لا أكذب القارئ أني قليل التفاؤل بهذه النهضة النسائية التي نجم قرنها في خلال المظاهرات السياسية عام ١٩١٩ ضعيف الثقة بنتاج هذه الحركة التي لا أجد فيها أثرًا للبركة المزعومة، اللهم إلا إذا بقينا نتمسك بالقشور ونهمل اللباب أو تظل حياتنا مليئة بالأوهام لا تطل عليها الحقائق. لا أتعرض للحجاب؛ إذ لم يبق من حجاب، ولا أبحث في السفور فقد تخطينا السفور من جميع نواحيه، ولكني أريد أن أنفذ إلى صميم النهضة فأحلل ما فيها من خير وشر وغَثّ وسمين. يزعم المتكلمون في شئون النهضة النسائية في مصرنا سواء كانوا من الرجال أو النساء أن المرأة المصرية نهضت، فقد كثر المتعلمات وشرعن يظهرن بمظهر المتمدنات، حتى صارت فيهن العالمة الفاضلة والخطيبة المُفَوَّهَة والكاتبة الجريئة، والمدارس الرسمية وغير الرسمية تُخَرِّج في كل عام خريجات حصلن على نصيب من العلم غير قليل، فهذه النهضة، وإن تكن كالطبل يدوي من بعيد إلا أن لها شأنها في حركة التقدم الإنساني المستمر أليس الرمد خيرًا من العمى؟ هذه كل صفات النهضة النسائية التي صار بعض أعضائها يطالبن بالانتخابات السياسية وبعضهن يحضرن المؤتمرات النسائية العالمية والبعض الآخر يطلبن مساواة المرأة بالرجل مساواة تجعل العاقل يضحك حتى يستلقي على قفاه. وإذا ألقيت نظرة صادقة على جميع هذه المدعيات العريضة تجدها جوفاء أو قل بتواضع: إنها مجموعة قشور خالية من اللباب. إن نهوض المرأة كنهوض الرجل يجب أن يكون مبنيًّا على أساس ثابت وضعت أحجاره المتينة وضعًا محكمًا بمصلحة الوطن الحقيقية وإلا كان هذا النهوض ككل بناء لا أساس له. ولأجل أن نختصر لك الطريق فلا ندعك تتوغل في أعماق البحث نذكر لك أن أساس هذه النهضة النسائية المكذوبة المدارس، وأنت تعلم أن برامج المدارس وخصوصًا للبنات المسلمات ليس فيها من العلم الصحيح علم واحد، فكل العلوم سطحية خصوصًا ما كانت علاقته بالحياة العملية علاقة مباشرة، ولسنا في حاجة إلى أن نضرب لك الأمثال فوزارة المعارف المصرية لا يوجد فيها رجل واحد يدعي بحق أن هذه الوزارة وفقت حتى الساعة إلى برنامج يستطيع منفذوه أن يرفعوا به مستوى الفتاة المسلمة وكل ما وضعوه هو مجموعة برامج تخرج فتيات لا يعرفن العلم ويحتقرن الجهل، يقدرن العمل ولا يعرفن كيف العمل في أبسط وظائف المرأة في الحياة، وأما المظاهر الفارغة وهي عبارة عن بعض الرطانة باللغات الإفرنجية والعزف على آلة البيانو أو معرفة شيء من الجغرافية الناقصة والتاريخ المُشَوَّه والأدب المقلوب، فهذا كله من أسباب خروج الفتيات من حظيرة الجد والعمل إلى فضاء الفوضى والانصراف إلى المظاهر الفارغة التي يستغلها الأوربي بملابسه وأزيائه وأصباغه التي رمانا بها من عهد بعيد، وأغرقنا فيها من عهد قريب. ليس في مصر نهضة نسائية ولا شبه نسائية؛ لأن الفتاة التي تحمل اليوم أعلى الشهادات المصرية لا تعرف شيئًا عن فن تربية الأولاد، وهو أسمى وظائف المرأة قديمًا وحديثًا، وخصوصًا بعد أن نفذ العلم في كل شئون الحياة، فالفتاة التي لا تستطيع إدارة منزلها على قواعد الاقتصاد الصحيح والنظافة الصحيحة الحديثة، والعمل بيدها في مطبخها عملاً أسمى في مجموعه من عمل الطاهي أو الطاهية الأميين لم تستفد من علمها ولم تنهض حقًّا، والفتاة التي لم تتعلم في المدرسة حقيقة دينها والفضائل التي تعصمها من الرذيلة على اختلاف أنواعها لا تستطيع أن تهيئ للأمة أبناء صالحين لأمتهم ودينهم بل لم تنهض، بل لم تشرف بعدُ على قمة النهوض ولا على قاعدته، ثم المرأة التي لا تحسن معاشرة الزوج بل تنفره من الحياة الزوجية، وقد خلقت لتساعده عليها لم تنهض. ثم أختصر لك الطريق فأسألك أيها القارئ الحكيم هل تمشي في شوارعنا شوارع القاهرة؟ أجل إنك تمشي كل يوم تستعرض هذه الجماهير النسائية، ولا سيما اللواتي ينم مظهرهن على أنهن حملن شهادات المدارس، ولا سيما العالية، أتُراك تجد في مظاهرهن شيئًا من مظاهر الحياة الصحيحة اللهم ما خلا الصحة في البعض التي جاءتهن عفوًا وبلا عناء؟ ألم تر التبرج الذي لا تسيغه حتى الهمجية؟ ألا ترى الآداب التي سفلت حتى ذكَّرتنا عهدًا من أسوأ عهود التاريخ؟ ثم ما هذا الإسراف الذي يقصم ظهور الرجال ولا يدل إلا على الجهل حتى في طبيعة الإسراف؟ أتظن يا سيدى القارئ أن كل هذا الإسراف في الملبس والمركب هو من مظاهر الثروة الصحيحة؟ كلا إن أكثر ذلك يستدينه الرجل المغلوب على أمره، وقد يستدينه بالربا الفاحش. فأين النهضة المزعومة إذا كانت المرأة اكتفت منها بالإسراف والتبرج وخلع احترام الرجل وإهمال الدار والانصباب على العرض الزائل والتمسك بالأوهام الكاذبة؟ أما المرأة الأمية التي كنا نعرفها منذ ٢٥عامًا، والتي شكونا إلى الله من جهلها المطبق، فقد كانت تدبر البيت إدارة تلتئم في كثير من الأحوال مع مستوى الأمة، وتربي الأبناء تربية فيها أثر كبير للأخلاق الفاضلة والرجولية الصادقة، والإيمان القوي، وكانت تقتصد كل الاقتصاد فكان معظم مصروفها في بلدها ولا تنفق إلا بحساب. فإذا قسنا نتاج المتعلمات بنتاج الجاهلات فهل نرى أثرًا لغير النهضة المقلوبة؟ أنا لا أنكر أن للرجال المسلمين دخلاً عظيمًا في هذا التأخر المسمى نهضة، ولكني لا أود البحث في الأسباب الآن، وإنما أحاول أن أقرر أن نهضة المرأة مكذوبة وأن الإسراف في تسميتها نهضة فيه من الضرر على المرأة والوطن ما لا يخفى على البصير. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد جميل الرافعي