حدوث العالم في نظر الإسلام والفلسفة (س١) المولى رضاء الدين أفندي قاضي القضاة وعضو الجمعية الإسلامية العامل في أوفا (الروسيا) : قد طال النزاع وقوي الجدال وكثر في هذه الأيام القيل والقال بين الناس في هذا القطر في مسألة حدوث العالم من جهتها الشرعية. فبعضهم يقول: إن الاعتقاد بالحدوث الزماني حسب ما قرره علماء الكلام من متأخري المسلمين فرض على العباد مثل الاعتقاد بوحدة الله تعالى وصدق رسوله وسائر الاعتقادات الواردة في القرآن الشريف. وبعضهم يخالفه ويقول: إن الاعتقاد بحدوث العالم حدوثًا زمنيًّا لا يكلف به الشرع ولا أخبر به النبي ولا نطق به القرآن الكريم بل هو من آراء أهل الكلام وبدعهم، أخذوه من فلاسفة اليونان ولقنوه العوام باسم الدين وما هو من الدين أصلاً. بل هو من باب التدين بالرأي. وإنما الواجب على المسلمين هو اعتقاد أن العالم مخلوق له تعالى من غير تعرض إلى حدوثه بالزمان أو بالذات. وهو الذي نطق القرآن به في عدة مواضع. وبالجملة، إن القول بالحدوث الذاتي أو الزماني إنما هو من مسائل الفلسفة لا تعلق له بالشريعة. ولما كانت جريدة المنار هي الجريدة الدينية الوحيدة، جئنا إلى حضرتكم نستسفر رَأْيَكُم في هذه المسألة ونَشْرَه أيضًا في أحد أعدادها ويكون هو - إن شاء الله تعالى - الفاصل بين الحق والباطل. (ج) إن الصواب في الرأي الثاني. وما كان لدين الفطرة مقرر الحنيفية السمحة الذي ظهر في الأميين ودعا إليه المتوحشين والممدنيين - أن يكلف كل فرد في تصحيح الإيمان بنظريات فلاسفة اليونان، والتمييز بين تلك الخلافات في الحدوث بالزمان والحدوث بالذات. ثم خلافات الفلاسفة مع أهل الكلام في أصل وجود الزمان. فالمتكلم يقول: إنه أمر اعتباري، والفيلسوف اليوناني يقول: إنه وجودي، وإنها لمعارك يحارب الباحث فيها غير عدوّ حتى إذا أعيا من مقارعة الدليل بالدليل، ونفض عنه عثير القال والقيل، رجع إلى أحد الأمرين: وقوف الحيرة أو دين الفطرة، المقصد الأول من مقاصد القرآن المبين، تقرير عقائد الدين، ثم هو لم ينطق بكلمة من مادة الحدوث للأعيان، لا بحسب الذات ولا بحسب الزمان، فللناظر أن يقول: إن اطّراد السنن الإلهية في العوالم العلوية والسفلية، ووحدة النظام مع الإتقان في جميع هذه الأكوان: يدلاّن على أن لها خالقًا عليمًا، قادرًا حكيمًا حيًّا قيومًا، لا رادّ لإرادته، ولا معقب لحكمه وحكمته، وأنه واحد لوحدة النظام المشهود في جميع الوجود، وبهذا يكون مؤمنًا بالبرهان، متبعًا طريق القرآن وإن لم يخطر بباله حدوث الذات وحدوث الزمان. أما مسألة حدوث العالم في نظر الفلسفة فالمتفق عليه عند فلاسفة العصر أن كل ما نراه ونحس به من هذه العوالم الأرضية والسماوية فهو حادث بمعنى أنه لم يكن كما هو الآن ثم كان، ولكن عضلة العقد عند المتقدمين والمتأخرين هي مسألة منشأ التكوين. وهم متفقون على أن الوجود المطلق قديم وأنَّ العدم المطلق لا حقيقة له ولا يتصوره العقل وأنه لا يحدث شيء من لا شيء. فالفلاسفة والمتفلسفون يحسبون أن هذه المسائل القطعية لا تنطبق على الأديان وإن سماوية، ونحن نقول: إنها هي التي جرى عليها القرآن وقررها الإسلام فليس في كتاب الله تعالى آية تدل على أن الوجود الحقيقي صدر عن العدم الخيالي، بل قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: ٢) والخلق لغة: الترتيب وهو لا يكون في العدم، بل قال: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: ٣٠) وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: ١١) وحلُّ المسألة بطريقة إسلامية أن هذا الوجود الذي نشاهده كله ممكن حادث، وأنه صدر عن وجود واجب قديم لا تعرف حقيقته ولا كيفية صدوره عنه، وإنما قام البرهان بأنه صدر بإرادة وقدرة وعلم وحكمة. وذلك