للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

التعارض والترجيح في أدلة الأحكام
الخروج بالزوجة من بلدها
(س١٠٠و١٠١) رشيد أفندي غازي مدير ناحية بيرة الأجرد سابقًا (بالشام)
من المعلوم الذي لا يختلف فيه اثنان أن مراجعة الكتب الفقهية لا يستغني عنها أحد ,
ولذلك أصبحت قريبة المنال شأن الأشياء المحتاج إليها، إلا أن المطالع بها يقف عند
وجود الاختلاف في المسألة الواحدة - ولا سيما عند وجود ترجيح أحد القولين على
الآخر بلا دليل - متحيرًا تتوق نفسه إلى الدليل , ولم يكن ممن يتجلى له خصوصًا إذا
كانت القضية من الواقعات ولم يسعه حينئذ إلا مراجعة جهابذة الفن؛ فلذلك أقدمت
بعرض سؤالي هذا على العلماء الأعلام طالبًا منهم ترجيح أحد هذين القولين على
الآخر مع بسط دليل كل منهما , وترجيح أحد الدليلين على الآخر ليكون السؤال
والجواب عامين تتميمًا للفائدة , وهذه صورة المسألة:
المرأة إذا أراد زوجها أن يخرجها إلى بلدة أخرى وقد أوفى مهرها ليس له ذلك،
كذا اختاره الفقيه أبو الليث رحمه الله , قال الإمام ظهير الدين رحمه الله: الأخذ
بقول الله تعالى أولى من الأخذ بقول الفقيه قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
سَكَنتُم} (الطلاق: ٦) خلاصة. بزازية. ثم المرجو أيضًا بيان ما هو المقصود
من أفعل التفضيل , وهو قوله: أولى , هل هو على بابه أم لا. وأولى بالفضل
والصواب من أجاب.
(ج) التعارض والترجيح من أدق مباحث علم أصول الفقه , ولكن قلما تجد
الفقهاء يطبقون الأحكام في كتبهم على قواعده إلا للجدل في المذاهب ومحاولة كل
ترجيح مذهبه. وأما الخلاف في روايات المذهب الواحد ووجوهه فللحنفية قواعد
أخرى فيه مبنية على تقديم بعض الكتب على بعض , وبعض الفقهاء على بعض
ويسمون هذا رسم المفتي. فمن عرف ما كتبوه في ذلك يسهل عليه أن يعرف
القول الراجح بذكر قائله أو بعزوه على الكتاب المنقول عنه وإن لم يذكر الدليل إذ
المرجح المعتمد هو العزو إلى شخص أو كتاب , دون نصوص السنة والكتاب،
لأن النظر في النصوص لا يفعله إلا المجتهدون، وقد أقفل الباب دونهم منذ قرون،
هذا ما عليه الناس , ولكن يوجد في كل عصر علماء نجباء أتقياء إذا ظهر لهم
النص لا يقدمون عليه قول أحد من المجتهدين في المذهب ولا على الإطلاق.
ومنهم من يحتج بالنص إذا وافق قولاً في مذهبه ولا يحتج به إذا وافق مذهبًا آخر
بل يؤوّله أو يَكِل فهمه إلى المجتهدين الأولين في المذهب. وخير العلماء في كل
زمان ومكان من لا يقدم على النص الثابت عن الله ورسوله كلام أحد.
أما مسألة السكنى فالآية تدل على أنه يجب على الزوج أن يسكن امرأته في
مكان يسكن هو فيه , وورودها في المعتدة إنما هو من حيث كونها زوجًا , فإن لم
تكن غير المطلقة مثلها في ذلك فهي أولى منها. وهذا مما لا نزاع فيه. وما فهمه
ظهير الدين من دلالتها على أن للزوج أن يسافر بامرأته ظاهر , وأما اسم التفضيل
فهو على غير بابه إذا قلنا أن ظهير الدين لا يجيز الأخذ بقول أحد إذا ظهر له في
الكتاب أو السنة ما يخالفه , وهو أفضل الظن به. وحجة القول الذي اختاره أبو
الليث أن السفر مضارة , والله يقول بعد الأمر بالسكنى: {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَّ} (الطلاق: ٦) وهما قولان في المذهب , قال في فتح القدير: وإذا
أوفاها مهرها نقلها إلى حيث شاء لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن
وُجْدِكُمْ} (الطلاق: ٦) وقيل: لا يخرجها إلى بلد غير بلدها؛ لأن الغريب يؤذى،
وفي قرى المصر القريبة لا تتحقق الغربة. فأنت ترى أنه أورد القول بالمنع بصيغة
التمريض , ولكنه المرجح في المذهب لأن كثيرًا من المشايخ أفتى باختيار أبي
الليث. ولا شك أن دليل الجواز أقوى بشرط أن لا يعلم أن الزوج لا يقصد بالسفر
مضارتها لأجل التضييق عليها، ففي هذه الحالة يمنع من السفر بها دون سائر
الأحوال، والله أعلم.
