للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدين والدنيا والآخرة
(٣)

أثبتنا في المقالتين السابقتين أن العقل والنقل والفطرة البشرية والأديان
السماوية، متفقة كلها على أن الله تعالى أنشأ الإنسان من الأرض واستعمره فيها؛
ليسعد بها لا ليشقى، وشرع له الدين ليوقفه بطلبها عند حدود الاعتدال , ويعلمه
قرن التمتع بالنعم بشكر المنعم، وذلك بأن يؤمن بأنه هو الواهب لها , ويجعل
مصالحه الخاصة منطبقة على المصالح العامة , ويسترشد في عمله بسنن الله في
شريعته وخليقته جميعًا , كما يعلمه أن يجعل الدنيا مزرعة للآخرة فيأخذ نفسه فيها
بالعبادات والفضائل النفسية والمعارف الروحية التي تكمل بها السعادة في الدنيا،
ويتأهل بها للسعادة في الآخرة.
ولم ترد هذه التعاليم كلها على كمالها إلا في الديانة الإسلامية خاتمة الأديان
وما أخذت أمة من الأمم بدين سماوي , إلا وحسنت حالها بالأخذ به في حياتها الدنيا ,
وارتقت عما كانت عليه قبل ذلك، خصوصًا الأديان التي كانت قبل المسيحية ,
وأقربها إلينا اليهودية؛ فإن الزهد في الدنيا والإعراض عنها لم يكن من تعاليمها ,
ولم يُعرف عندها قولاً ولا عملاً.
وأما المسيحية فلم تكن إلا إصلاحًا في اليهودية وتتميمًا لها، فقد صرح القرآن
حكاية عن المسيح عليه السلام أنه قال: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ
لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (آل عمران: ٥٠) ويروون عنه في الأناجيل أنه
قال: ما جاء لينقض الناموس وإنما جاء ليتممه.
فمن حق النصارى أن يكونوا يهودًا آخذين بالتوراة في عباداتهم ومعاملتهم مع
زيادة زهادة في الدنيا وإعراض عنها.
وأما المسلمون فلقد كانوا على صراط الدين في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم وزمن الراشدين من بعده , وكانت الزينة والطيبات من الرزق في أول نشأة
الإسلام بالدرجة التي يقتضيها ذلك الطور المعانق لطور البداوة حتى إن الإمام عليًّا
كرم الله وجهه كان يرى أن أكل مخ الحنطة (أي الحنطة المنخولة) من النعيم وهو
أمير المؤمنين! ! ولما فتحوا الممالك واستفحل عمرانهم توسعوا في تناول الطيبات
واستعمال الزينة كما هو شأن الحضارة , وما كان الجمهور من الصحابة وأكابر
التابعين ينكرون من هذا إلا ما انتهى صاحبه إلى السرف وانغمس في الترف لما
يستعقبه هذا من الضعف عن حماية البيضة، والعجز عن تعزيز الأمة.
وربما أنكروا ذلك على من انتصب للإرشاد , وجعله الناس قدوة لهم فمثل هذا
ينبغي أن يكون عزاء للبائس الفقير، وتسلية للعاجز المسكين , وصرح غير واحد
بأن النبي والخلفاء الراشدين كانوا يختارون شظف العيش في عامة الأوقات لأجل
هذه الأسوة والقدوة.
قال في الإحياء: إن يحيى بن يزيد النوفلي كتب إلى الإمام مالك بن أنس:
(بسم الله الرحمن الرحيم , وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، من
يحيى بن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس. أما بعد , فقد بلغني أنك تلبس
الدقاق، وتأكل الرقاق، وتجلس على الوطيء، وتجعل على بابك حاجبًا، وقد جلست
مجلس العلم , وضُربت إليك المطي , وارتحل إليك الناس فاتخذوك إمامًا، ورضوا
بقولك، فاتق الله يا مالك , وعليك بالتواضع.
كتبت إليك بالنصيحة مني كتابًا ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى
والسلام) .
فكتب إليه مالك: (بسم الله الرحمن الرحيم , وصلى الله على محمد وآله
وصحبه وسلم.
من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد , سلام الله عليك , أما بعد فقد وصل إلي
كتابك فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والأدب , أمتعك الله بالتقوى , وجزاك
بالنصيحة خيرًا، وأسأل الله تعالى التوفيق , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق وألبس الدقاق وأحتجب وأجلس على الوطيء،
فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى، فقد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: ٣٢) وإني لأعلم أن ترك
ذلك خير من الدخول فيه , ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا , والسلام) .
