للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(أخبار بلاد العرب)
عقد النصر لواءه في نجد لآل سعود أمرائها الأولين , وغلب ابن الرشيد
أميرها الحالي على أمره حتى خرج معظم البلاد والقبائل من يده، وأكثر الأهالي
في جذل وفرح لَمَا قاسوا من ظلم ابن الرشيد، وما يعهدون من عدل آل سعود
واستقامتهم.
إذا تمت لهؤلاء النعمة، ودالت لهم الدولة، فإنهم يكونون للدولة العلية خيرًا
مما كان ابن الرشيد في الولاء - إذا هي شاءت ذلك -، ولم تساعد عليهم عدوهم
الآن، ولم ترهقهم من أمرهم عسرًا فيما بعد، فإن هؤلاء لا يرضون بالظلم، ولا
يجارون عليه. وقد شاع أن الدولة العلية أمدت ابن الرشيد بالمال والرجال، وما
نخال الخبر صحيحًا، ولئن صح ليكونن شرًّا على الدولة؛ إذ يخشى أن يستنجد
آل سعود إذا غلبهم جند الدولة بإنكلترا التي تخطب ودّهم فتمدهم بالجنود الهندية،
ويكون الخطب كبيرًا، وقد قيل: إن الأمير عبد الرحمن فيصل أنذر بذلك وَالي
البصرة ليعرضه على السلطان، ففعل ووَعد السلطان بأنه لا يحارب آل سعود
بالجنود العثمانية، والله أعلم بالمصير.
سبق لنا نشر رسالة من عدن في (ص ٧٥٨) من المجلد السادس وردت في
رمضان الماضي فيها أن إنكلترا تحاول الاستيلاء على جهات جبل يافع المشهور
وأنها أرسلت شرذمة من جندها بالضالع إلى جبل شيب ولم تلبث أن عادت أدراجها
لشعورها بالخطر من العرب. وأن المناوشات بين الإنكليز والعرب على الحدود
مستمرة ... إلخ. وقد كتب إلينا أخيرًا من عدن كتاب مؤرخ في ١٢ صفر الماضي
يقول فيه مرسله:
قد رجع أمير المكلا عن محاربة حجر بدون نتيجة، ووصل كثير من عساكره
إلى عدن قافلين إلى جبل يافع، ومن أجل ما خسره في تجهيز هذه الحملة والتي
قبلها قد ابتدع ضرائب، وضاعف المكوس، وستؤثر هذه السياسة الخرقاء بزيادة
الهلاك، وربما عجلت تداخل الإنكليز في تلك النواحي.
وقد أرجع الإنكليز كثيرًا من عسكرهم إلى الضالع لإتمامهم التحديد مع الترك
حسب زعمهم، أو لترقب فرصة أحسن لهم حسب عادتهم ولهم عناية باستمالة
صاحب نصاب والعوالق، ويتحدثون بمد سكة حديد من عدن تخترق جزيرة العرب
إلى الكويت، ثم قال: وقد وصل إلى عدن بعض الجند الإنكليزي من السومال إذ
انجلى الإنكليز عنها لتعسر هضمها الآن، وسيخلون بين الملا القائم وأرضه لعله
يَبْطُر ويظلم؛ سكرًا بنشوة السلطة والسيادة كما فعل خليفة مُتَمَهِّدي السودان، ثم
يكرون عليه إذا أبغضه قومه واختلفت القلوب. والله المسؤول أن يوفق المسلمين
لانتهاز الفرص والعمل السديد، ثم قال: إن في عدن كثيرًا من دعاة النصرانية،
أضجروا الأهالي، وملأوا آذانهم بالسب والشتم والحكومة معضدة لهم، ونقول: إن
هذا من سوء السياسة والجهل بالأمم , فإن العرب لا يتنصرون، ودعاتهم
للنصرانية لا ينتصرون.
