للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حضرموت واليمن

نلخص ما يأتي من رسالة صديق لنا في حضرموت قال: كان خروجي إلى
حضرموت من عدن؛ لأني لم أجد مركبًا بحريًّا إذا ذاك، فازددت بذلك علمًا عن تلك
الفيافي والقفار، والبدو، والحضر، والعرب بتلك الجهات ووقفت على أحوالهم
وعاداتهم وحالة الدين واندراسه، ودسائس الإنكليز هناك وما يُنتظر للدولة العلية في
اليمن. قطعت في سيري أرض الفضلي وهي أول دولة من دول العرب هناك تلي
إنكلترا وتواليها، ولها سواحل بالقرب من عدن أشهرها يسمى (شقره) ودولتها
بدوية استبدادية، وعسكرها هم عصبة الملك وقبيلته وهم بدو حربيون، ولها
سياسة، واسم ملكها أحمد بن حسين الفضلي وهو باسط بساط العدل والأمان، ومن
عاداته أنه من سُرق له شيء أو نُهب من بلده يجيئه فيعطيه من خزينته عوض ما
سُرق أو نُهب منه ويذكي هو العيون على المعتدي حتى يظفر به ويسترد منه ما
أخذه، وله راتب سنوي من إنكلترا نحو ١٢٠٠٠ روبية ويسمونه (مشاهرة) وقد
وقع بينه وبين الإنكليز تنافر من مدة؛ لأنه طلب سلاحًا مدافع لم تسمح له بذلك.
يليه (يافع) ويقدرون ساكنيه بنحو ٧٥٠٠٠ ألفا ويجلب منه (يصدر)
الجلود والبن والورس والزعفران والذرة والقمح وغيرهما من الحبوب. وهم بدو
قبائل متفرقة يتحاربون ويتصالحون، ولهم من الإنكليز مرتب، وقد أريدوا على
الدخول في الحماية البريطانية فأبوْا، ولما قاتلوا الإنكليز منذ عامين عاتبهم الباشا
صاحب قحطبة من ولاية الدولة العلية.
يليهم الجبال البيضاء وهي أرض ذات أنهار وخصب، أهلها بدو وهم موالون
لإنكلترا ولهم راتب منها، والعواذل وهم دولة وقصبتهم تسمى (دثينة) وهي خصبة
ذات تربة طيبة، ولم يطاوعوا إنكلترا ولذلك أجلت المهاجرين منهم من عدن
بالسعط لما عارضوا جنوده التي وجهها الإنكليز إلى بلاد العوالق.
يليهم بلاد العوالق وأهلها قبائل لهم دولة من غيرهم ولا نفوذ له (يريد بالدولة
الحاكم) وعاصمتهم أنصاب وهي ذات آثار وبقربها أحجار عليها كتابات حميرية
ولملكهم ورؤساء القبائل مرتبات ولعالمهم (عاتق باكر) الذي له نفوذ هناك حتى
إنه ليجمع الزكاة من البادية راتب شهري من الإنكليز قدره ٥٠٠ روبية على أنه
يأخذ راتبًا من الدولة العلية، فهو منافق وميله القلبي إلى بريطانيا ولذلك يوسع
نفوذها هناك. أما العوالق فيقدرون عسكرهم الذي يمكنه القتال بنحو ٤٠٠٠ ألف
(كذا في الأصل فإن كان مراده أربعة آلاف كما هو الظاهر فلا حاجة إلى كلمة (ألف)
بعد الرقم ويقرب أن يكون عددهم أربعون بألفا ويبعد أن يكون أربع مائة ألف فما
كتب خطأ نرجو من الكاتب إصلاحه بعد وصول المنار إليه) حدثني بذلك رئيسهم
أخذًا من عددهم في الوقائع (الغزوات) القومية التي حشدهم فيها.
يلي العوالق إلى ناحية الشرق والبحر دولة الواحدي عاصمة حبان وهي بلدة
قديمة أسس جامعها سنة ٢٦٦ للهجرة وكان بها من العلماء جهابذة فصحاء وقفت
على بعض قصائدهم الفصيحة التي تكاد تسيل انسجامًا، وحالتها اليوم جاهلية وهي
تحت حماية الإنكليز، وقد عقدوا عهدًا على خروجه إليهم (كذا) وساحلهم بالحاف
وقد أخذ نصفه أمير المكلا القعيطي من أخي ملكها شراء، فقامت إنكلترا تعارض فيه
والله يعلم هل يسلم له أم تأخذه إنكلترا.
