للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: محمد رشيد رضا


فهم الدين
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الزمر: ٢٧) {قُرْآناً عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: ٢٨) .
قال مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في تفسير
قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: ٦) ما مثاله بالإيجاز:
منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته:
أولاها: هداية الوجدان الطبيعي، والإلهام الفطري، وتكون للأطفال.
وثانيتها: هداية الحواس والمشاعر.
وثالثتها: العقل.
ورابعتها: الدين.
ثم بيَّن أن الهداية الأولى والثانية، يشارك الإنسان فيهما الحيوان الأعجم وأن
الإنسان لا يمكن أن يصل إلى كماله المستعد هو له بهما؛ لما يعرض لهما من الخطأ
وسوء الاستعمال، وبعد أن ضرب المثل لهذا الخطأ، وبيّن وجه حاجة الإنسان إلى
العقل الذي ينتزع المعلومات الكلية من مدركات الحواس، ويُمَيّز بين خطئها
وصوابها، قال: إن العقل أيضًا عرضة للخطأ ومحل للقصور، فلا يمكن أن يحيط
بمصالح الإنسان في أفراده ومجموعه، ويحدد أسباب سعادته في معاشه ومعاده،
ومن ثَمَّ كان الإنسان في أشد الحاجة، لا سيما بالنسبة لأمر المعاد إلى الهداية الرابعة
هداية الدين، وقد منحه الله إياها، ولما كان معظم قصور الحس والعقل في الإنسان
إنما هو فيما يختص بسعادة المعاد، كان بيان طريق السعادة الأخروية أهم ما جاء به
الدين. وهل يعتور هذه الهداية ما يعتور غيرها من الخطأ وسوء الاستعمال،
فيتنكب أهلها جادة السعادة؟ ؟ نعم، فإنه كما يخطئ الإنسان في إدراك
المحسوسات؛ لمرض في حواسه، وفي فهم المعقولات؛ لآفة في عقله، أو لسوء
استعمال الحس والعقل، كذلك يخطئ في فهم الدين؛ بسبب الأمراض الروحية
التي تطرأ على مزاج الأمة.
إذا تمهد هذا، فغرضنا الآن كشف الغطاء عن شبهة أوردها على الدين
أصحابُ مجلة (المقتطف) في الجزء الصادر في أول يونيو، الذي نحن فيه عند
تقريظ كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) وملخص ما هنالك أنه
نُشر في القطر المصري كتب وجرائد، حاول كُتَّابُها التوفيق بين الأصول الدينية
والحقائق العلمية، قال: (وقد يجدون ذلك سهلاً؛ لأنه قَلَّما يَجْسُرُ أحدٌ على مخالفتهم،
ولكن لو كان في البلاد علماء أشداء كالجلال السيوطي ... لشبَّت نارُ الحرب منذ
الآن) (انظروا وتأملوا) ثم ذكر أن هؤلاء الكُتًَّاب يجيبون من سألهم عن السبب في
عدم وجود هذه المدنية في ربوع المشرق؛ بأن سبب ذلك سوء فهم الدين وحمْله
على غير المراد منه، وعلى هذا الجواب بنى شبهته الكبرى، فقال: (ولكن إذا
قيل له: ألاينتظر من الدين أن يكون معناه واضحًا؛ حتى لا يقع سوء في فهمه،
ولا يحمل على غير المراد منه، وهل أساء كل علماء الشرق فهم دينهم منذ ألف سنة،
أو حواليها إلى الآن، ولم يقم منهم من يحمله على المراد منه إلا في هذا العصر
وفي هذا العام؟ ! إذا قيل له ذلك لم يكن الجواب عليه بالأمر السهل) . اهـ.
ولا يخفى أنه يعني بكلامه الإسلام والمسلمين؛ لأن الكلام معهم، وهم الذين
نشروا الكتب والجرائد في القطر المصري، ويسهل عليهم الجواب الذي حسبه
صعبًا حضرة السائل، وهو ...
إن الكاتب اعترف معنا بأن فهم الدين على غير وجهه، إنما وقع في
الإسلام من نحو ألف سنة، أي من بعد انتشار البدع، وتفرق المذاهب في الدين
الواحد الذي جاء بالتوحيد والتأليف، ونهى عن التفرق والاختلاف، وبديهي أن
أصحاب الآراء والمذاهب من أهل الأهواء يحاولون تعزيز مذاهبهم بالشبه مهما
تضاءلت افتضاحًا.
