الإدريسي فيأمر - أي الباب العالي - بتجييش الجيوش وتسيير
الحملات على السيد فيضطر هذا إلى الدفاع فالهجوم فسحق القوات فحصار المدن
والثغور فالاستيلاء عليها.
في واقعة واحدة من الوقائع العديدة العظيمة التي حصلت بين رجال السيد
وبين الجيش العثماني وهي واقعة جازان المشهورة، قُتل من الجنود العثمانية أكثر من
أربعة آلاف عسكري، ولم يعرف عدد الجرحى، والتجأ قائد الجيش الميرالاي
محمد راغب بك إلى السيد خوفًا من فتك الضباط به بسبب الخطأ الذي ارتكبه في
هذه الواقعة على زعمهم. وبقي هذا القائد التركي عند السيد معززًا مكرمًا مدة سنة
ونصف ثم فر هاربًا بدون أن يستأذن من السيد مع أن السيد كان تاركًا له الحرية في
السفر أو البقاء، على باخرة إنكليزية كانت مرت بجازان.
لما أعلنت إيطالية الحرب على الدولة العثمانية أخلت هذه في الحال ميناء
جازان من العسكر ولم يتيسر لها لضيق الوقت ولقلة وسائط النقل أن تنقل إلى
الحديدة غير الجنود فقط، وتركت السلاح والمؤنة والذخائر والخيام والبغال. تركت
أشياء كثيرة كانت معدة لحملة عسكرية مؤلفة من خمسة وعشرين تابورًا، فاستولى
السيد الإدريسي على ما تركوه ودخل جازان، وهي أعظم ميناء على السواحل
اليمانية بعد الحديدة، ولا تزال في يده كما أنه استولى بعد ذلك على غيرها من
المواني مثل ميدي وشفيق وحبل وبركة والفوز، وفي ميدي قلعة كبيرة مهمة
أخذها الإدريسي بما فيها من المدافع والذخائر.
ولقد تمكن السيد الإدريسي منذ نشبت الحرب بين الحكومة العثمانية وإيطاليا
إلى الآن من جلب أكثر من مائة ألف بندقية وخمسين مدفعًا ونيف من درجات
مختلفة أي كبيرة ومتوسطة وصغيرة؛ لأن الطليان كانوا أغرقوا وأسروا بواخر
خفر السواحل العثمانية كلها فخلا للسيد الجو وانتهز هذه الفرصة الثمينة واستعد
استعدادًا عظيمًا، ولديه الآن أكثر من عشرين مدفعًا من المدافع الكبيرة التي ترمي
إلى مسافة ١٢-١٥ كيلو متر وهي موضوعة في الحصون التي أنشأها في السواحل
الثغور التي بيده، وقد تعلمت الجنود العربية استعمال المدافع واستخدامها في
الحروب، وبرعوا جدًّا في إطلاق القنابل، ولا يزال عند السيد عشرات من أفراد
الجند وضباط الصف (الجاويشية) العثمانيين الذين أسروا أو التجأوا إليه في
الحروب ومعظم هؤلاء من صنف المدفعية، وإذا أضفنا عدد المدافع التي أخذها
السيد من جيوش الدولة في الحروب، والبنادق التي استولى عليها والتي كانت عند
العربان من قبل إلى الأرقام السالفة الذكر يمكنا بلا مبالغة أن نقول: إن لدى السيد
الإدريسي الآن أكثر من تسعين مدفعًا ومن مائتي (٢٠٠) ألف بندقية جديدة من
أحدث طرز، ومعظم البنادق الجديدة محفوظة مع ذخيرتها الكافية الوافية لوقت
الحاجة في المخازن التي بنيت بصورة مخصوصة.
في قبضة السيد الإدريسي الآن عدة مواني أهمها جازان وميدي وشفيق وبركة
وحبل والفوز، كما ذكرنا آنفا، وفي كل ميناء منهن جمرك له عمال موظفون من
قبل السيد لاستيفاء الرسوم الجمركية من الواردات والصادرات، والرسوم التي
يتقاضاها السيد أقل من الرسوم التي كانت تأخذها الدولة.
والتجارة كثيرة جدًّا بين هذه الثغور وبين عدن ومصوع؛ لأن هذه الثغور
هي مواني قطعة العسير كلها وبعض جهات اليمن والحجاز، والسنابك [١] تروح
وتغدو بينها وبين مصوع وعدن دائمًا، والأمن مستتب، والرشوة ولله الحمد مفقودة،
والعدل موجود، والظلم معدوم، والتسهيلات متوفرة، والناس كلها ألسن مدح
وثناء على السيد الإدريسي الذي أحيا هذه القطعة وأصلح شئون أهلها.
ولقد انتشر نفوذ السيد الإدريسي كثيرًا من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق
إلى الغرب حتى السواحل بقدر ما قل وتناقص نفوذ الإمام يحيى، لأسباب لا محل
لذكرها هنا. حتى إن كثيرًا من القبائل التي كان عليها معظم المعول عند الإمام
يحيى أتت لعند السيد الإدريسي وبايعته ووضعت عنده الرهائن من أولاد زعمائها،
وفي مقدمة هذه القبائل قبيلة حاشد العظيمة التي يقودها الشيخ ناصر بخيت.
على رأس كل قبيلة من قبائل العسير قاضٍ وأمير من قِبل السيد الإدريسي،
فالأول ينظر في الشئون القضائية، والثاني ينظر في الشئون الإدارية والحربية،
ويجمع الزكاة الشرعية للسيد، والمخابرات الرسمية جارية بكمال الدقة والاهتمام
بين المركز والضواحي.
