كثر خوض الجرائد في سورية ولبنان وفلسطين ومصر فيما سمي الاختلاف بين الهيئات السورية، واهتم به الوطنيون في دمشق أم البلاد السورية حتى رجال الجمعية التأسيسية وغيرها من الجماعات وتحدثوا هناك وهنا بوجوب السعي إلى الصلح وإزالة الاختلاف بجمع الكلمة وتوجيه قوى الهيئات كلها إلى المصلحة الوطنية في هذا الوقت الذي دخلت فيه القضية السورية في طور حل عملي مع الدولة الفرنسية، ولكن لم نر شيئًا عمليًّا في ذلك، بل يظهر أن الوطنيين الذين أظهروا الاهتمام به في سورية لم يقف أكثرهم على حقيقة هذا الاختلاف، ولا يعرفون مثيره الذي لولاه لم يقع؛ لأنه يلبس عليهم بكثرة ما يكتب ويستكتب من الإعلان عن نفسه والوقيعة في غيره، ولو عرفه جمهورهم كما يعرفه أهل البحث والروية منهم لأنحوا اللائمة عليه وحده، فإما أن يكرهوه على إيثار وطنه على نفسه، وإما أن يجمعوا على إسقاطه ونبذه بعد اتفاق أكثرهم على ذلك. ألا وهو ذلك (القناف) النفاج المفتون بلقب الزعامة الذي يرى من شرط خلوصها له وصيرورته زغلول سورية أن لا يبقى أحد من سروات بلاده وأصحاب المزايا العالية والوطنية الصادقة فيهم إلا وهو مثخن بالطعن والجرح في مآثره ومزاياه، ولا سيما أولئك الأفراد الأفذاذ الذين أجمعت عليهم الكلمة كأمير البيان وقائد المجاهدين السياسيين لدى جمعية الأمم وفي سائر المحافل السياسية الأوربية الأمير شكيب أرسلان، وشقيقه رب السيف والقلم وقائد المجاهدين في الثورة الوطنية الأمير عادل أرسلان، ورجالات حزب الاستقلال الذين كونوا المسألة العربية وأوجدوها في البلاد، وكذا الذين ظهرت مناقبهم العليا أخيرًا في الجمعية التأسيسية السورية ولهجت بذكرهم الألسنة، وتبارت في الثناء على وطنيتهم أقلام الصحف المختلفة فهذا (القناف النفاج) هو الذي أقنع الأمير ميشيل لطف الله بمبالغاته الخلابة بأن جميع رجال حزب الاستقلال أعداء له وبأنه هو الذي يستطيع أن يؤلف له عصبية تسقطهم وتحول جميع إعانات المجاهدين إلى جمعية إعانة منكوبي سورية التي هو (أي الأمير) رئيسها، وبذلك يكون جميع رجال الثورة الذين عادوا إلى شرق الأردن وفلسطين ومصر والذين لجئوا إلى الصحراء آلة في يده تضم إلى ما في يده من النفوذ السياسي للجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني فتنحصر القضية السورية في يده من كل وجه من حيث يسقط أعداؤه وفي مقدمتهم (بزعمه) الأمير شكيب المحتكر لأعمال الوفد السوري مع إحسان بك الجابري وهو بزعمه عدو أيضًا - والأمير عادل أرسلان صاحب النفوذ الأعلى مع سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة - وحينئذ يتحدان معًا على الاتفاق مع فرنسة على حل عقدة القضية السورية كما يريدان. صدق الأمير ميشيل تلك الأخاديع الخلابة فكانت عاقبتها تعذر اتفاق أعضاء اللجنة التنفيذية معه على ما كان شجر من الخلاف بسبب تدخل أخويه في القضية بنفوذه، وبسبب ما نقلت عنه جريدة المعرض البيروتية فقررت اللجنة إلغاء الرياسة الشخصية لها فلم يبق للأمير ميشيل عمل ولا شأن فيها؛ لأنه لم يكن عضوًا منتخبًا، بل جعلته اللجنة رئيسًا محاباة له لسابق خدمته. ثم كان من عاقبتها أيضًا أن اجتمع أعضاء جمعية الإعانة السورية وقرَّروا بالإجماع حل الجمعية وتصفية حساباتها فخاب سعي (القناف النفاج) في أمنيتيه أو في خلابتيه للأمير ميشيل. *** مكتب الاستعلامات السوري مطاعنه ومفاسده كان مكتب الاستعلامات السوري عندما كان تحت مراقبة اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني يخدم القضية السورية خدمة صادقة كان لها تأثيرها الحسن المشهور في الشرق والغرب، وقد تركه الأمير ميشيل بعد انفصاله من اللجنة بأيدي جماعة من أصحاب الأهواء الذين يخدمون أنفسهم بالطعن في غيرهم فهو يطعن في المجاهدين