فانظر كيف قيد يحيى الإنكار على الإمام مالك بقوله: وقد جلست مجلس العلم
إلخ , كأنه يقول: إن الإمام القدوة ينبغي أن يراعي حال أضعف الناس لا سيما في
الطور التي كانت فيه الأمة يومئذ , ولقد أنكر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على
معاوية ما كان فيه من الأبهة والسعة عندما كان أميرًا في الشام فاعتذر معاوية بحالة
البلاد والأمة المحكومة , وأنها لاتهاب الحاكم إذا كان رث الهيئة، فقبل عذره , وقد
لبس النبي صلى الله عليه وسلم الطيالسة الكسروية والجبة الرومية، وغير ذلك
من اللبوس الفاخر، لئلا يظن الموسرون أن إباحة ذلك في القرآن لا تنافي أنه
مذموم أو مكروه وإن اجتنب السرف والمخيلة.
ولقد بالغ رجل واحد من الصحابة الكرام في التزهيد، ورأى أنه يجب إنفاق
كل ما زاد عن الحاجة , فنفاه معاوية من الشام إلى المدينة ونفاه عثمان الخليفة
الثالث إلى الربذة حتى مات فيها، وذلك خشية أن ينتشر رأيه بين الناس فيضعف
هممهم عن الكسب وعمارة الدنيا , ثم حدثت الفوضى العلمية والدينية في المسلمين
عندما شغل ملوك بني أمية ومن بعدهم زخرف الملك عن القيام بحقوق الخلافة
فانتشرت التعاليم الفاسدة والآراء والمذاهب التي كانت تنجم في زمن الراشدين
فيبادرون لحصدها أو قلعها قبل أن يعلم بها جماهير الناس.
ومن أضر ما حدث الغلو في التزهيد، وحمل الناس على الاعتقاد بأن الدنيا
ضرة الآخرة على الإطلاق , وأن كل عمل يطلب للدنيا يغضب الله تعالى , ومن
كبر المصائب أن هذا التعليم كان ديدن الخطباء والوعاظ والقصاص الذين لا يسمع
العامة إرشاد الدين إلا منهم , وأنه انتشر بين جميع الفرق الإسلامية فزرع أهله فى
قلوب الأمة الإسلامية فسيل الكسل، ومقاومة ما تقتضيه الطبيعة والفطرة من الجد
والعمل.
إن الله - تعالى - زين للناس ما على الدنيا ليكون داعيًا إلى إحسان العمل
فيها كما قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الكهف: ٧) وقد ورد في الحديث تفسير حسن العمل بالعقل أي ما يرشد إليه،
ولكن فريق المزهِّدين أو المكسِّلين فسروه بالزهد في الدنيا.
أخذ السواد من المسلمين هذه التعاليم بالقبول؛ لأنهم تلقفوها ممن يعتقدون بهم
كمال الدين كالعُباد والمتصوفة والوُعاظ وتبعها تعليم آخر أشد منها ضررًا , وهو أن
العلوم الدنيوية كالرياضيات والطبيعيات ويتبعها الطب والتشريح كلها مفسدة للعقائد،
وقائدة إلى الزندقة , وصارت هذه الآراء تقوى في الأمة كلما ضعف العلم،
وصار العلماء الراسخون يتحامون الظهور بإبطال هذه الآراء والتعاليم خوفًا من
إساءة ظن العامة فيهم واتهامهم بالزندقة لأنهم لم يَدعوا إمامًا من أئمة المسلمين إلا
واتهموه في عصره بهذه أو ما يقاربها حتى إن منهم من عد الاشتغال بعلم المنطق
كفرًا , ذكر ابن الوردي في حوادث سنة ٦٣٩ من تاريخه ترجمة العلامة كمال
الدين بن معية الذي فضله العلامة أثير الدين الأبهري على الإمام الغزالي , وقال
فيها: إن ابن الصلاح الفقيه الشافعي المشهور سأل كمال الدين أن يقرئه المنطق
سرًّا فقرأه عليه مدة ولم يفهمه، فقال كمال الدين: يافقيه , المصلحة عندي أن تترك
الاشتغال بهذا الفن لأن الناس يعتقدون فيك الخير , وهم ينسبون كل من اشتغل به
إلى فساد الاعتقاد فكأنك تفسد عقائدهم , ولا يصح لك من هذا الفن شيء.
قال ابن الوردي: (ولغلبة العلوم العقلية على كمال الدين اتهم في دينه , وهذه هي
العادة) فتأمل قول المؤرخ: (وهذه هي العادة) .
والمشهور عن ابن الصلاح أنه كان يحرم المنطق قال في السلم:
ابن الصلاح , والنواوي حرما ... وقال قوم: ينبغي أن يُعلَما
فلينظر أي النقلين أصح؟ على أنه يمكن الجمع بأنه رجع عن التحريم بعد
القول به في العلوم الدنيوية؛ لعلمهم أن الدنيا سياج الدين ومزرعة الآخرة ,
وكانت العامة على خلاف رأيهم.