ويؤولون الحجج المخالفة لهم، مهما أضاءت اتضاحًا. فهذا هو السبب الأول
في سوء فهم الدين الإسلامي، والانحراف به عن صراطه، والسبب الثاني:
اختلاط المسلمين بأمشاج من جميع الأمم والملل دخلوا في دينهم، ومنهم الصادق
ومنهم المنافق، وهؤلاء اجتهدوا في إفساد تعاليم الدين، وإدخال بعض مسائل من
أديانهم السابقة مصبوغة بصبغة الإسلام، ووضع الأحاديث المكذوبة على صاحب
الشرع - صلى الله عليه وسلم - والسبب الثالث: العدوى المعنوية، وهي أنه ما من
رجلين يتصاحبان، أو شعبين يتمازجان، إلا ويسري من أخلاق أحدهما وآدابه شيء
للآخر، وكذلك دَبَّ إلى الإسلام داء الأمم قبلهم، وكادوا يتبعون سَنَنَ مَنْ قبلهم شبرًا
بشبر وذراعًا بذراع كما في الحديث الصحيح، بُذِرَت بذور هذه التعاليم المضرة في
أرض الإسلام، وسُقيت بأمواه التعصبات والأهواء؛ فنمت بالتدريج حتى صارت
دوحات كبيرة؛ تتساقط منها الثمرات المضرة، وكان من تنبه لها من العلماء
الراسخين إنما يسعى في قطعها، لا في قلعها؛ ولذلك عاد كلما قطع منها أبسق
مما كان، نشير بهذا إلى ما كان من مقاومة تلك التعاليم الفاسدة في كل عصر،
وإن لم تقوَ عليها، وهو جواب عن قول المقتطف: (وهل أساء كل علماء المشرق
فهم دينهم منذ ألف سنة، أو حواليها) نعم، إن القرون الثلاثة الأولى هي التي كان
الغلب فيها لتعاليم الدين الصحيحة وأخلاقه وآدابه، كما هو الشأن في كل دين، ووفاقًا
للحديث الشريف خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فقول
المقتطف لا يفتش عن فعل الدين في حروف كتبه، بل في أخلاق أتباعه وأفعالهم،
غير مسلّم على إطلاقه؛ فإن الكِتَابَ الذي هو أصل الدين، كالقرآن مثلاً،
إذا كان مُصَرِّحًا بشيء، فلا مندوحة عن القول بأنه من الدين، وإن خالفه الذين
يدَّعون اتِّبَاعَه. نعم، لا يجوز أن يتفق المنتسبون لدين من الأديان على مخالفة
أصوله في عصر النبوة، وما يقرب منه، ولكن إذا طال الزمان تُفْتَن الأمةُ بالتحريف
والتأويل، وتضل سواء السبيل، إلا أفرادًا لا يكون لهم صوت في الأمة
مسموع، وأصحاب المقتطف يعرفون هذا من تاريخ الملل، وإلى هذا يشير قوله
تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: ١٦) أي: خارجون عن هدي دينهم، ونحن نأتي بمثال واحد مما
خالف الجماهير فيه هدي الدين الإسلامي، وهو من أصول العقائد، ومن أهم ما
جاء به الدين، ومما له أثر كبير في سعادة الأمم وشقائها؛ ألا وهو الاعتقاد بأن
لبعض البشر تأثيرًا في النفع والضر بقوة غيبية وراء الأسباب الظاهرة
التي اقتضتها الحكمة الإلهية، وجعلتها مناط الأعمال.
هذا الاعتقاد هو الذي شَقِيَ به قبل الإسلام مَنْ لا يُحصَى مِنَ الأقوام، هذا
الاعتقاد هو الذي يُقَيِّد إرادة الإنسان بإرادة غيره من أبناء جنسه؛ فيفقد استقلال
الإرادة الذي هو العامل الأكبر في السعادة البشرية، هذا الاعتقاد هو الحجاب الكثيف
بين الإنسان، وبين معرفة السنن الإلهية في الترقي والتدلِّي، وإدراك أسباب الضُّرِ
والنفع، هذا الاعتقاد هو المرض الذي يُفسد العقل، ويجعله يرجو ما لا يُرجى
ويخاف مما لا يُخاف، هذا الاعتقاد هو شعبة من الشرك كانت أكثر شعابه امتدادًا
وانتشارًا في الأمم كلها؛ ولذلك كانت عناية الإسلام بمحوه فوق كل عناية.
