(هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك) العبادات العملية الظاهرة لا مجال للخلاف في أركانها وواجباتها؛ لأنها نقلت بالعلم الذي لا يحتمل التأويل؛ ولذلك ترى صلاة السنيين على اختلاف مذاهبهم والشيعة الإمامية والزيدية والخوارج الإباضية وغير الإباضية كلها واحدة، وإنما وقع خلاف بينهم في بعض الأعمال غير المرفوضة؛ كرفع اليدين عند الركوع والقيام، والقنوت في صلاة الفجر؛ وسبب هذا الخلاف أن النبي (صلى الله عليه وسلم) فعل ذلك في بعض الأوقات وتركه في بعضها لسبب أو لغير سبب يعرف، فأخذ بعضهم دائمًا برواية الفعل وبعضهم برواية الترك أو عدم الفعل، وكان الأظهر فيما عرف سببه أن يناط به، وما لم يعرف سببه أن يفعل تارة ويترك أخرى، ولا يختلف طوائف المسلمين فيه، فإن الاختلاف في الأعمال من أسباب اختلاف القلوب كما يعلم من أحاديث الأمر باستواء الصفوف في الصلاة، ومن التجربة الدالة على كون ذلك من سنن الله تعالى في خلقه، وقد اهتدى إلى هذه السنة الأمم العليمة بطبائع النفوس وأخلاقها وسنن الاجتماع، فاجتهدوا في جعل أفرادهم متفقين في الأخلاق والآداب المنزلية والاجتماعية والعادات في اللباس والطعام والشراب وغير ذلك، وكان هذا من أسباب اتحادهم وقوتهم واستيلائهم على البلاد الإسلامية وغيرها، وهذه هي الحكمة في تشديد النبي (صلى الله عليه وسلم) في تسوية الصفوف بقوله: (لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفَنَّ الله بين قلوبكم) أو قال بين وجوهكم رواه الشيخان في صحيحهما، وأصحاب السنن من حديث النعمان بن بشير (رضي الله عنه) ، والوجوه يراد بها القلوب، فهل قدرنا هذا القسم حق قدره، وبحثنا عن حكمته وسره؟ ، إنما حكمته وسره ما ذكرنا، وفي معناه التشديد في رفع الرأس قبل الإمام، ولكن وُجد في خَلَف المسلمين أقوام فُتنوا بحب الخلاف فصاروا يتعلقون بأوهى الروايات وأضعفها؛ ليخالفوا سائر إخوانهم في عمل ما ولاسيما إذا كان دينيًّا، وكنا نرى أن أغرب خلاف بين المسلمين في صلاتهم هو إرسال اليدين في الصلاة الذي جرى عليه إخواننا المالكية؛ لا لأنهم خالفوا سائر المسلمين فيه، بل لأننا لم نعرف له أصلاً في كتب السُّنة: لا في موطأ مالك ولا في غيره، فكنا نقول: كيف قال بذلك عالم دار الهجرة، ولم يَرْوِ هو ولا غيره فيه شيئًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عن أحد من أصحابه (رضي الله عنه) . وقد كشف الغُمَّة في هذه المسألة صديقنا الشيخ محمد المكي بن عزوز في رسالة له سماها: (هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك) ، فبيَّن بالنقول الكثيرة من أشهر علماء هذا المذهب أنه لا خلاف بين المسلمين في هذه المسألة، فمذهب المالكية كسائر المذاهب فيها، وأن سبب ما جرى عليه المالكية منذ قرون هو رواية لابن قاسم في المدوَّنة عن مالك معناها الذي أوضحه المحققون أنه يكره القبض بوضع اليمنى على اليسرى إذا قصد المصلي الاعتماد والاستناد