* * *
(الجمعية الخيرية الاسلامية)
صدر تقرير هذه الجمعية عن أعمالها وحسابها في سنة ١٣٢١هـ، ومشروع
أعمالها وميزانيتها، ومحضر جلستها العمومية في سنة ١٣٢٢هـ، وقد جاء فيه أن
إيراد الجمعية من الاشتراكات والمساعدات السنوية قد بلغ ١١٦٢ جنيهًا وأربعين
قرشًا، ومن ريع الأطيان (وهي ٨٠ فدانًا وكسور) ١٢٢٣ جنيهًا وتسعة وخمسون
قرشًا ونصف، ومن الاحتفال السنوي ١٦٣٤ جنيهًا وثلاثة وسبعون قرشًا ,
وهنالك إيرادات متفرقة نحو ما تقدم. والعبرة فيما ذكرنا أن الأصل في
الجمعيات الخيرية هي الاشتراكات والمساعدات السنوية. ومن العار العظيم على
أغنياء مصر ووجهائها من المسلمين , وهم الأكثرون عددًا ومددًا أن يكون اشتراك
الجمعية الخيرية الوحيدة لهم بهذه الدرجة من القلّة. وأن تكون ليلة من ليالي اللهو
خيرًا لفقرائهم ولجمعياتهم من كرم جميع كرمائهم فيما يتفضلون به مدة سنة عن
روية وإخلاص لا لعب فيه ولا لهو. وإن كان معظم إيراد ليلة الاحتفال منهم أيضًا.
وللقارىء أن يجعل الجميعة الخيرية ميزانًا لترقي مسلمي مصر في الحياة
الاجتماعية، ومن البلية أنه يُرى كثيرين من المشتركين وهم خيار القوم لا يخرج
الحق منهم إلا نكدًا، ويرى مجلس إدارة الجمعية يمحو في كل سنة أسماء كثير من
المشتركين الأغنياء لمطلهم وليِّهم وتعذيب المحصل بالتردد عليهم المرة بعد المرة
عدة سنين (فيا للخجل ويا للعار) .
على أننا لا ننكر أن في مصر نسمة خفيفة من الحياة، ولكن ما أتعب الذين
يحاولون نفخها في سائر الأجسام المنفوخة من قبل بحب الفخفخة الباطلة، واللذة
القاتلة، ولعل التعب يفيد، ولو بعد أجل بعيد.
وجاء في قسم النفقات أن ما أُنفق في السنة الماضية على التعليم بلغ ٢٤٥٩
جنيهًا وكسور، وعلى إعانة الفقراء نحو ٣٧٣ جنيهًا. ولو بذل كل مصري قرشًا
وحدًا لهذه الجمعية كل سنة، وتحمل الأغنياء ما يفرض من ذلك على الفقراء -
على أنه لا يصعب على أحد بذل قرش في السنة -؛ لسهل على الجمعية أن تُعمِّم
مدارسها حتى لا يخلو منها مركز من المراكز، ولكن أين الشعور الذي يدفع الناس
لجمع المال والتعاون على البر والتقوى؟ ! أما المخصص للتعليم في الميزانية
الجديدة فهو ٣٦٠٠ جنيه مصري، وأما المخصص لإعانة الفقراء فيها فهو نحو
٦٥٥ جنيهًا.
* * *
(مدرسة الجمعية في المحلة الكبرى)
أشرنا إلى هذه المدرسة في الجزء الماضي، وقد جاء في آخر التقرير عنها
ما نصه:
(بعد تحرير هذه الميزانية ورد مبلغ ١٣٣٣ جنيهًا و٨١٠ مليمات من أعيان
مدينة ومركز المحلة الكبرى جمعوه بالاكتتاب الذي عمل فيما بينهم على ذمة (كذا)
إنشاء مدرسة بالمحلة الكبرى بمعرفة الجمعية مثل مدارسها , وقد لبت الجمعية
طلبهم، وستباشر فتح المدرسة من أول السنة المكتبية المقبلة. وعليه يجب إضافة
المبلغ المذكور على إيرادات التعليم على ذمة مدرسة المحلة الكبرى.
ونزيد على ذلك أن وجوه المحلة قد دعوا رئيس الجمعية للاحتفال بتأسيس
المدرسة فأجاب الدعوة هو وحسن باشا عاصم وكيل الجمعية ومدير مدارسها
وحسن باشا عبد الرازق أحد أعضائها , فقوبلوا بالحفاوة اللائقة، وحضر الاحتفال
الألوف من الناس، وكان ذلك لخمس بقين من المحرم سنة ١٣٢٢هـ، وتليت
الخطب، وأنشدت القصائد في مدح العلم والأستاذ الإمام ناشره وناصره. وقد
أعجب الفضلاء من خطبة الشيخ محمد بسطويسي بركات التاجر بالمحلة قوله:
(أيها الأستاذ الإمام قد جادلتنا فأحسنت جدالنا، حتى أجبنا دعوتك للعلم والدين،
وجاهدتنا في الله حتى محوت آية الجهل بالدليل، وجعلت فينا آية العلم مبصرة
باليقين، وها نحن (أولاء) الواقفون بباب علومك نرى أن قيامك بأمر الدين في
وقت امتزجت العادات فيه بالعبادات كِبْر إلا على العارفين - كبر على من أشربوا
حب التقليد وتعظيم من في القبور- كبر على من ورثوا حب الشرك الظاهر عن
آبائهم، وإن حُجُّوا أو طولبوا بالدليل قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: ٢٣) ... ) إلخ.