ما ذكرناه من وحدة النظام والإحكام وإطراد النواميس والسنن. *** دعوى كتابة النبي بالتركية (س٢) ومنه: قال الفاضل المرجاني القزاني صاحب (ناظورة الحق) في رسالته (مستفاد الأخبار) : إن حديث أبي هريرة المذكور في أسد الغابة المطبوع بمصر القاهرة (ج٤ ص١٤٠) وقع فيه عدة أغلاط وقت طبعه، والصواب ما في النسخة الخطية في زمان قريب من عصر المؤلف ابن الأثير رضي الله عنه. وهو هكذا: (وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لعمير ومن معه كتابًا تركيًّا ذكره. فإن رواته نقلوه بألفاظ عربية، وبدلوها وصحفوها تركناها لذلك) . ولما لم يكن لدينا نسخة أخرى سوى المطبوعة المذكورة لنقابلها رجونا من حضرتكم مقابلة النسخة المطبوعة مع الأصول المصححة خدمة للعلم والدين، ثم بيانه إلينا لنكون على بصيرة من ذلك وأجركم على الله. ج ـ لم يكن التحريف والتبديل في النسخة المطبوعة وإنما كانا في رسالة الفاضل القزاني (مستفاد الأخبار) فإن ما كتبه عن النسخة الخطية هو عين ما في النسخة المطبوعة إلا أنه صَحَّفَ لفظ (تركنا ذكره) بقوله: (تركيًّا ذكره) ولفظ (غريبة) بلفظ (عربية) فكان التبديل والتحريف من هذا التصحيف، وسببه أن النسخة الخطية التي رآها غير منقوطة فأوقعت الفاضل فيما رأيت. وما كان لمثله أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يكتب لقوم من العرب كتابًا تُركيًّا، فإن جاز أن يعرف هو التركية من طريق المعجزة فمن أين لعمير وقومه بني أسلم علْم ذلك؟ وما هو الداعي إلى مخاطبة العرب بلسان العجم؟ ثم ما كان لمثله أن يخفى عليه أن كلمة (ذكره) بعد كلمة (تركيا) لا معنى لها، ولكن معناها ظاهر إذا كانت الكلمة (تركنا) وهو أن المصنف ترك ذكر الحديث لوقوع التحريف فيه، وسبب التحريف وجود الألفاظ الغريبة التي لم يفهمهما رواته. أما عبارة الكتاب فهي كما في ترجمة عمير بن أقصى الأسلمي: روى أبو هريرة قال: قدم عمير بن أقصى في عصابة من أسلم فقالوا: يا رسول الله إنا من أرومة العرب نكافئ العدو بأسنة حداد، وأذرع شداد، ومن ناوأنا أوردناه السامة، وذكر حديثًا طويلاً في فضل الأنصار، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لعمير ومن معه كتابًا تركنا ذكره، فإن رواته نقلوه بألفاظ غريبة وبدلوها وصحفوها تركناها لذلك أخرجه أبو موسى. اهـ وقد قابلنا النسخة المطبوعة بنسخة خطية في مكتبة الحكومة المصرية كتبت في سنة ٧٢٢ أي بعد وفاة ابن الأثير بأقل من قرن فألفيناها مطابقة لها. *** السلام على غير المسلم (س٣) الشيخ بسطويسي بركات بالمحلة الكبرى: قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: ٨٦) وقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: ٩٤) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور:٢٧) الآية. فهل هذا الإطلاق في الآيات الكريمة يشمل المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب وغيرهم من بني آدم أم هو خاصّ بالمسلمين قيدت إطلاقه عليهم أحاديث صحيحة صريحة؟ وهل قوله صلى الله عليه وسلم فيما معناه: (إن من حق المسلم على المسلم إفشاء السلام) يعتبر من قيود الإطلاق لفهم البعض سقوط حق غير المسلم أم لا؟ وإذا قيل: إنه عام فهل ينبغي شيوعه بين الطوائف حتى يصير عادة مألوفة أم لا؟ (ج) إن الإسلام دين عامٌّ ومن مقاصده نشر آدابه وفضائله في الناس ولو بالتدريج وجذب بعضهم إلى بعض ليكون البشر كلهم إخوة. ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوة إفشاء السلام إلا مع المحاربين؛ لأن من سلّم على أحد فقد أمّنه، فإذا فتك به بعد ذلك كان خائنًا ناكثًا للعهد. وكان اليهود يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيردّ عليهم السلام حتى كان من بعض سفهائهم تحريف السلام بلفظ (السَّام) أي: الموت فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحييهم بقوله: (وعليكم) وسمعت عائشة واحدًا منهم يقول له: السَّام عليك. فقالت له: وعليك السام واللعنة. فانتهرها عليه الصلاة والسلام مبينًا لها أن المسلم لا يكون فاحشًا ولا سبّابًا، وأن الموت علينا وعليهم وروي عن بعض الصحابة كابن عباس أنهم كانوا يقولون للذمّيّ: السلام عليك. وعن الشعبي من أئمة السلف أنه قال لنصرانيّ سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله تعالى، فقيل له في ذلك فقال: (أليس في رحمة الله يعيش) وفي حديث البخاري الأمر بالسلام على من تعرف ومن لا تعرف، وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} (النساء: ٨٦) فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا للمسلمين، {أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: ٨٦) لأهل الكتاب. وعليه يقال للكتابيّ في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة. هذه لمعة مما روي عن السلف، ثم جاء الخلف فاختلفوا في السلام على غير المسلم فقال كثيرون: إنهم لا يُبدأون بالسلام لحديث ورد في ذلك وحملوا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على الحاجة، أي: لا يسلم عليهم ابتداءً إلا لحاجة. وأما الرّد فقال بعض الفقهاء: إنه واجب كردّ سلام المسلم وقال بعضهم: إنه سنة وفي الخانية من كتب الحنفية: ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالردّ، وهذا يدل على أنه مباح عند هذا القائل لا واجب ولا مسنون مع أن السنة وردت به في الصحيح، أما ما ورد من حق المسلم على المسلم فلا ينفي حق غيره، فالسلام حق عام ويراد به أمران: مطلق التحية وتأمين من تسلّم عليه من الغدر والإيذاء وكل ما يسيء. وقد روى الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة: (أن الله تعالى جعل السلام تحية لأمتنا وأمنًا لأهل ذمتنا) . وأكثر الأحاديث التي وردت في السلام عامة وذكر في بعضها المسلم كما ذكر في بعضها غيره كحديث الطبراني المذكور آنفًا. أما جعل تحية الإسلام عامّة فعندي أن ذلك مطلوب وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن اليهود كانوا يسلمون على المسلمين فيردون عليهم فكان من تحريفهم ما كان سببًا لأمر النبي صلى الله تعالى عليه والسلام بأمر المسلمين أن يردوا عليهم بلفظ (وعليكم) حتى لا يكونوا مخدوعين للمحرفين ومن مقتضى القواعد أن الشيء يزول بزوال سببه. ولم يرد أن أحدًا من الصحابة نهى اليهود عن السلام؛ لأنهم لم يكونوا ليحظروا على الناس آداب الإسلام ولكن خلف من بعدهم خَلْفُ أرادوا أن يمنعوا غير المسلم من كل شيء يعمله المسلم حتى من النظر في القرآن وقراءة الكتب المشتملة على آياته، وظنوا أن هذا تعظيم للدين، وصَونٌ له عن المخالفين، وكلما زادوا بُعدًا عن حقيقية الإسلام زادوا إيغالاً في هذا الضرب من التعظيم، وإنهم ليشاهدون النصارى في هذا العصر يجتهدون بنشر دينهم ويوزعون كثيرًا من كتبه على الناس مجانًا، ويعلمون أولاد المخالفين لهم في مدارسهم ليقربوهم من دينهم، ويجتهدون في تحويل الناس إلى عاداتهم وشعائرهم ليقربوا من دينهم حتى إن الأوربيين فرحوا فرحًا شديدًا عندما وافقهم خديو مصر الأسبق على استبدال التاريخ المسيحي بالتاريخ الهجري، وعدُّوا هذا من آيات الفتح. ونرى القوم الآن يسعون في جعل يوم الأحد عيدًا أسبوعيًّا للمسلمين يشاركون فيه النصارى بالبطالة. ومع هذا كله نرى المسلمين لا يزالون يحبون منع غيرهم من الأخذ بآدابهم وعاداتهم ويزعمون أن هذا تعظيم للدين، وكأن هذا التعظيم لا نهاية له إلا حجب هذا الدين عن العالمين، إن هذا لهو البلاء المبين، وسيرجعون عنه بعد حين.