لأجل الاستراحة وخَصَّ ذلك بصلاة الفريضة، والمراد أنه يكره لمصلي الفريضة أن يقصد الاعتماد والاستناد بقبض يديه، وإنما ينبغي أن يقصد بذلك السنة، ونقل عن كثير من فقهائهم التصريح بأنه لو فعل ذلك لا للاعتماد بل تَسنُّنًا لا يكره، وأنه لا يكره في النفل ولو قصد به الاعتماد، وإن في هذه المسألة لعبرة يتبين بها الفرق بين المقلدين العُمْيان الذين لا بصيرة لهم في دينهم؛ وبين أهل البصيرة من المستقلين والمتبعين للأئمة والفقهاء. قلنا مرارًا: إنه يجب على جميع المسلمين أن يهتدوا بالكتاب والسنة، وأن ذلك لا يمنعهم من اتباع أئمة العلم والانتفاع بكتبهم، فالمتبع لهم حقيقة لا تنقطع صلته بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما المقلد الأعمى الذي يتبع آباءه ومشايخه من حيث لا يعلم وجه صلتهم بالكتاب والسنة؛ فهو منقطع عن تلك الهداية غير معتصم بحبل الله كما أمر عز وجل، فهو يأخذ عنهم الحكم الموافق لا من حيث إنه موافق، ويأخذ عنهم الحكم المخالف وقد يدري أنه مخالف وشبهته وشبهة من قلدهم أن أولئك الأئمة أعلمنا بالكتاب والسنة، فيجب أن نعتمد على فهمهم لهما دون فهمنا، ونحن على تقدير تسليم أن الله يكلف كل إنسان بما يفهمه من يظن هو أنه أجود منه فهمًا، نقول أولاً: إن معنى اتباعنا لهذا الجيد الفهم هو أن نتلقى عنه الكتاب والسنة، ونعمل بما يلقيه إلينا من فهمه لهما وما عليه جماهير المقلدين من الخلَف الجاهلين ليس كذلك، فإن أحدًا منهم لم يتلق شيئًا عن إمام مجتهد، وإنما يتلقى دينه من آبائه ومشايخه المقلدين كما فهموا من مشايخهم المقلدين ومن كتب أمثالهم عصرًا بعد عصر، وقد يكون مشايخنا مخطئين وهكذا كما أخطأ الملايين من المالكية قرنًا بعد قرن في ترك سنة قبض اليدين، وعزوا ذلك إلى مالك خطأ في فهم رواية ابن قاسم عنه: فما جاز في هذه المسألة عليهم ووقع منهم، يجوز مثله على غيرهم ويقع منهم بل هو واقع لا محالة، فإن المسائل الخلافية الكثيرة لا يعقل أن يكون المصيب فيها دائمًا واحدًا، وإنما يكون كل منهم مصيبًا في بعضها ومخطئًا في البعض الآخر، وحكم الله في مثلها أن ترد إلى الكتاب والسنة فإنها هي المسائل المتنازع فيها، وقد قال عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) أي ردوه إلى كتاب الله ورسوله في عصره وإلى سنته بعد وفاته. فلو جرى الخلَف منا على سنة سلفنا الصالح؛ في جعل علم الدين بيانًا للكتاب والسنة دائمًا؛ لَمَا استمر الجمهور منا على الخطأ في شيء زمنًا طويلاً؛ ولَمَا تفرقت كلمتنا، ولو جعلنا الواسطة بيننا وبين الكتاب والسنة كلام الأئمة المجتهدين الأولين وحدهم؛ لَمَا بعدنا عنهما هذا البعد الشاسع لا سيما إذا اتبعناهم فيما أمروا به من رد كلامهم إلى كلام الله وسنة رسوله دون العكس، ولكن الوسائط كثرت بيننا وبينهم جدًّا، فنحن مخدوعون بدعوى اتباع الأئمة، ولم نتلق عنهم ولم نقرأ ما كتبوه بأيديهم، وليس لأكثر ما نعزوه إليهم أسانيد متصلة