وإننا نثني أطيب الثناء على وجهاء المحلة الكبرى، ونخص بالذكر محمد
أفندي البهلوان من أعيان الدواخلية؛ إذ تبرع ببيت من بيوته مدة خمس سنين لتنشأ
فيه المدرسة إلى ما أنفق على إصلاحه زيادة على ما تبرع به مع المتبرعين،
ونرجو أن يسري روح حب العلم في سائر المراكز فتتبارى سماحة الأغنياء وأهل
الغيرة في إنشاء المدارس , وأن يعتمدوا في ذلك على الجمعية الخيرية الإسلامية
التي تسلك بهم الطريقة المثلى بمعارف رئيسها الإمام، وأعضائها الأعلام.
* * *
(مراكش)
ذكرنا في آخر صحيفة من الجزء الثالث نبذة عن الوفاق الفرنسي الإنكليزي
وأنه قُضي فيه على مصر بسوء سياسة الأمراء والحاكمين الذين استبدوا في الأمة
وأذلوها، حتى فقدت الاستقلال الشخصي والقومي، وهو قوة الأمم والدول وعدتها
ثم سلطوا عليها أوربا , وأعطوها من الامتيازات ما شاركتهم فيه بالحكم، حتى
صار لكل مصري في بلاده ألوف من المستعبِدِين.
وأما مراكش فالذي قضى عليها هو الجهل الفاضح في حكامها ومحكوميها؛
فقد اختاروا أن يَبْقَوْا على البداوة والهمجية أمام أوربا التي تسير في المدنية والقوة
مع البرق، ولا أقول مع البرق على سبيل التشبيه كما كان يقول الأولون، بل
أقوله على سبيل الحقيقة، كما يعرف المتأخرون، فإن الإفرنج قد استخدموا أمَّ
البرق هي وولدها , وما أمه إلا الكهربائية التي تنار بها الأسواق والبيوت والمساجد
والحوانيت الكثيرة، حتى في بعض بلاد الشرق كمصر.
نقول: إن الجهل قد قضى على مراكش، ولا نعني بها أن حالها بعد دخول
فرنسا في شؤونها ستكون شرًّا من حالها قبله، كلا إننا صرحنا في مقالة نشرت في
آخر الجزء الخامس عشر من السنة الماضية بأن كل حال تنتقل إليها البلاد فهي
خير من حالها الحاضرة، ولكننا نعني بذلك فقد الاستقلال الذي هو موت الدول
والأمم، على أن مراكش لم تكن حيّة فتموت، وإنما كانت مستعدة لحياة طيِّبة لو وجد
لها حُكَّام عارفون بطرق ترقّي الأمم.
لقد أنذرنا حكومة مراكش بسوء المصير كما أنذرها غيرنا، وأول نبذة كتبناها
في ذلك مضى عليها ست سنين؛ إذ نشرت في العدد الخامس عشر من السنة
الأولى للمنار الصادر في ٩ خلون من صفر سنة ١٣١٦هـ، وقلنا هناك ردًّا على
جريدة قالت: إن مراكش يصعب على الأوربيين الاستيلاء عليها: إن الأوربيين لا
تقف أمامهم المصاعب، والأمم الهمجية لا تقدر على مقاومة الأمم المتمدنة. وإذا
دام أهل مراكش على جهلهم بالفنون العصريّة التي عليها مدار العمران اليوم تقليدًا
لآبائهم، وإبقاءً لِمَا كان على ما كان؛ فلا بد أن يغمرهم طوفان أوربا كما غمر
جيرانهم، ثم نبهنا السلطان عبد العزيز إلى ترك التقليد، والاعتبار بما بين يديه
وما خلفه، والاتعاظ بما عن يمينه وشماله، والاندفاع بهمته كلها إلى التربية
والتعليم، وأن يستعين بالسلطان العثماني على التعليم العسكري والمدني
والاقتصادي، وقلنا: إنه إذا فعل ذلك يرجى أن يندفع ذلك الطوفان الذي يتهدد
بلاده، وما هو إلا النفوذ الأجنبي الذي غمر جيرانه.