* * *
نجاسة الكلب واتخاذه
(س ١٠٢) محمد أفندي صدقي في (زفتى) : نرجوكم أن تبسطوا لنا
رأيكم في نجاسة الكلبُ فغير خافٍ على حضرتكم أن في بعض المذاهب من قال
بنجاسته بين لعابه وجسمه إذا كان مبتلاًّ , وأنه إذا ولغ في إناء وجب غسله سبع
مرات إحداهن بالتراب , وبعضهم قال بعدم نجاسة جسمه ولا لعابه. فأي الفريقين
أقوى حجة؟ وهل يجوز للمسلم اقتناؤه والاختلاط به أم لا؟ ولا يخفى على
حضرتكم ما هو مشهور به هذا الحيوان من الأمانة وحرصه على صاحبه. ننتظر
من حضرتكم القول الفصل والله المسئول أن يبقيكم خير هاد إلى سبيله القويم.
(ج) ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
رخص للناس في اتخاذ الكلاب للصيد والزرع والماشية كما في صحيح مسلم وغيره
لما له من المنفعة , وأذن بأكل الصيد إذا جاء به الكلب ميتًا ولم يأكل منه. وأما
الخلاف في طهارة الكلب ونجاسته فالأصل فيه أحاديث في الصحيح تأمر بغسل
الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات , وفي بعض هذه الروايات الاكتفاء بذلك , وفي
بعضها: إحداهن بالتراب , في رواية عند أحمد ومسلم: وعفروه الثامنة بالتراب،
وأحاديث الإذن باتخاذه مع العلم بتعذر الاحتراز من ملابسته عادة. ولا ترى مذهبًا
من الأربعة أخذ بأحاديث الولوغ كلها , فالشافعية والحنابلة على وجوب الغسل من
نجاسته سبع مرات إحداهن بالتراب , وعلماؤهم يعلمون أن الحديث صح بتعفيره
الثامنة بالتراب , ومن أصولهم أن زيادة الثقة في رواية مقبولة تخصص العام وتقيد
المطلق. وصرحوا بأنه نجس العين , وقالت المالكية بطهارة عينه , وأوجبوا غسل
الإناء الذي يلغ فيه سبع مرات من غير تتريب. وقالت الحنفية بنجاسة لعابه لا
عينه , ويغسل عندهم منها مرة واحدة , ومن قال بطهارته قال أن الأمر بغسل ما
يلغ فيه للتعبد , وقيل غير ذلك مما ذكرناه في المنار من قبل. ولعل العلة الحقيقية
في ذلك الاحتياط لأنه يأكل النجاسات والجيف وأثرها ضار أو الحذر من الدودة
الوحيدة , وقد فصل هذا المعنى بعض المشتغلين بالطب في مقالة نشرت في المجلد
السادس من المنار.
وقد ورد في حديث أبي هريرة عند أحمد والشيخين وأصحاب السنن (من
اتخذ كلبًا لا كلب صيد أو زرع أو ماشية انتقص من أجره كل يوم قيراط) فاستدلوا
بهذا على كراهة الاتخاذ لغير حاجة مع الجواز. إذ لو كان محرمًا لامتنع ولو لم
يكن فيه نقص الثواب , وقد اختلفوا في سبب الكراهة؛ فقيل: لأنها تروع الناس
الزائرين والسائلين والمارين , وقيل: لأن الملائكة لا تدخل البيوت التي فيها
الكلاب , وقيل: لأن بعضها شياطين أي ضارة , وقيل لأن الاحتراز عن ولوغها
في الأواني متعسر فيترتب على ذلك عدم امتثال الأمر أحيانًا. نقول: أو ينشأ عن
ولوغها الضرر من غير أن يشعر به المتخذ , وقيل لنجاستها , وقيل لعدم الامتثال.