أبطال الثورة ويسعى للتفريق بينهم، وله غير ذلك من المخازي التي لهجت بها الجرائد في سورية وفلسطين ومصر عازية كل إفساد إلى مكتب رقم ٤٥ شارع عابدين الذي ينفق عليه وعلى من فيه الأمير ميشيل لطف الله حتى صار هذا المكتب مصدر سفه وإفساد ويقول بعض أصدقائه: إنه قلما يعلم بما يصدر منه. نعم إن الأمير ميشيل لا يعلم بكل ما يصدر من مكتبه السياسي (رقم ٤٥ شارع عابدين) من مخازن السفاهة والفساد بالتفصيل؛ لأنه لا يحضر كل مجالس الزعنفة التي فيه ولا يجد وقتًا لقراءة ما يكتبون وما ينشرون، ولكنه يعلمه بالإجمال ويطلع على كثير منه، وهو الذي يدفع أجور الكتابة والنشر ورواتب الكاتبين فهو مسئول عن كل ذلك وعليه تبعته الأدبية والسياسية كما شافهناه بذلك من قبل وضربنا له المثل المشهور: من يربط الكلب العقور ببابه ... فكل أذاة الناس من رابط الكلب *** اعتذار الأمير ميشيل عن طعن مكتبه بنا إننا بعد نشر ردنا على الزعيم محمد علي الهندي في مسألة ملك الحجاز ونجد ومسألة الخلافة رأينا في جريدة السياسة مقالة مَعْزُوَّة إلى اسم مجهول يشتمنا فيها ويقول: إن صاحب المنار رجل مادي لا يكتب شيئًا إلا لاستدرار المال وقد أهان بِرَده جميع الدول الإسلامية لما يأخذه على ذلك من الجنيهات من ابن السعود، وأنه كان قد أخذ من أمراء لطف الله ستمائة جنيه لأجل أن يغش لهم ملك الحجاز بجعل البنك الحجازي رسميًّا إلخ. فلم نعجب لنشر السياسة مثل هذا الطعن وما هو شر منه وأعرق في الإفك والبهتان انتقامًا منا على مقاومة دعوتها الإلحادية اللادينية، ثم علمنا من مُطَّلِع على ما هنالك أن السياسة لم تقبل نشر تلك المقالة القذرة إلا برجاء من حضرة الدكتور عبد الرحمن شهبندر وأن المقالة نشرت بعد ذلك في نشرة مكتب الاستعلامات السورية رقم ٤٥ شارع عابدين. وبعد ذلك بشهر أو أكثر جاءني كتاب من الأمير ميشيل لطف الله يقول فيه: إنه جاءه في البريد نسخة من نشرة مكتب الاستعلامات السوري المشار إليه، وعليها تعليق بالخبر هذا نصه: (أيليق هذا الطعن في حق صاحبك) . ثم قال: إنني ليس من الذين يسهل عليهم انتهاك حرمة الصداقة الشخصية لاختلافات تقع بيني وبين زملائي على نظريات سياسية أو مبادئ عمومية ... إلخ. ثم قال: (قد قرأت ما كتب في تلك النشرة وأسفت كثيرًا لذلك ولمت رجال مكتب الاستعلامات على نشر مثل هذه الأمور التي لا تبررها الغايات الشريفة التي اشتغلنا بها سوية ولا نزال ننشدها، وإن اختلفت نظريات كل منا ما أفضى (كذا) إلى ما حصل من الانشقاق الذي أعتقد أن كل وطني غيور يأسف له. (ولا أخفي عليك أنني كثيرًا ما أوقفت نشر كتابات ومقالات رأيت فيها طعنًا شخصيًّا عليك كان كاتبوها يعتقدون أنها تسرني ولذلك أطلعوني عليها قبل نشرها، فأفهمتهم جليًّا أنني لا أريد أن ينشر شيء فيه طعن شخصي بك، وأن نشر مثل ذلك يكدرني) إلخ، ما كتبه مفتخرًا بمحافظته على المبادئ القويمة. وأقول: إنني أشكر لحضرته هذه المحافظة على الحقوق الأدبية الودية، وقد حافظت له على خير منها منذ شجر الخلاف إلى الآن حتى أثبتت ذلك بعض الجرائد إلى عهد قريب، وكنت قد صرَّحت بمثل هذه المناسبة في المنار أنني لم أر منه ومن أخيه الأمير جورج في معاشرتي لهما بضع سنين إلا الآداب العالية (وقد كتب إليَّ الأمير جورج من أوربة برقية تعزية عن شقيقتي) ولكن هذا العمل الذي يعمل باسمه وماله في مكتبه السياسي قد شوَّه هذه السمعة الأدبية، وقد كتبت إليه مثل هذا الكتاب الخاص ولا لوم الزعنفة الناشرة لما ذكر من الطعن بل يجب عليه منعها من مثل ذلك كما كان يجب عليه تكذيبها فيما يتعلق بالبنك الحجازي لأنه عند الناس مظنة أن يكون مأخوذًا عنه، ولا يخطر في بال قراء النشرة غير ذلك. فلما وصل مرجوع الكتاب إليه أرسل إلى سكرتيره الأدبي