ومن البلاء أنه ترك التقليد لمن قبله بخير ما كانوا عليه، وقلد الأوربيين بشر
ما يوجد عليه سفهاؤهم، وسفهاء غيرهم، وهو التفنن في الشهوات واللهو الباطل
والزينة. وقد اجتمعنا بعد كتابتنا تلك بوجيه مراكشي يلقب بالدكتور - أي أنه عالم
فكلمناه في الموضوع، فقال: إنكم لا تعرفون حال مراكش؛ ولذلك تكتبون ما
تكتبون.
إن تلك البلاد أمنع من جبهة الأسد، وعندها من القوة والمنعة ما تصادم به
أوربا كلها؛ إذا زحفت عليها، فقلنا له: وأين السلاح الجديد والفنون العسكرية؟
فقال: إنها متوفرة، وتقدر الدولة على زيادة ما تشاء؛ فإن عندها من كنوز الأموال
مددًا لا ينفد، وهي أغنى دولة على وجه الأرض، ثم إن لها قوة أعلى من كل
القوى، وهي ما فيها من قبور الأولياء الحامين لها! ! ! .
هذا نموذج من غرور القوم بدنياهم ودينهم، وجهلهم بالأمرَيْنِ، فهم لم يَعُدُّوا
لأعدائهم ما استطاعوا من قوة المدافع والبنادق، والعلم والنظام كما أمر الله، ولم
يعتمدوا فيما وراء الأسباب على الله القوي القدير، وإنما يعتمدون على أصحاب
القبور الذين لا يملكون لهم ولا لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا. فهل يمكن أن تنزلهم فرنسا
عن هذه الدركة، وتدفنهم في حفرة أعمق من هذه الحفرة، كلا إنها ستعلمهم رغم
أنوفهم ما يرقيهم - لا بالمدارس تنشئها لهم، ولكن بالأعمال والسيرة التي تسلكها
فيهم سواء كانت قاسية أو ليّنة - ولا ينبغي لعاقل أن يكره التربية والنظام،
ويعادي وسائل العمران، وإنما الإنسان يحب أن يجيء الخير لأمته على أيدي
رؤسائها؛ فإذا كان الرؤساء هم المفسدون الذين يُخْرِبُون بُيوتهم بأيديهم، فماذا يفعل
المرؤوسون ولا جامعة لهم، ولا علم؟
ظهرت غاية قوة مراكش الحربية والمالية بعجزها عن إخماد ثورة داخلية
واضطرارها بها , وبثوران شهوة السلطان إلى اقتراض المال من فرنسا، وهذا
المال سيكون ثمن تلك السلطة الجائرة الجاهلة. وقد عرج على مصر وزير حربها
السابق (المنبهي) قاصدًا الحج فسأله أرباب الجرائد عن حال الثورة والقائم،
فحدثهم عن ضعف القائم وقوة النائم (السلطان عبد العزيز) بمثل ما حدثني
الدكتور، أو بما يقرب منه، وكذب جميع ما نقله البرق وبريد أوربا من خبر
الخارج، وقوته على الحكومة! ! ! وقد عاد من الحج ونود أن يسأل عن الوفاق
الفرنسي الإنكليزي لنسمع ماذا يقول.
* * *
(المولد النبوي)
يحتفل المسلمون في هذا الشهر بتذكار المولد النبوي الشريف، ويقرؤون قصة
المولد في احتفالهم، وما هي بقصة واحدة، وإنما هي قصص، لم نر منها ما يخلو
من الكذب والوضع، إلا قصة جديدة ألفها الشيخ جمال الدين القاسمي من علماء
دمشق الشام سماها (شذرة من السيرة المحمدية) اقتبسها من كُتب الحديث المعتمدة؛
فنحث جميع الذين يقرأون تلك القصص على قراءتها لما فيها من الفائدة، وعلى
ترك القصص الكاذبة، وثمن النسخة منها اثنى عشر مليمًا، مع أجرة البريد،
وتباع بمكتبة المنار.