يتوهم كثيرون أن الكفر والشرك اللذين يندد بأهلهما القرآن كثيرًا، هما عبارة
عن إنكار وجود الله تعالى، وعن اعتقاد أن للكون آلهة غيره، يَخْلُقون كما يخلق،
ويرزقون كما يرزق، مع أن هذين القسمين من الناس كانوا أقل الكفار والمشركين
في كل زمان ومكان، وإنما الشرك الذي كان فاشيًا في العرب، وغيرهم ممن ظهر
الإسلام فيهم، هو الذي قال القرآن في أهله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف: ٩) ومثل هذه الآية آيات.
كانوا يعتقدون - كما يعتقد أكثر البشر - أن مبدع الكون وخالقه واحد، ولكنه لمَّا
كان غيبًا مطلقًا، جعلوا وِجْهَتَهُم في عبادته بعضَ مظاهر قدرته الباهرة من خلقه،
من جماد وحيوان وإنسان، وزعموا أن تلك المظاهر هي الواسطة بين الله وبين
عباده في نفعهم وضرهم، ويعلل علماؤهم ذلك؛ بأن عامة الناس من الخطاة
والمذنبين لا يليق بخستهم أن يخاطبوا الجناب الإلهي الرفيع بحاجهم، فلا جرم
كانوا في حاجة إلى واسطة بينهم وبينه، كما هو الشأن عند عظماء الملوك
والسلاطين، وهذا وإن كان في ظاهره تعظيمًا لله تعالى - فقد عدَّه القرآن شركًا،
وذكر شبهة ذويه في معرض التشنيع والإنكار، حيث قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ
بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: ٢-٣) ، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ
بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس:
١٨) ، فانظر كيف لم يعتدّ بأن اتخاذهم شفعاء نافٍ لكونهم معبودين لهم، وكيف
صرح بأن دعوى الشفاعة افتئات على الله تعالى؛ حيث لم يكن بإعلام منه، وقال
فيمن كان يعتقد هذه الوساطة والشفاعة من أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: ٣١) ومعلوم أن أهل الكتاب لم تقُل
فرقة منهم بأن رؤساءهم أرباب حقيقة، يشاركون الله تعالى في الإيجاد والإعدام كما
هو معروف من تاريخهم، وإنما هو اعتقاد الشفاعة والوساطة بين الله والناس في
مصالحهم [١] .
الواسطة الصحيحة بين الله وبين عباده هم الأنبياء، ووساطتهم إنما هي في
التعليم والإرشاد، لا في الخلق والإيجاد، وقد بيَّن الله في ذلك آيات كثيرة جاءت
بصيغة الحصر؛ لتكون نصًّا قاطعًا لأعناق الأباطيل، منها قوله تعالى: {وَمَا
نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: ٤٨) ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: ١٠٥) ، وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: ٤٨) وقد نفى عن النبي الأعظم السيطرة والوكالة على الناس، بقوله:
{لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: ٢٢) ، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام:
١٠٧) ، ونفى عنه الهداية بمعنى الإيصال إلى الخير بالفعل، بقوله:
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: ٢٧٢) ، وقوله:
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: ٥٦) ، بخلاف
الهداية بمعنى الدلالة بالتعليم؛ فقد قال فيها:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: ٥٢) [٢] ، وأمره أن يتنصَّل من
دعوى النفع والضر بقوله تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ
اللَّهُ} (يونس: ٤٩) [٣] ، بل أمره أن يتبرأ مع ذلك من امتلاك الرشد لهم بقوله:
] قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً [٤] * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ
أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً [٥ {* إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: ٢١-٢٣) ، أي
لا أملك إلا البلاغ من الله تعالى فلم يبقَ إلا أنه كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ} (الكهف: ١١٠) .. إلخ.