وهو صديق إبراهيم بك ديمتري ليشرح لي شعوره وعذره في عدم تكذيب النشرة في مسألة البنك قال: إن الذي نشر في شأنها كذب، ولكن طال عليه العهد حتى نسي قبل علم الأمير به فرأى أن تكذيبه ينبه الأذهان ويعيد الذكرى إلى ما دخل في زاوية النسيان فعدمه أولى، ثم نوَّه بما يسمعه من الأمير من الثناء عليَّ وأنه لا بد من عودة المياه بيننا إلى مجاريها صافية كما كانت بعد أن كدرها هؤلاء المشاغبون. قلت: مهما تكن العلاقة الماضية والحاضرة بيننا وما يرجى في المستقبل فلا عذر للأمير في ترك مكتبه السياسي على هذه الحالة المخزية التي لولاها لم يكن للخلاف ذلك التأثير السيئ في البلاد. ولكن يظهر أن الرجل لا يستطيع إغضاب هذه الزعنفة التي صرح بأنها تنشر من مكتبه ما تعلم بأنه يكدره؛ لأنه لا يجد الآن غيرها، ولا يمكنه أن يدع مكتبه السياسي مقفلاً، ويظهر أن الزعنفة علمت هذا الضعف منه فلم تعد تبالي بما يرضيه وما يسوءه بدليل عودتها إلى أشد الطعن الكاذب فيمن صرَّح لها باستيائه من الطعن فيه. أما ما فيَّ من الطعن في المسألتين فأقول فيه كلمة وجيزة لتعلقه بتاريخ حياتي فإن كان أمثال هؤلاء الطاعنين لا يخاطَبون فإنني أقولها للتاريخ لا لهم. أما قولهم: إنني دافعت عن ابن السعود ابتغاء جوائزه وإدرار أمواله عليَّ فهم معذورون فيه؛ لأنهم ماديون لا دين لهم يخدمونه ولا أمة لهم يدافعون عنها فإن لم يكونوا كلهم كذلك فحسبهم زعيم الإفساد المحرك لهم، وإنني أصرح الآن بأن كل ما كتبته في المسألة العربية مما لابن سعود فيه ذكر فإنني كتبته عن اعتقاد بأنه حق، وأن بيانه واجب عليَّ شرعًا ولم يخطر في بالي عند كتابة شيء منه استمالة ابن السعود ولا الانتفاع منه، ومنه هذا الرد المفحم على أشد أعدائه وخصومه في الهند فإنني والله لم أرج عليه جزاء منه ولا شكورًا لما سبق من أمثاله، وكذلك قد كان، فوالله إنه لم يكتب إليَّ كلمة شكر عليه، وليس ذلك لأنه كنود لا يقدر قدر هذه الخدمة، بل لعلمه بأنني أقوم بها بباعث الاعتقاد الديني والمصلحة الإسلامية العربية، وقد صرَّح لي باعتقاده هذا فيَّ عند اللقاء وكتبه في بعض مكتوباته. أقول هذا غير نَاسٍ لما كتبته من قبل في الرد على الذين أشاعوا هنا وفي أوربة أنني أخذت منه خمسة آلاف وقيل عشرة آلاف جنيه مكافأة على خدمتي له عدة سنين، فقد قلت في معرض الرد على هذه الإشاعات كلمة قصدت بها إيهام الحساد ما يسوءهم فحواها أن الأخذ من إمام المسلمين وملك من ملوكهم مكافأة على خدمة شريفة ليس حرامًا ولا عارًا، وهذا هو الحق ولكن ما سرى منه إلى بعض الأذهان يومئذ من صدق تلك الأخبار غير صحيح. وأما مسألة البنك الحجازي فأقول فيها: (أولا) : إن ما ذكره الطاعن كذب. و (ثانيًا) إنني أنا عضو في مجلس إدارة البنك الحجازي، وأعتقد أن جعل هذا البنك رسميًّا للحجاز خير للحجاز ولمَلِكه ولأهله فإقناعه به إن أمكن نصيحة له، وأعتقد أن أخذ الجعل على السعي لمثل هذا لا يعد عيبًا فيعير به من يُنْسَب إليه، وكل عاقل عرف هذه المسألة يعلم أن إنشاء هذا البنك ليس بمصلحة مالية ظاهرة لمنشئه، وإنما الباعث عليه غرض سياسي له يفضله على المال والكسب. وما الطعن بصاحب المنار في مثل هذا وذاك إلا كالطعن فيه بأنه عاب جميع الدول الإسلامية بقوله: إنها لا تقبل مشروع الزعيم الهندي الخيالي في جعلها تابعة في السياسة العامة لخليفة واحد يعيد لها سيرة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومثله زعمهم أنه كان يقتات من فتات مائدة الشيخ محمد عبده ولم يف له بحق هذه النعمة، والعالم الإسلامي كله يعلم مكان صاحب المنار من الأستاذ الإمام. هذا وإن بعض أهل الرأي والإخلاص انتقد عليَّ شيئًا يتعلق بذلك الرد، وسأبينه مع البحث فيه في جزء آخر إن شاء الله تعالى.