وأما في هذا العصر فقد انحط العلم حتى صار العلماء هم الذين يَنْفُرُون
ويُنَفِّرُون عن هذه العلوم والفنون , وصار قسم كبير من العامة يرغبون فيها
ويحملون أبناءهم على تعلمها , والسبب في هذا ظاهر؛ فإن التطلع إلى سعادة الدنيا
هو مرمى أبصار جميع الناس , والعلوم الدنيوية في القرون السالفة لم تكن من
وسائل الترقي في الدنيا , وإنما كان العلماء مسوقين إليها بإرشاد القرآن الطافح
بالحث على النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، وكانوا
مكتفين من الثمرة بقوة الإيمان ولذة العقل اللذين فيها , ولم يكن للعامة حظ من ذلك.
أما العلم بالقرآن وبما يرشد إليه من أنواع المعارف فقد ضعف في صنف
العلماء وانحصرت فوائد هؤلاء الدنيوية في مناصبهم الدينية، وأما العامة فإنهم رأوا
الفائدة فيها فأقبلوا عليها، فكم من فقير حقير علم ولده فخرج موظفًا أو مهندسًا أو طبيبًا
فاستغنى بماله واعتز بجاهه.
وقد ساوى العلماءُ العامة في هذا الإقبال عملاً , وإن كان منهم من يذمه قولاً.
ذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما تدر لها ثعل
كتب الشيخ محمد راضي البحراوي أحد أساتذة العلم في الأزهر مقالات يذم
فيها علم الحساب وتقويم البلدان , وكتب غيره منهم يؤيد رأيه , وزعما أن جميع
شيوخ الأزهر على رأيهما في ذلك ولكني علمت من بعض أهل الأزهر أن الشيخ
محمد راضي هذا , بل والأستاذ الأكبر شيخ الجامع يعلمان ولدهما هذه العلوم.
يقول قائل: إن التزهيد في الدنيا لا يؤثر في النفوس لكونه على خلاف سنن
الفطرة , ولم يوجد في الأمة من الزهاد الذين تركوا الدنيا باختيارهم ظاهرًا وباطنًا
لأجل الآخرة إلا نفر قليل كإبراهيم بن أدهم - رحمه الله تعالى - وأكثر المنتحلين
للتصوف المدعين الإعراض عن الدنيا للتقرب من رضوان الله تعالى كانوا وما
زالوا يطلبون الدنيا بهذه الأعمال؛ لأنهم وجدوها أقوى ذريعة للمال والجاه , وهم
في هذا أبعد عن الزهد الحقيقي من الأغنياء لأن الزهد عمل قلبي كما سنوضحه بعد ,
وقد فضحهم الأئمة المحققون في التصوف كالغزالي وغيره , فكيف تقول: إن
ذلك أضر بالمسلمين؟
والجواب عن هذا واضح , وهو على وجهين (أحدهما) أن من مضرته
وجود الألوف من رجال الدين عبادًا وعلماء لا عمل لهم , وإنما يعيشون عالة على
الناس ومن الخلفاء الراشدين من كان صانعًا ومنهم من كان تاجرًا , وما التكايا التي
أحدثها المسلمون إلا كالأديار عند المسيحيين، ولكنهم لا يوجبون على من دخلها أن
يكون راهبًا طول حياته.
و (ثانيهما) أن المضرة قد ظهر أثرها في مجموع الأمة فعلاً حتى هبطت
من الأوج إلى الحضيض , وهكذا شأن التعاليم النافعة والمضرة لا يعرف تأثيرها
إلا بمثل ذلك , وإن شئت تعليلاً عقليًّا يثبت لك تأثير الغلو في التزهيد باسم الدين
على ما فيه من مخالفة سنن الفطرة فتأمل في حال كل من يعمل عملاً تقتضيه
الطبيعة والفطرة اقتضاء حتمًا أو غير حتم , وهو يعتقد سوء مغبتهِ تجده في عمله
ضعيفًا لا يبلغ الغاية منه.
انظر لمن يحمله الغضب على الضرب وهو يخاف الله أو عقوبة الحاكم كيف
يكون ضربه دون ما تبلغه قوته لولا ذلك الخوف , وربما يكون في وقت الضرب
ناسيًا لمراقبة الله , وغير متفكر في عقوبة الحكومة , ولكن نسيان ما انطوت عليه
النفس وعدم ملاحظته والتفكر فيه لا يبطل أثره , وتأمل كيف أن العرب ما أتقنوا
فن الموسيقى في أيام حضارتهم مع اشتغالهم به مجاراة للطبيعة الميالة إليه، وما
ذلك إلا لأن فقهاءهم يذمونه ويحرمون بعض آلاته.