* * *
(المحكمة الشرعية بمصر)
كلما عَلَتْ شكوى الناس من هذه المحكمة، ومن سائر المحاكم الشرعية بناتها ,
وكلما ألحوا في طلب إصلاحها؛ يلح رجالها الذين يُشْكَى منهم في غَيّهِم، ويُسْرِفُون
فِي أعمالهم التي هي مثار الشكوى، وأصل البلوى. وقد أكثر الخواص في هذه
الأيام من الخوض في سيرة المحكمة العليا، لا سيما بعدما علموا بما نشره المؤيد
في يوم الخميس الماضي من إذن القاضي لابن رجل مُنع من دعوى فِي وَقْفٍ لعدم
جواز سماعها بمضي المدة الشرعية، بأن يخاصم في الدعوى التي مُنِعَ منها أبوه
في المحكمة نفسها، مع أنه لو صحت دعوى أبيه؛ لكان مستحقًّا في الوَقْفِ وأما
الوليد فليس بمستحق، وليس موضوع الدعوى مصلحة عامة، بل المراد إخراج
الوقف عن كونه خيريًّا وجعله أهليًّا. ويتحدثون بأن الابن قد طلب من بلد آخر،
وكلف برفع القضية بناءً على الإذن الذي ناله بعد طلب كلف به، ويقولون: إن
العلّة في هذه السنة السيئة ونحوها من الخلل بعض أعضاء المحكمة العليا، وأن
هذا هو الذي يعنيه المؤيد بقوله: إنه (علة العلل) لأمراض المحكمة العليا، ولعلنا
نسهب القول في وجوب إصلاح هذه المحاكم في جزء آخر.
* * *
(الحرب المضطرمة في الشرق)
ابتدأت الحرب في البحر فكان الفلج فيها لليابانيين، وتبين أن أسطولهم أتم
استعدادًا، وبحَّارتهم أوسع معرفة ودراية، وقد ألزم أسطول هؤلاء أسطولي روسيا
بأن يستعصم كل منهما في مينائه إلى أن حصرهما في المدة الأخيرة بسد مدخل
ميناء بور أرثر , واكتفاء شر خروجه في غيبة الأسطول الياباني، ووقوفه
لأسطول فلاديفستك بالمرصاد. ولما ظهر فوز اليابان في البحر؛ قالوا: هي دولة
بحرية، ولكن لا يستطيع أولئك الأقزام الصُّفر أن يثبتوا أمام الجنود الروسية من
فرسان القوزاق، ومشاة الآفاق، ولَمْ يكن من بوادر الوقائع البرية إلا الفوز الباهر
المقرون بالشجاعة الكاملة، وحسن التدبير، وطول الباع في الفنون العسكرية. وقد
كانت الجرائد الإنكليزية تصف اليابانيين بذلك، والجرائد الفرنسية تشكك فيه،
حتى إذا أثبته العمل اتفق عليه المختلفون واعترفت أوربا وأميركا بأن الجيش
الياباني في مقدمة جيوش العالم، بل صرح بعضها حتى في ألمانيا بأنه أحسن
جيوش العالم. ولم يبق من منازع في ذلك إلا جريدة عربية في مصر برعت في
التأويل، حتى إن ما تكتبه لا يخطر على بال أحد في روسيا نفسها. نعم، إن ظفر
اليابان في البر والبحر لم يصل بالروسيين إلى هاوية اليأس بل يجوز أن ينتصروا
بعد بالكثرة. وقد خفي عن جريدتنا المصرية أن جريدة روسيا قامت تنذر أوربا
بالخطر الأصفر، وتحاول إقناعها بأن اليابان يوشك أن تنظم عسكرية الصين،
وتستولي بها على أوربا، بل على العالمين، وفي ذلك من تعظيم شأنها من عدوتها
ما لا تعظيم وراءه والفضل ما شهدت به الأعداء.
أما السبب في هذا الرقيِّ التام الذي أدهشت اليابان العالم به؛ فهو عزة نفوس
اليابانيين، وعلو أخلاقهم بسبب سلامة استقلالهم ألوفًا من السنين، لم يتسلط عليهم
فيها من يذلهم ويفسد بأسهم؛ فليعتبر بذلك حكامنا وقومنا إن كانوا معتبرين.