(وههنا رسم الكاتب صورة تلك البلاد من عدن إلى الشحر وأنصاب العوالق
وكتب عند ذكر (الحج) أن ملكها أحمد فضل العبدي قد باع أرضه من إنكلترا
وله راتب منها. وعند (قحطبة) أنها أول ولاية للدولة العثمانية. وعند ذكر
(الشحر) أنه عند أمير المكلا القعيطي وهو داخل تحت حماية إنكلترا. وعند ذكر
(سبأ) و (مأرب) ملكهما من الأشراف وهو محالف لإنكلترا وله راتب وبينهم
عهود، وقد أوفدت إنكلترا إلى تلك البلاد وفدًا علميًّا فنقلوا رسوم الآثار والكتابات
الحميرية التي على الصخور، والأسطوانات الرخامية الحميرية ... إلخ. وقال:
إن من يشاهد نفوذ الإنكليز هناك يعتقد أن الدولة العلية سيتقلص ملكها عن قريب
بسعي أولئك الرجال. ونزيد قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِين} (الزخرف: ٧٦) فإن عادوا للعدل، عاد الله عليهم بالفضل، ثم قال: على
أنني لم أخبركم ببعض الجبال والمراكز والقبائل فانظروا تروا أنه إذا نشبت الحرب
بين إنكلترا والدولة فإن إنكلترا تأتيها من فوقها ومن أسفل منها. وهذه المراكز
الداخلة تحت حماية إنكلترا أو في محالفتها تسمى باليمن الأسفل إلا الضالع فإنها من
اليمن الأعلى، ونفوذ إنكلترا في اليمن الأسفل يمتد مسافة شهر تقريبا وستمد سكة
حديدية تقطع هذا البر إلى (أنصاب) عاصمة العوالق ثم تمر بعد ذلك في الوادي
التي تحلها كندة ونهد والكرب إلى الكويت. ولم تدع إنكلترا رأسًا من رءوس
القبائل إلا وأعطته مرتبًا جاريًا، وكان تداخلها في هذه البلاد بواسطة واحد من
أبنائها دخل البادية ونشأ فيها فهو يتكلم بلغتها وإذا دخل فيها يلبس لها لباسها الذي
هو من السن إلى الركبة (كذا) ورداء وعمامة وتسميه البادية (عبد الله بن
منصور)
وأهل البادية يتحدثون بعدل إنكلترا وبديانتها التي تمليها عليهم القسوس بعدن،
ولقد حرت من تقريرهم لها إذ لا يعرفون معنى الدين الإسلامي ما هو، وسيكون
لذلك الأثر السيئ في تلك الأقطار إذا خالط أهلها الإنكليز، فالمعارف الدينية معدومة
بالكلية حتى إن هناك العوالق السفلى والمقاتلة منهم يقدرون بنحو ٢٠٠ لا يعرفون
شيئًا من الدين ونكاحهم إنما هو نهب ينهب الواحد بنت الآخر ويتزوج بها، فإذا
ولدت ذهب أولادها يأتون بالعقد عند أبويها وإنها لتفتخر على من تزوجت
بالتراضي وينكح أحدهم أخته وخالته وزوجة أبيه بعد موته ولا يعرفون النبي،
صلى الله عليه وسلم.
والبادية كلها متسلحة بالسلاح الحديث المكتوب عليه (كارديف) و (مارتين)
و (سن إيتمنس) وإنكلترا مشددة على الخرطوش فلا يصل إليهم إلا بعد الجهد
وهم يشرونه بأثمان باهظة. وإنك لترى أهل البوادي يتسابقون إلى عدن تسابق
الجياع إلى الصقاع والمال ينهال عليهم حتى أن البدوي الذي يقنع بالروبية يعطى
من المائة إلى المائتين بلصه أو بخشيش ويسمونه (فشح) وسأخبركم بأخبار تلك
الجهة على التحقيق وبما للسادة (الشرفاء) من النفوذ هنا ككون كل قبيلة لها
(منصب) منهم أي رئيس روحي يعقد الصلح ويأخذ النذور ويستغاث بجده
المعروف بالولاية.
مكثت في تلك الجهات شهرين في حل وترحال إلى أن وافيت حضرموت
أهلها في الجملة (قبورية) وسأخبركم بحالها وبسياسة أمير المكلا فيما يأتي. أما
واردات المكلا خاصة فهي ٣٥٠٠٠٠ جنيه يأخذ عليها الأمير مكسًا باهظًا. وأما
الصادر وهو التنباك والسمك وغيره فنحو ١٠٠٠٠٠ جنيه ولا تزال أساطيل إنكلترا
ومدرعاتها تطوف بهذه السواحل تتنسم الأخبار وعسى أن نوفق هنا للدعوة، فإنا
وجدنا حزبًا يوافق ما نحن عليه وأناسًا يعرفون المنار أكثرهم ممن يتاجرون إلى
جاوه ودولة المكلا (أي أميرها) غائب بالهند وسأوافيكم بما يتجدد. اهـ
المراد منه.