كأسانيد السنة، نميز بين صحيحها وضعيفها وموضوعها بالرجوع إلى تاريخ رجالها. وجملة القول: أن هذه الرسالة (هيئة الناسك) قد جاءت حجة ناصعة على المقلدين العميان؛ الذين يزعمون أنهم باتباع آبائهم ومشايخهم آخذون بما فهمه الأئمة المجتهدون عليهم الرحمة والرضوان من الكتاب والسنة، ومستغنون به عن دراستهما وفهمهما والاهتداء بهما مباشرة أو بواسطة ما فسرهما به الأئمة فقط. هذا وإن أكثر الناس يُؤْثرون ما اعتادوه على ما يصح عن الأئمة، كما يُؤْثرونه على الكتاب والسنة، وسترى هؤلاء يصرون على سَدْل أيديهم في الصلاة ولا يرجعون عنه بعد ما بين لهم هذا العالم الواسع الاطلاع أن مذهب مالك وأساطين علماء مذهبه؛ هو مذهب سائر المسلمين الثابت بالسنة الصحيحة قولاً وعملاً، وإنما يَرْجع إلى ذلك بعض الأنقياء الذين يؤثرون الحق على العادات والتعاليم الموروثة، وههنا يظهر فضل علماء المالكية، فإن رجعوا بالعامة إلى العمل بهذه السنة وموافقة المنتمين إلى سائر الأئمة، فذلك مما يحمد لهم ويُحْمَدُ الله على توفيقهم للحق والإنصاف. وإننا نذكر عناوين أبواب الرسالة؛ ترغيبًا للناس في مطالعتها والاعتبار بها وهي عشرة: ١- في نصوص الفقهاء على مشروعية القبض وكراهة السدل. ٢- في تأويل رواية ابن القاسم كراهة القبض. ٣- في احتجاج الفقهاء المحققين لسنة وضع اليد على اليد في الصلاة. ٤- في اتفاق جميع شرائع الأنبياء على سُنِّية ذلك. ٥- في أن القول المشهور لا ينحصر في المدونة. ٦- في الفرق بين المشهور والراجح. ٧- في محل اليدين عند الوضع. ٨- في تكميل مهم قاطع للنزاع في المسألة. ٩- في عذر الأفاضل الذين كانوا قائلين بالسدل. ١٠- في جواز الإفتاء بالسدل لمن علم كراهته وكونه بدعة. فجزى الله المؤلف الجزاء الأَوْفَى؛ فإنه لم يؤيد السنة على البدعة فقط، بل أيد الإصلاح الإسلامي بتأييد هذه السنة، وكشف شبهة البدعة عن وجهها، وهكذا يكون نفع العلماء المستقلين الذين لا يكتفون بما ورثوه عن الآباء والمعاشر، بل يطلبون بأنفسهم الحق اليقين. *** (حسن الصحابة في شرح أشعار الصحابة) الشعر ديوان العرب، ومادة الأدب، وخير أشعار العرب وأنفعها شعر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ فإن فيه ما في شعر الجاهلية من الفوائد وزيادة فإنه يشارك شعر الجاهلية في ضبط متن اللغة، وجواز الاستشهاد به في بيان فنونها من النحو والصرف والبلاغة، والاستعانة به على فهم القرآن والحديث وغير ذلك من الفوائد؛ كتاريخ العرب وأنسابهم وسائر شؤونهم، ويزيد عليه بما فيه من النزاهة والآداب وبيان نشأة الإسلام ومبدأ تاريخه، وشيء من فضائله وآدابه، فالرغبة في تحصيله يجب أن تكون أقوى، والعناية به ينبغي أن تكون أتم وقد كان متفرقًا في كتب السير والتاريخ والأدب، فوفق الله لهم من عُنِيَ بجمعه وشرحه؛ ليسهل تحصيله ودرسه وحفظه وفهمه، ذلك الذي ادخر الله له هذه المنقبة هو الشيخ علي فهمي بن شاكر الموستاري المعروف بلقب (جابي