هذا كله نقطة من بحر توحيد القرآن، ومع ذلك كله كان من أمر المسلمين
نحو ما قاله المؤرخ المحقق دوزي الهولندي، فيما كتبه في الإسلام، حيث قال - ما
مثاله -: (إن محمدًا - عليه السلام - بذل كل فصاحته، وجميع عنايته في اجتثاث
جذور الوثنية، ومحو أساطيرها من لوح الوجود، وظل يجاهدها عشرين سنة،
حتى ظفر بها، واستبدل بها التوحيد الخالص، ولكن النوع البشري لما رسخ فيه
من جذور الوثنية بالوراثة المتمكِّنة في الأحقاب الطويلة، لم يكن مستعدًا للثبات على
هذه العقيدة، عقيدة التوحيد؛ ولذلك لم يمضِ على أتباع محمد أكثر من قرن واحد،
حتى ثابت إليهم الوثنية السابقة بأنواعها، ولكن بأسماء وألوان أخرى) ومَن عرف
الإسلام والمسلمين يعرف صحة قول دوزي هذا، دعْ عنك ذكرى الذين قالوا بألوهية
الإمام علي - كرَّم الله وجهه - في العصر الأول، فقد كان صوتهم ضعيفًا،
وضلالهم معروفًا، وارمِ بنظرك إلى فرق الباطنية الذين كانوا سُلاًّ في رئة الأمة،
لم تنجُ من كروب ميكروبه طائفة منها، خلقوا الأحاديث، وحرَّفوا كلم القرآن عن
مواضعه، وسرت فتنتهم إلى الطائفة المعتدلة من المسلمين باسم التصوف، فآل
الأمر إلى أن فشا في أهل السنة الغلو في شيوخ الصوفية كغلو الباطنية في أئمتهم
وخلفائهم، وهو اعتقاد أن لهم تصرفًا في الكون وراء الأسباب الظاهرة.
فالجاهلون يعتقدون أن هذا لهم بأنفسهم، ولا يتفكرون بالوساطة وما في معناها
من التأويلات، حتى إننا نشاهد عامتهم تتحامى الحلف كذبًا بالشيوخ المعتقدين، لا
سيما عند أضرحتهم، ويحلفون بالله كذبًا، وهم يعلمون.
ويشاركهم في هذا التعظيم والاعتقاد، كثير من اللابسين لباسَ العلماء،
ولكنهم يؤولون لهم ولأنفسهم بأن المحظور في الدين إنما هو الاعتقاد بالاستقلال،
وهم إنما يعتقدون أنهم واسطة بين الله والناس، ولكن إذا سألتهم: ما معنى هذه
الواسطة؟ وما هو الدليل عليها؟ وكيف لم يصرح بها القرآن، وهي في هذه
المكانة من الأهمية؟ والله يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: ٣٨)
وكيف يمكن تأويل النصوص الكثيرة التي تنفيها - إذا سُئلوا عن هذا يرتكسون
بين أمواج الحيرة، يدفعهم ريب، ويتلقاهم شك إلى أبد الأبيد.
يا سبحان الله! إن الله تعالى وصف مشركي الجاهلية بأنهم عند شدة الضيق
يدعون الله تعالى وحده، مخلصين لا متوسطين، فقال: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ
كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: ٣٢) ، ولكنَّا نرى المُتَّسمين بِسَمة الإسلام ينادون عند
أشد الضيق: يا باز يا سيد يا رفاعي يا متولي، وما أشبه هذه الأسماء التي ما أنزل
الله بدعوتها من سلطان، أليس من العجيب أن يقال: إن الدين لا يؤخذ من كتبه؟ !
فتترك نواهي القرآن البليغة الصريحة عن الشرك الظاهر والباطن، ويحكم على
الإسلام بقول هؤلاء الغوغاء الذين يزعمون أن المتصرفين في الكون أربعة:
الجيلي والرفاعي والبدوي والدسوقي. إذا كان لله سبحانه وكلاء من الأموات
يدبرون الكون، فلماذا لم يكن منهم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة
والسلام؟! تعالى الله عن ذلك كله علوًّا كبيرًا!
وقد طال بنا الشرح فلنمسك عِنان القلم؛ فقد حصحص الحق، وظهر أن
انحراف الكثير من الناس عن هدي الإسلام من سوء الفهم، وإن سوء الفهم ليس
لصعوبة أحكامه وبُعدها من الأفهام، وإنما هو لأمراض اجتماعية طرأت على الأمة؛
فحالت دون انتفاعها بدينها، كما حالت دون الانتفاع الكامل بعقولها وحواسها.
ولما كان الإسلام دين الفطرة بشهادة القرآن، فإننا نرجو - كما يرجو عقلاء
العلماء من المسلمين - أن يكون ظهور قوانين الفطرة ونواميسها من أعظم المنبهات
إلى فهم الإسلام على حقيقته، ولسنا نقول بهذا إنه بين جميع نواميس الطبيعة،
ولكن نقول: إنه بين ما يحتاج إليه الناس لسعادتهم في دينهم ودنياهم، وسنبيّن هذا
في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.