للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد الخامس عشر

بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم وأنت ولي الحمد، والهادي إلى سبيل الرشد، ولك الأمر من
قبل ومن بعد، لكل شيء عندك قدر، ولكل قدر أجل و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ *
يَمْحُواللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: ٣٨-٣٩) ونصلي ونسلم
على محمد نبيك المصطفى، ورسولك المجتبى، الذي أرسلته كافةً للناس بشيرًا
ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وآتيته الحكمة وفصل الخطاب،
وأنزلت في محكم الكتاب {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
أوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأوْلَئِكَ هُمْ أوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ١٧-١٨) .
وبعد، فقد دخل المنار في هذا العام في السنة الخامسة عشرة من عمره وهي
سن بلوغ الحلم الغالب في الإنسان، وبدء الرشد في عرف شريعة الإسلام، فنسأل
الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا فيه رشدنا ويبلغنا قصدنا، وينفعنا بما نطلبه في هذه
الفواتح من نصح الناصحين، ونقد الناقدين ومن آيات الفوز والرشاد، أن وفقنا عزَّ
شأنه للشروع على رأس هذه السنة في تنفيذ مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) التي
نرجو أن تكون خير ما أنشئ في البلاد، لإصلاح ما استشرى من الفساد.
قطع المنار هذا الطور الأول من حياته وحده، فدرج درجان الطفل غادر مهده،
إلى أن بلغ رشده، فلا أخذ بيده أمير، ولا أعانه وزير، ولا أمده غني كبير،
اللهم إلا أن مصطفى رياض باشا - تغمده الله برحمته - وكان نسيجًا وحدَهُ في
كبراء هذه البلاد، في إعانة الصحف ومساعدة أرباب الأقلام، وكذا سائر ما يعتقد
نفعه من الأعمال، أرسل إلي مرةً قيمة الاشتراك مضاعفة أضعافًا، فقلت لرسوله
إنني لا أقبل من أحد مالاً لا مقابل له مني، فعاد إليه بها فاشترك بعد ذلك بعشر
نسخ من المنار، ثم جعلها خمس عشرة نسخة، وجعلها نجله محمود باشا من
الباقيات الصالحات له، وإني أعلم كما يعلم كثير من الناس، أن المنار لو صدر
على عهد وزارة رياض، للقي من مساعدته بنفوذه، أضعاف ما لقي من مقاومة
غيره، فإنه كان مغرمًا به، كثير الذكر له والثناء عليه في مجالسه، وكان مثل هذا
أمرًا مفعولاًَ في عهد وزارته، وإذا كان رياض باشا قد حسن قوله في المنار وعمله،
فما لي لا أذكر بالخير من حسن قوله ونيته، ذلك إبراهيم باشا فؤاد الذي كان
ناظر الحقانية رحمه الله تعالى، كان يرى أن المنار أنفع الصحف للمسلمين، ويود
لو يعم انتشاره بين طلاب العلوم وجميع الطبقات، وقد سمعت منه منذ السنة الأولى
ما يدل على رأيه هذا، وأخبرني بمثل ذلك عنه أحمد فتحي زغلول باشا، وقال:
إنه ذاكره في وضع مشروع لتوزيع المنار على طلاب العلم والفقراء من القراء
بثمن قليل جدًّا لا يثقل على أحد منهم أو جعل ثمنه قليلاً لكل قارئ بجمع مال
بالاكتتاب يرصد لذلك. فكر رحمه الله تعالى في ذلك وقدَّر، وذاكر وشاور، ثم لم
يعمل شيئًا، فجزاه الله على نيته خيرًا.
أشرت في فواتح السنين الماضية إلى ما كان يلقى المنار من المقاومة
والمعارضة، والمناصبة والمناهضة، وذكرت في بعضها شيئًا من تاريخه
الإصلاحي والسياسي، وأحببت أن أذكر في فاتحة هذه السنة ما فيه العبرة من
تاريخه المالي، إذ يظن بعض الناس أنه أصاب كِفْلاً من المساعدة والإمداد المعتاد
مثله في هذه البلاد، فلم أجد فيه إلا ما ذكرته لرياض باشا من قول وعمل،
ولإبراهيم باشا فؤاد من قول ونية، ورياض باشا هو الذي أخذ بأيدي أصحاب
الصحف الكبرى بمصر في أيام وزارته، سواء كانوا من نصارى السوريين، أو
القبط أو المسلمين، فهو صاحب الفضل الأول على الأهرام والمقتطف وجريدتَيْ
الوطن فالمؤيد، ساعد هذه الصحف مساعدة الوزير النافذة إرادته، المسموعة كلمته،
المطاع أمره وإشارته، الطويل باعه المبسوطة يده، فمساعدته للمنار لا تقرن
بمساعدته لتلك الصحف، وإنما أقول هذا مزيدًا في تكبيره في نفسه وتمييزه بين
أبناء جنسه، لا لتصغير معروفه والتقصير في شكره.