قال الحافظ ابن عبد البر: وجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من
غسل الإناء سبعًا لا يكاد يقوم بها ولا يتحفظ منها , فربما دخل عليه باتخاذها ما
ينقص أجره من ذلك. وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا
الحديث فلم يعرفه , فقال له المنصور: لأنه ينبح الضيف ويروع السائل. وتجد
تفصيل ذلك في فتح الباري وفي نيل الأوطار. والمختار عندنا أن الكلب طاهر
العين , وأنه ينبغي لمن يتخذه لحاجته إليه أن يحترز من ولوغه في الأواني بقدر
الإمكان. فإن علم أنه ولغ في إناء فليغسله كما ورد , وإذا غسله بمحلول السليماني،
فذلك توقٍّ من الدودة الوحيدة.
* * *
الحكمة في حرمان الأخ الشقيق
في المسألة المشتركة
(س١٠٣) ومنه: قص علينا من لا نرتاب بصدقه إشكالاً ميراثيًّا حصل
في إحدى العائلات الكبيرةُ نقصُّه على حضرتكم , وهو أنه مات عميد العائلة
المذكورة عن تركة عظيمة وله من الورثة زوجة وولدان ذكر وأنثى , وقد أخذ كل
فريق ما خصه من الفريضة الشرعية ثم تزوجت البنت بعد وفاة أبيها ومكثت مع
زوجها مدة وتوفيت ولم ترزق منه بأولاد , وكانت أمها تزوجت بعد وفاة أبيها أيضًا
برجل آخر رزقت منه أولادًا بين ذكور وإناث , ولما أراد شقيقها (من الأب والأم)
أخذ نصيبه من تركة أخته المتوفاة منع بحكم شرعي حيث قيل له: إن ورثتها
هي أمها وزوجها وأخواتها من أمها فقط , وذلك على مذهب أبى حنيفة، فما هي
الحكمة الشرعية في منع أخيها الشقيق من أمها وأبيها من الميراث، ألا يكون له أسوة
بإخوتها الذين من أمها فقط؟ نرجوكم أن تبينوا لنا (إن كان ذلك جائزًا) ما هي
الحكمة الشرعية في ذلك لا زلتم مصدر الفضائل وعميد التربية الدينية والله المسئول
أن يبقيكم خير ناصر للدين والسلام.
(ج) لم ترد هذه المسألة بنصها في الكتاب والسنة وإنما هي من فروع قوله
تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا
السُّدُسُ} (النساء: ١٢) فقد قالوا: إن الكلالة من لا ولد له ولا والد , وأن المراد
بالأخ والأخت هنا الإخوة لأم فقط؛ لأن الكلام في ميراثها , وذلك مأثور , فهم من
أصحاب الفرائض , وأنتم تعلمون أن الوارثين على قسمين: أصحاب فرض وهم
الذين لهم حصص معينة بالنص , وعصبات وهم الذين لهم ما يبقى بعد تلك
الحصص , وفي الغالب يكون حظهم أوفر. فالسؤال ههنا ينبغي أن يكون عن
حكمة كون الإخوة لأم أصحاب فرض إذا ورثوا دون الإخوة الأشقاء والإخوة لأب ,
وهي أنهم لبعدهم جعل لهم حصة معينة هي السدس للواحد والثلث للجمع مهما
كثروا , ولو كانوا عصبة لأخذوا التركة كلها أو جلها في بعض الأحوال كما يأخذها
الأخ الشقيق. فإذا اجتمع جمع كثير من الإخوة لأم مع أخ شقيق واحد كان لهم
الثلث وله الثلثان , وكذلك الأخ لأب عند عدم الشقيق. فأنت ترى أن العصبة
أفضل , ولذلك كان الأولاد عصبات وهم أقوى الوارثين , ولما كانت القاعدة في
الإرث أن يأخذ أصحاب الفرائض فروضهم ويأخذ العصبات الباقي؛ اتفق في هذه
الصورة أن لا يبقى لهم شيء , والمسائل النادرة لا تبطل القواعد المطردة هذا ما
جرى عليه أصحاب هذا القول.
وهناك قول آخر وهو التشريك بين الأخ الشقيق والإخوة لأم , وروي أن
المسألة وقعت على عهد عمر رضي الله عنه فقال: لم يزدهم الأب إلا قربًا ,
وورث الجميع. وعليه ابن مسعود وزيد أعلم الصحابة بالفرائض وشريح القاضي
والشافعية وهو أقرب إلى العدل على أنه اجتهادي، والله أعلم.