زاده) الذي كان مفتيًا في هرسك، ثم هاجر إلى القسطنطينية، وصار معلمًا للأدبيات العربية في دار الفنون أعلى مدارسها وأرقاها. لقيت هذا الرجل الصالح، فألفيت عنده من العناية بأشعار العرب وأنسابها ما لم أجده أو مثله عند أحد في دار السلطنة؛ إلا أن يكون الشيخ محمد خالص أفندي وكيل الدرس في المشيخة الإسلامية، على ما عند علماء هذه الديار من الضعف في هذه اللغة؛ لتقليهم علومها الآلية والشرعية بالترجمة؛ لأن السياسة قضت بأن لا تُقَوى اللغة العربية في العنصر التركي، بل أقول قلما يوجد في مصر وسورية من له عناية بأنساب العرب وأشعارهم وآدابهم كهذا العالم الموستاري الهرسكي، الذي نشأ في ظل حكومة النمسا نشوءه العلمي. رتب المؤلف ما جمعه من أشعار الصحابة على حروف المعجم، وقد طبع الجزء الأول من شرحه لها، فبلغت صفحاته ٣٦٢ وهو من قافية الهمزة إلى قافية الدال. ومن طريقته في هذا الشرح أنه يترجم كل صحابي له شعر عند ذكر أول شِعْر له، وهو يعزو كل شعر إلى الكتب التي نقله منها، وما كان مختلفًا في عزوه إلى صاحبه ذكر الخلاف في ذلك، ومن طريقته في الشرح أنه يفسر المفردات، ويبين معاني الجمل، ويشرح الوقائع التاريخية التي تشير إليها الأبيات، ويأتي عليها بالشواهد والأمثلة أحيانًا، ويبين إعراب بعض الجمل عند ما يرى حاجة إلى ذلك. والكتاب يباع في مكتبة المنار، وثمن النسخة منه اثنا عشر قرشًا ما عدا أجرة البريد، فنحث طلاب الأدب على مطالعته؛ فإنه من خير الكتب التي تطبع مَلَكَة اللغة في النفس، وتعين مطالعها على إجادة النظم والنثر؛ وعسى أن يُقَرر في مدارس الحكومة؛ فإنه من أفضل كتب الأدب التي ترغب في مثلها نظارة المعارف. *** (طَلِبَة الطالب في شرح لامية أبي طالب) هي رسالة لطيفة، شرح بها صاحب هذا الكتاب قصيدة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكافله وناصره اللامية الشهيرة، وقد سبق لنا نشر هذه القصيدة البليغة في المنار، وياليت كل طالب للأدب يحفظ هذه القصيدة ويستفيد من بلاغتها وهي تباع أيضًا في مكتبة المنار، وثمن النسخة منها قرشان. *** (تحرير المرأة - ترجمتة) ترجم (الأصمعي) كتاب تحرير المرأة المشهور بالتركية، والأصمعي هذا معروف عند الأدباء بما ترجمه من الآثار العربية بالتركية ككتاب السياسة الشرعية وغيره، وقد طبعت الترجمة التركية بعد الانقلاب العثماني، وكان يظن أنها تروج في الآستانة، ولكن لم تكد نسخها تعرف فيها، حتى قرر مجلس الوكلاء (النظار) منعه، فكان ذلك غريبًا جدًّا مع كثرة خوض كتاب الترك في مسألة النساء والحجاب وتقبيح بعضهم للحجاب وتنفيرهم منه، حتى بَعْد منع هذا الكتاب، وربما نذكر شيئًا من ذلك في جزء آخر، وأغرب من هذا أن الحكومة العثمانية تمنع القول في شيء تساعد عليه بالعمل، فإنها كما قيل مساعدة لأحمد رضا بك رئيس مجلس المبعوثين على المدرسة التي يريد أن يعلم فيها بنات المسلمين مع بنات الإفرنج وغيرهم؛ من غير تربية دينية ولا تعليم إسلامي.