عند السيد الإدريسي وكيل اسمه يحيى زكريا وهو بمثابة رئيس الحجاب أو
الصدر الأعظم، وأمين لبيت المال واسمه محمد يحيى وهو بمثابة ناظر المالية،
وكثير من القواد وكلهم يحملون السيوف دائمًا ولهم شارات مخصوصة كل بحسب
رتبته ومقامه.
أرسل قائمقام لحية إبراهيم بك خليل بتاريخ ١٠ مارس سنة ١٩١٣ كتابًا إلى
السيد الإدريسي يطلب فيه الإذن بمقابلته فأذن له فجاء وأخبر السيد بأن الوالي
محمود نديم بك تلقى من الباب العالي أوامر تقضي بمخابرته بأمر الصلح وحسم
المشاكل وفض الاختلافات التي بينه وبين الدولة، وسأله هل يقبل بفتح المفاوضات،
فقبل السيد، فقفل القائمقام المذكور راجعًا إلى لحية وأخبر بذلك الوالي برقيًّا،
فغادر محمود نديم بك ومعه القائد سعيد باشا صنعاء ووصلا إلى لحية في ٢٧ مارس
سنة ١٩١٣، وأرسلا كتابًا إلى السيد يطلبان فيه حضوره لثغر ميدي ليقترب منهما
فأرسل السيد مِن قِبله هيئة لمخاطبتهما على رأسها أمينه محمد يحيى بخطاب يقول
فيه: بلغوا كل ما تريدون لهذا الأمين وهو يوصله إليَّ حتى أعلم ما تريدون [٢] .
كانت مطالب السيد الإدريسي قبل ثلاث سنوات - كما ذكرها هو في كتابه
إلى الإمام بسيطة جدًّا، أما مطالبه اليوم فهي لا تشابه تلك المطالب بوجه من
الوجوه.
ففي ذلك الحين لم يكن في يد السيد الإدريسي ثغر من الثغور البحرية وقد
أصبح اليوم في قبضة يده عدة مواني كما تقدم في كل واحد منهن بضعة مدافع كبيرة
تحميها. وفي ذلك الحين لم يكن قد وقع بين رجاله وبين الدولة سفك دماء، وكان
ذلك قبل حرب الطليان وما تلاها من المصائب وحرب البلقان وما أعقبها من
النوائب، وجملة القول أن كلاً من حالته وحالة الدولة لم تكن مثل ما هي الآن.
يحق للسيد الإدريسي اليوم أن لا يرضى لما كان رضي به قبل ثلاث سنوات،
ولم ترضَ به الحكومة العثمانية؛ لأن نفوذه خلال هذه المدة انتشر بين القبائل
انتشارًا هائلاً، وأحواله انتظمت ورجاله تسلحت، وقبائله استعدت، وعساكره
تعلمت وتمرنت على إطلاق القنابل واستعمال المدافع الكبيرة والصغيرة، وقد
علمت من رجل كبير من رجاله أنه سيستمسك بالمطالب الآتية:
١- الاستقلال الإداري التام تحت سيادة الدولة.
٢- أن لا تتدخل الدولة في شئون موظفي البلاد التي في قبضة يده والتي
سيبين حدودها في المعاهدة.
٣- أن تكون الراية الهلال والنجم مع كلمة التوحيد لا إله إلا الله من جهة
ومحمد رسول الله من الجهة الأخرى.
٤- أن تكون الجنود محلية وعددها كافٍ لحماية البلاد في زمن السلم والحرب.
٥- أن تكون الجمارك في الثغور راجعةً إلى الإمارة الإدريسية والمعاهدات
التجارية مع الدول من حقها أيضًا.
٦- أن تكون الأحكام طبق الشريعة الغراء، واللغة الرسمية هي اللغة العربية
فقط بحيث لا تعرف لغة سواها في التعليم والقضاء والإدارة وفي المخابرات
الرسمية مع الآستانة.
٧- كل ما ينشأ من المنافع العمومية كالسكك الحديدية والتلغراف والتليفون في
جهات العسير يجب أن تكون لمنفعة الإمارة وخاصة بها وخاضعة لها.
٨- أن يصدر بهذا الاتفاق فرمان سلطاني قبل أن يجتمع مجلس المبعوثين
العثماني يؤتى به من الآستانة على يد مندوب عالٍ وعلى سفينة حربية ويقرأ
باحتفال عام في المكان الذي يختاره الأمير الإدريسي.
هذه هي أهم المواد الأساسية العمومية التي سيطلبها الإدريسي، وهناك مسائل
أخرى خصوصية وفرعية لا أهمية لها. ولا نظن أن الصلح يتم بين السيد
الإدريسي وبين الحكومة العثمانية إذا رفضت هذه مطلبًا واحدًا من هذه المطالب
الثمانية، ومن قاس هذه المطالب بمطالب السيد الأولى يتبين له الفرق العظيم بين
هذه وتلك كما يظهر له جليًّا بُعْدُ نظر رجال الحكومة العثمانية وطول باعهم في
السياسة والإدارة والسلام.
مصوع ٧ مايو ١٩١٣ ... ... ... ... ... ... يماني
(المنار)
لم يبق للدولة مع هذه المطالب إلا اسم السيادة فلا يعقل أن تقبلها، فإن كانت
تعجز عنه الآن فإنها تفضل السكوت على إعطائه فرمانًا تقيد به نفسها، والمعقول
أن يكون للدولة مع الاستقلال الإداري بعض الحقوق العامة كاشتراط موافقتها على
العهود التجارية مع الدول وأخذ شيء مما يزيد على نفقات البلاد من دخلها.