لعله لولا مثل تلك الموازرة لما نبتت تلك الصحف في أرضنا نباتًا حسنًا ولما
استغلظ نباتها واستوى على سُوقه، ولمَا أينعت ثمرتها وآتت أكلها، ذلك بأن الجهل
وضعف الأخلاق وفساد نظام الاجتماع جعل بلادنا كالأرض السبخة، لا تنمو فيها
شجرة العلم إلا بعناية خاصة من الخاصة , وها نحن أولاء قد تعودنا قراءة الصحف
اليومية عشرات من السنين وصرنا نعدها من حاجات الحضارة والمدنية، ولكن
هيئتنا الاجتماعية لا تزال قاصرة أو مقصرة في القيام بما يجب من حقها، لما ذكرنا
من ضعف النفوس ومرض الأخلاق فيها، حتى إن كثيرين من رجال الطبقة العليا
فينا كالمدرسين والمؤلفين والقضاة يمطلون ويسوفون فيما يجب عليهم من اشتراك
الجريدة أو المجلة، ومنهم من يهضم هذا الحق ويستحل أكله، ومن الوقائع القريبة
في ذلك أن بعض المعروفين بشرف النسب والثروة والعلم والتأليف قال لوكيل
المجلة بعد أن أرجأه طويلاً: إنني لا أدفع قيمة الاشتراك؛ لأنني من العلماء! !
فإذا كان أكل أموال الناس بالباطل، مما يجهر به الشريف الغني العالم، ويعده من
ثمرات العلم ومزايا العلماء، فممن ننتظر الوفاء؟ دع التعاون على المصالح العامة
والإصلاح لا أقول: تقطعت من هذه الأمة جميع أسباب الوفاء والتعاون، وانبتَّت
سائر حبال التكافل والتضامن، وإنما أقول: إن ذلك قد قل فيها وضعف، على نحو
ما أصف، وكان من أثره ضياع ملكها وهوان أمرها، وهذا ما نعنى بعلاجه،
ونسعى لتلافيه، والله لو كان هذا المنار يراد للكسب لما بلغ سن الرشد.
الخير والكمال للمرء أن يعمل باستقلاله، وأن لا يكون لأحد عليه فضل ولا
منة، بألا يأخذ منه مالاً بغير مقابل ولا جزاء لمنفعته الخاصة، وإن كان يستعين
به على المصلحة العامة، وأما قبول المال لإنفاقه في صالح الأعمال، فهو لا ينافي
الفضيلة والكمال، كأن يشترك مريد الإعانة المالية للصحف الدورية، أو الكتب
العلمية، بنسخ من الكتاب، توزع على من شاء هو أو شاء المؤلف من القراء،
كما قبلنا اشتراك المرحوم رياض باشا بخمس عشرة نسخة من المنار، واشتراك
ذلك المحسن المستتر في العام الماضي بست نسخ منه، واشتراك (مولوي محمد
إنشاء الله) صاحب جريدة (وطن) في مدينة (لاهور) بمائة نسخة من كل جزء
يصدر من تفسير المنار، توزع على خطباء المساجد في بعض الأقطار، وكان
اقترح علينا هذا الفاضل أن يجعل لنا راتبًا شهريًّا مدة الاشتغال بإتمام التفسير،
بشرط إتمامه في زمن قريب، فلم نقبل هذا منه؛ لأنه جزاء على عمل نعمله لله
عز وجل، لا ترويج له كالاشتراك، ولنا بذلك أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم،
وصاحبه الصديق الأكبر، فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه قد أنفق جميع ماله في
سبيل الله ورسوله، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه الراحلة يوم
الهجرة إلا بثمنها، وورد أن أبا بكر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئًا
قط، وإنما قبل النبي صلى الله عليه وسلم مالاً لإنفاقه في نشر دعوة الإسلام لا
لنفسه , وقد كان صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى النفقة على أهله أحيانًا فيقترض من
اليهود، وكان يجزي على الهدية، ولا يقبل الصدقة ألبتة؛ لأن الله أكرمه بتحريمها
عليه وعلى أهل بيته ليكونوا قدوةً للناس بعزة النفس ورفعتها.
تلك هي الفضيلة وذلك هو الكمال، ولمثل هذا هدانا الإسلام، ولكن العمل بما
دون هذه الدرجة العليا من الكمال الإسلامي صار عسرًا جدًّا لقلة المُوَاتي والمُشارِك
فيه، والمعين عليه، وأما ارتقاء تلك الدرجة، بل العروج إلى تلك الذروة، فأوشك
أن يكون من خوارق العادات، التي قد ينالها بعض أهل العزلة والانفراد، دون
أصحاب الأعمال العامة التي تصلح بها أحوال الناس.
علمنا من كتاب الله تعالى ومن الاختبار المصدَِق له أن الناس أزواج ثلاثة
في كل شأن، كما كانوا في كتاب الله عز وجل {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: ٣٢) وإنما تسعد
الأمم وتشقى بحسب النسبة العددية في كثرة هذه الأزواج وقلتها , فالأمة التي يكثر
فيها الظالمون لأنفسهم [١] بترك ما يجب عليهم، ويقل المقتصدون الذين هم
للحقوق يؤدون، فلا يلوون ولا يمطلون، ويندر أو يُفقد السابقون بالخيرات،
الذين لا يقفون عند حدود أداء الواجبات، بل يزيدون عليها ما شاء الله من النوافل
والتبرعات، وينهضون بالمصالح العامة، ويقومون بالمنافع المشتركة، فتلك هي
الأمة التي يتهدم بناء مجدها، ويزول عزها وملكها، وتصير مستعبدة لغيرها،
وتخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
وأما الأمة التي يقل فيها الظالمون، ويكثر فيها المقتصدون، ويكون زعماؤها
والقائمون بمصالحها من السابقين بالخيرات، المتعاونين على أنفع الأعمال، فتلك
هي الأمة التي ترث الأرض، وتستمتع بنعمة السيادة والملك، وتتسابق مع من
يشاركها في صفاتها إلى غايات المجد المؤثل، ويكون السبق للأمثل فالأمثل.
نحن ولا كفران لله من المتخلفين المقصرين وقد سبقتنا الأمم كلها بعد أن كنا
نحن المقتصدين والسابقين، والظالمون لأنفسهم وأمتهم منا فريقان: فريق يجعلون
علته ما جهلوا أو تركوا من هدي الدين، وهو ما عمل به سلفهم فكانوا هم الأئمة
الوارثين، ويحاولون أن يقطِّعوا هذه الأمة أممًا، ويسلكوا بها إلى المدنية طرائق
قِددًا، وهم ما عرفوا حقيقة المدنية الفاضلة وكنهها، ولا ما يصلح للمسلمين ويتفق
مع طبائعهم منها، ولكنهم في طلب قشورها مقلدون، هذا تركي يقول: يجب أن
تكون السيادة والسلطة للترك، وهذا عربي يقول: إذا لم تكن المساواة فالعرب أولى
بالملك، وهذا مصري يقول: مصريون قبل كل شيء، وهذا فارسي يقول: إننا
فارسيون قبل كل شيء، والأمم الظالمة من ورائهم تقول: إنكم مسودون قبل كل
شيء، ومستعبدون بعد كل شيء؛ لأنكم لستم بشيء، فأولئك هم المتفرنجون،
الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا
إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: ٩) .
ومن دونهم في الجناية على الأمة وإطالة أجل الغمة فريق آخرون، لا
يسيرون بالناس ولا يدَعونهم يسيرون، وهؤلاء هم الذين يُدْعَوْن أهل الجمود،
الذين رُزئوا بالخمول أو القنوط، ويعتذرون بقرب الساعة وفساد الزمان،
وخروج الإصلاح من محيط الإمكان، وفُسوق أرباب الملك والسلطان، وإنك
لتجدهم على ما لبسوا من ثياب الدين أذلةً على المفسدين والظالمين، أعزةً
على الصالحين المصلحين، فهم يجذبون الأمة من ورائها لتصبر على المكث في
جحر الضب، كلما جذبها أولئك من أمامها لتخرج إلى باحة الفسق، يضيعون على
الأمة دنياها، ويعجزون أن يحفظوا عليها دينها، ذلك بأنهم في دينهم من المقلدين،
فلا يستطيعون إقامة حجته على المستقلين، ولا دفع الشبهات التي ترد عليه من
المعارضين، وقد وعد الله بنصر من ينصره وما هم بمنصورين، وكتب الغلب
لحزبه وما هم بغالبين ونراهم قد غلب عليهم الذل {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: ٨) .
هذه حالنا التي ننذر أمتنا سوء مغبَّتها في كل عام، فيتمارون بالنذر
ويتبارون في الآثام، ويزدادون في التفرق والانقسام، إلى أن شعروا بزوال
ملكهم في هذه الأيام، صخت سمعهم صيحة سقوط الدولتين اللتين لهم في الشرق
والغرب، وتلتها صيحة الدولة العلية، وهي في مكان القلب فعسى أن
يكون الوقر قد زال من أسماعهم والغشاوة قد انقشعت عن أبصارهم، والرين قد
انكشف عن قلوبهم، وأن يدركوا بعد هذا كله أن المصلحين فيهم هم الأمة الوسط،
التي تجمع بين مطالب الروح والجسد، وتقيم أمر الدنيا والدين، كما هدى إليه
الكتاب المبين، والمنار هو لسان حال هذا الحزب، الذي يزداد أهله نموًّا في
الأرض، وقد وفقهم الله في عام الرشد لتأسيس دار الدعوة والإرشاد، وستفتح
أبوابها لجميع المسلمين من جميع العناصر والبلاد، ويتلو لسان الحال على رؤوس
الأشهاد،] يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [ {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ
أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: ٤٤) .
... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني
... ... ... ... ... ... ناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر