للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


العبر التاريخية
في أطوار المسألة المصرية

ذهب وفد وزارة عدلي باشا الرسمي إلى لندره؛ لأجل الاتفاق مع حكومتها
على رفع الحماية البريطانية عن مصر واستبدال علاقةٍ أخرى بين البلدين بعد أن
صَدَّعَ هذا الوفد بناءَ الوَحدةِ المصرية، وفرَّق كلمتها، فمن جرَّاءِ هذا كان نصيبه
الفشل، واغتر الإنكليز بتفريق الكلمة بقوة الوزارة المصرية، فوضع اللورد
كيرزون لمصر نظامًا جديدًا، حذف به كلمة (الحماية) ، وأبقى معناها، بل ما هو
أشد منه في استعباد البلاد، واستذلالها الأبديِّ، فلم يَسَعْ عدلي باشا، ووفده قبول
هذا النظام باسم مصر، بل عاد إليها، وبعد عودته بأيامٍ نشرت الحكومة الوثائق
الثلاث الآتية في المسألة المصرية، وها هي ذي بنصها:
بلاغٌ رسميٌّ
رفع حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا رئيس مجلس الوزراء، ورئيس
الوفد الرسمي المصري إلى حضرة صاحب العظمة السلطانية بطريق البريد -
مشروع المعاهدة الذي وضعته الحكومة البريطانية وجواب الوفد الرسمي المصري
عليه، وهذه ترجمة هاتين الوثيقتين:
ترجمة مذكرة
بخصوص مشروع اتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر
أولاً - انتهاء الحماية:
(١) في مقابل المعاهدة الحالية، والتصديق عليها تقبل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى رفع الحماية المعلنة على مصر في ١٨ ديسمبر سنة
١٩١٤، والاعتراف بمصر من ذلك الحين دولةً متمتعةً بحقوق السيادة
STATE SOVEREING تحت إمرةٍ ملوكيةٍ دستوريةٍ، فبمقتضَى هذا قد
أُبرمَت، وتستمر باقيةً بين حكومةِ جلالة ملك بريطانيا من جهةٍ، وبين حكومة
مصر، والشعب المصري من الجهة الأخرى معاهدةٌ دائمةٌ ورابطة سلامٍ، وودادٍ
وتحالُفٍ.
ثانيًا- العلاقات الأجنبية:
(٢) تتولى الشؤون الخارجية لمصر وزارةُ الخارجية المصرية تحت إدارة
وزيرٍ معيَّنٍ لذلك.
(٣) يمثل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى في مصر قوميسير عالٍ،
يكون له في جميع الأوقات - وبسبب مسؤولياته الخاصة - مركز استثنائي، ويكون
له حق التقدم على ممثلي الدول الأخرى.
(٤) يمثل الحكومة المصرية في لوندره، وفي أية عاصمةٍ أخرى ترى
الحكومة المصرية أن المصالح المصرية يمكن أن تستدعي هذا التمثيل فيها
فيها معتمدون سياسيون، يكون لهم لقب ومرتبة وزيرٍ.
(٥) بالنظر للتعهدات التي أخذتها بريطانيا العظمى على نفسها في مصر،
وعلى الخصوص فيما يتعلق بالدول الأجنبية - يجب أن توجد أوثق الصلات بين
وزارة الخارجية المصرية، والقوميسير العالي البريطاني الذي يقدم كل المساعدة
الممكنة للحكومة المصرية فيما يتعلق بالمعاملات والمفاوضات السياسية.
(٦) لا تدخل الحكومة المصرية في أي اتفاقٍ سياسيٍّ مع دولةٍ أجنبيَّةٍ
بدون أن تستطلع رأي حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى بواسطة القوميسير
العالي البريطاني.
(٧) تتمتع الحكومة المصرية بحق تعيين ممثلين قنصليين في الخارج
حسب مقتضياتها.
(٨) لأجل تولي الشؤون السياسية بوجهٍ عامٍ والقيام بالحماية القنصلية
للمصالح المصرية في الأماكن التي لا يوجد فيها ممثلون سياسيون، أو قناصل
مصريون - يضع ممثلو جلالة ملك بريطانيا العظمى تحت تصرف الحكومة
الحكومة المصرية لمصرية ويقدمون لهم كل مساعدة في قدرتهم.
(٩) تستمر حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى على تولي المفاوضة
لإلغاء الامتيازات الحالية مع الدول ذوات الامتيازات، وتقبل مسؤولية حماية
المصالح المشروعة للأجانب في مصر، وتتداول حكومة جلالة الملك مع الحكومة
المصرية قبل البت في هذه المفاوضات رسميًّا.
ثالثًا - النصوص العسكرية
(١٠) تتعهد بريطانيا العظمى بمساعدة مصر في الدفاع عن مصالحها
الحيوية، وعن سلامة أراضيها.
لأجل القيام بهذه التعهدات، ولحماية المواصلات الإمبراطورية البريطانية
الحماية اللازمة - تكون للقوات البريطانية حرية المرور في مصر، ولها أن تستقر
في أي مكانٍ في مصر، ولأية مدةٍ يحددان من وقتٍ لآخر. ويكون لها أيضًا في كل
وقتٍ ما لها الآن من التسهيلات لإجرائه، واستعمال الثكنات، وميادين التمرين،
والمطارات والترسانات الحربية والمين الحربية.
رابعًا - استخدام الموظفين الأجانب
(١١) بالنظر للمسئوليات الخاصة التي تتحملها بريطانيا العظمى، وبالنظر
للحالة القائمة في الجيش المصري، والمصالح العمومية - تتعهد الحكومة المصرية
بأن لا تعين ضبّاطًا أو موظفين أجانب في أية مصلحةٍ منها قبل موافقة القوميسير.
خامسًا - الإدارة المالية
(١٢) تعين الحكومة المصرية - بعد استشارة حكومة جلالة ملك بريطانيا
العظمى - قوميسيرًا ماليًّا توكل إليه في الوقت المناسب الحقوق التي يقوم بها الآن
أعضاء صندوق الدَّيْن، ويكون هذا القوميسير المالي مسؤولاً بوجهٍ أخص عن دفع
المطلوبات الآتية في مواعيدها وهي:
(١) المبالغ المخصصة لميزانية المحاكم المختلطة.
(٢) جميع المعاشات والسنويات الأخرى المستحقة للموظفين الأجانب المحالين
على المعاش وورثتهم.
(٣) ميزانيتا القوميسيريين المالي، والقضائي، والموظفين التابعين لهما.
(١٣) لأجل أن يؤدي القوميسير المالي واجباته كما ينبغي - يجب أن
يحاط إحاطةً تامةً بجميع الأمور الداخلة في دائرة وزارة المالية، ويكون له - في
كل وقتٍ - التمتع بحق الدخول على رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية.
(١٤) ليس للحكومة المصرية عقد قرضٍ خارجيٍّ، أو تخصيص
إيرادات مصلحةٍ عموميةٍ بدون موافقة القوميسير المالي.
سادسًا - الإدارة القضائية
(١٥) تُعيِّن الحكومة المصرية بالاتفاق مع حكومة جلالة ملك بريطانيا
العظمى - قوميسيرًا قضائيًّا، يكلَّف بسبب التعهدات التي تحملتها بريطانيا
العظمى للقيام بمراقبة تنفيذ القانون في جميع المسائل التي تمس الأجانب.
(١٦) لأجل أن يؤدي القوميسير القضائي واجباته كما ينبغي - يجب أن
يحاط إحاطةً تامةً بجميع الأمور التي تمس الأجانب، وتكون من اختصاص
وزارة الحقانية والداخلية، ويكون له في كل وقتٍ التمتع بحق الدخول على
وزيري الحقانية والداخلية.
سابعًا - السودان
(١٧) حيث إن رقي السودان السلمي هو من الضروريات لأمن مصر
ولدوام مورد المياه لها - تتعهد مصر بأن تستمر في أن تقدم لحكومة السودان نفس
المساعدات الحربية التي كانت تقوم بها في الماضي، أو أن تقدم بدلاً من ذلك
لحكومة السودان إعانةً ماليةً تحدد قيمتها بالاتفاق بين الحكومتين، تكون كل القوات
المصرية في السودان تحت أمر الحاكم العام.
وغير ذلك تتعهد بريطانيا العظمى بأن تضمن لمصر نصيبها العادل من مياه
النيل؛ ولهذا الغرض قد تقرر أن لا تُقام أعمال ريٍّ جديدةٍ على النيل أو روافده
جنوبيّ وادي حلفا بدون موافقة لجنةٍ مؤلَّفةٍ من ثلاثة أعضاءٍ، يمثل أحدهم مصر،
والثاني السودان، والثالث أوغندا.
ثامنًا - قروض الجزية
(١٨) المبالغ التي تعهد خديوي مصر في أوقاتٍ مختلفةٍ بدفعها للبيوت
المالية التي أصدرت القروض التركية المضمونة بالجزية المصرية - تستمر
الحكومة المصرية على تخصيصها كما كان في الماضي؛ لدفع الفوائد، والاستهلاك
لقرضي سنة ١٨٩٤، وسنة ١٨٩١، إلى أن يتم استهلاك هذين القرضين.
تستمر الحكومة المصرية أيضًا في دفع المبالغ التي كان جاريًا دفعها لسداد
فوائد قرض سنة ١٨٥٥ المضمون.
عندما يتم استهلاك قروض سنة ١٨٩٤، وسنة ١٨٩١، وسنة ١٨٥٥ تنتهي
مسؤولية الحكومة المصرية فيما يتعلق بأي تعهدٍ ناشئٍ عن الجزية التي كانت تدفعها
مصر لتركيا سابقًا.
تاسعًا - اعتزال الموظفين والتعويض المستحق لهم
(١٩) للحكومة المصرية الحق في أن تستغني عن خدمة الموظفين
البريطانيين في أي وقتٍ كان بعد نفاذ هذه المعاهدة، بشرط أن يُمنح هؤلاء
الموظفون تعويضًا ماليًّا كما سيأتي بيانه، وذلك زيادة على المعاش، أو المكافأة
التي يستحقونها بمقتضى أحكام استخدامهم.
ويكون للموظفين البريطانيين الحق بنفس هذا الشرط في الاستعفاء من الخدمة
في أي وقتٍ بعد نفاذ هذه المعاهدة.
تسري جميع هذه الأحكام على الموظفين الذين لهم الحق في المعاش، والذين
ليس لهم الحق في المعاش، وأيضًا على موظفي البلديات، ومجالس المديريات،
والهيئات المحلية الأخرى.
(٢٠) الموظفون المرفوتون أو المحالون على المعاش - طبقًا لنص المادة
السابقة - تُعطى لهم زيادة على التعويض إعانة إياب لبلادهم، تكون كافية لسد
نفقات ترحيل الموظف نفسه، وعائلته، ومتاعه المنزلي إلى لوندره.
(٢١) تُدفع التعويضات والمعاشات بالجنيهات المصرية باعتبار سعرٍ ثابتٍ
قدره ٩٧،٥ قرشًا للجنيه الإنجليزي.
(٢٢) يوضع جدول عن التعويضات:
(١) للموظفين الدائمين.
(٢) للموظفين المؤقتين.
بمعرفة رئيس جمعية خبراء حسابات التأمين arles Societiofuact.
عاشرًا - حماية الأقليات
(٢٣) تتعهد مصر بأن النصوص الوارد ذكرها فيما بعد تعتبر قوانين
أساسية، وألا يتضارب معها، أو يؤثر عليها أي قانون، أو لائحة، أو عمل
رسمي، وألا ينقض مفعولها قانون، أو لائحة، أو عمل رسمي.
(٢٤) تتعهد مصر بأن تضمن لجميع سكان مصر الحماية التامة الكاملة
لأرواحهم، وحريتهم، مِن غير تمييزٍ، بسبب مولدهم أو تبعيتهم الدولية، أو لغتهم،
أو جنسهم، أو دينهم.
يكون لجميع سكان مصر الحق في أن يقوموا بحريةٍ تامةٍ علانيةً أو غير
علانيةٍ بشعائر أية ملةٍ، أو دينٍ، أو عقيدةٍ ما دامت هذه الشعائر لا تنافي النظام
العام أو الآداب العمومية.
(٢٥) جميع الحائزين للرعوية المصرية يكونون متساوين أمام القانون،
ويكون لكل منهم التمتع بما يتمتع به الآخرون من الحقوق المدنية والسياسية، مِن
غيرِ تمييزٍ بسببِ الجنسِ أو اللُّغةِ أو الدينِ.
اختلاف الأديان، والعقائد، والمذاهب لا يؤثر على أي شخصٍ حائزٍ للرعوية
المصرية في المسائل الخاصة بالتمتع بالحقوق المدنية والسياسية مثل: الدخول في
الخدمات العمومية، والتوظف، والحصول على ألقاب الشرف، أو مزاولة المهن،
أو الصناعات.
لا يسوغ فرض أي قيدٍ على أي شخصٍ متمتعٍ بالرعوية المصرية في حرية
استعماله لأية لغةٍ في معاملاته الخصوصية، أو التجارية، أو في الدين، أو في
الصحف، أو في المطبوعات مِن أي نوعٍ كانت، أو الاجتماعات العمومية.
(٢٦) الأشخاص الحائزون للرعوية المصرية التابعون للأقليات القومية،
أو الدينية، أو اللغوية يكون لهم الحق في القانون، وفي الواقع في نفس المعاملة،
والضمانات التي يتمتع بها غيرهم من الحائزين للرعوية المصرية، وعلى
الخصوص يكون لهم حقٌّ مساوٍ لحق الآخرين في أن يُنشئوا أو يُدِيروا أو يراقبوا
على نفقتهم معاهد خيرية، أو دينية، أو اجتماعية ومدارس، أو غيرها من دور
التربية، ويكون لهم الحق في أن يستعملوا فيها لغتهم الخاصة، وأن يقوموا بشعائر
دينهم بحريةٍ فيها. اهـ.
***
ترجمة رد الوفد المصري الرسمي
(على مشروع الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر)
اطلع الوفد الرسمي المصري على المشروع الذي سلمه اللورد كرزون إلى
رئيس الوفد بتاريخ ١٠ نوفمبر سنة ١٩٢١.
ولقد رأى أن هذا المشروع تضمن فيما يتعلق بأكثر المسائل التي تناولتها
مناقشاتنا، والمذكرات التي تبادلناها منذ أربعة شهورٍ - نفس النصوص، والصيغ
التي عُرِضت علينا عند بدء المفاوضات، ولم نقبلها حينئذٍ.
فعن المسألة العسكرية - وهي ذات أهميةٍ كبرى - استبقى المشروع الحل
الذي قاومناه أشد مقاومةٍ، ولم يقتصر على ذلك، بل توسع في مرماه بما جعله أشد
وطأةً على أن حماية المواصلات الإمبراطورية (وهي التي قيل في مفاوضات العام
الماضي: إنها العلة الوحيدة لوجود قوة عسكرية في القطر المصري) لا تبرر هذا
الحل.
ففي حين أنه كان يكفي تعيين نقطةٍ في منطقة القنال تنحصر فيها طرق
ووسائل المواصلات الإمبراطورية، وكذلك القوة التي تتولى حمايتها - نص
المشروع على تخويل بريطانيا العظمى الحق في إبقاء قوات عسكرية في كل زمانٍ،
وفي أي مكانٍ بالأراضي المصرية، وضع أيضًا تحت تصرفها كل ما لدى القطر
من وسائل المواصلات وطرقها. وهذا إنما هو الاحتلال بذاته، الاحتلال الذي يهدم
كل معنى للاستقلال، بل ويذهب إلى حد القضاء على السيادة الداخلية، على أن
الاحتلال العسكري في الماضي - ولو لم تكن له إلا صفةٌ مؤقتةٌ - قد كفى لأن
يثبت لبريطانيا العظمى المراقبة المطلقة على الإدارة كلها، وإن لم يكن هناك أي
نصٍّ في معاهدةٍ أو تقويةٍ لأية سلطةٍ.
أما مسألة العلاقات الخارجية - وهي المسألة الوحيدة التي عُدلت فيها
الصيغة الأولى التي كانت وضعتها وزارة الخارجية البريطانية، وذلك بقبول مبدأ
التمثيل - فإن المشروع قد أحاط الحق الذي اعترف لنا به - بقيودٍ كثيرةٍ، أصبح
معها بمثابة حقٍّ وهميٍّ؛ إذ لا يتصور أن تتوفر لدى وزير الخارجية الحرية التي
يقتضيها القيام بأعباء منصبه، وتحمل مسئوليته إذا كان ملزمًا بنصٍّ صريحٍ بأن
يَبْقَي على اتصالٍ وثيقٍ بالمندوب السامي؛ فإن ذلك معناه أن يكون خاضعًا في
الواقع لمراقبته مباشرة في إدارة الأمور الخارجية، وعدا ذلك، فإن الالتزام
بالحصول على موافقة بريطانيا العظمى على جميع الاتفاقات السياسية (حتى ما لا
يتناقض منها مع روح التحالف) - فيه إخلالٌ خطيرٌ بمبدإ السيادة الخارجية،
وأخيرًا فإن استبقاء لقب المندوب السامي (وهو لقب لم تجرِ العادة بمنحه إلى الممثلين
السياسيين لدى البلاد المستقلة) - لهو أوضح في الدلالة على طبيعة النظام
السياسي المقترح لمصر.
ومِن جهةٍ أخرى، فإن تأجيل مسألة الامتيازات دعانا إلى الاعتقاد بأنه لم
تبق حاجة إلى النص عليها في المعاهدة، وأن المفاوضة بشأنها في المستقبل تكون
موكولةً إلى مصر صاحبة الشأن الأول مع معاونتها في ذلك سياسيًّا من جانب
حليفتها. ولكنّ المسألة منظورٌ إليها اليوم كأنها تعني على الأخص بريطانيا العظمى
التي تتولى من الآن حماية المصالح الأجنبية. وتريد أن تباشر وحدها عند الاقتضاء
المفاوضات بشأن إلغاء الامتيازات.
أما فيما يتعلق بالمندوبين (القوميسرين) المالي، والقضائي، وبتداخلهما
في إدارة الشؤون الداخلية كلها باسم حماية المصالح الأجنبية تداخلاً قد يصل في
بعض الأحوال فيما يختص بالمندوب (القوميسير) المالي إلى شل سلطة الحكومة،
والبرلمان - فإننا لا نريد هنا أن نكرر ما سبق لنا إبداؤه مِن الاعتراضات في
مذكراتنا.
على أنه يتحتم علينا القول بأن المناقشات التي تلت تأجيل مسألة الامتيازات
بعثت في نفوسنا الشعور بأن الاتفاق فيما يتعلق بحماية المصالح الأجنبية - سيقوم
على قواعد أكثر ملاءمةً للسيادة المصرية.
أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث فلا بد لنا فيها من توجيه
النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا؛ فإن هذه
النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على هذه البلاد من حق السيادة الذي لا
نزاع فيه، وحق السيطرة على مياه النيل.
إن الملاحظات المتقدمة لا تجعل ثَمةَ حاجة إلى مناقشة المشروع تفصيلاً؛ إذ
فيها ما يكفي للدلالة على روحه، ومرماه، وغير هذا، فقد التزم تكرار ذكر
تعهدات بريطانيا العظمى، و (المسؤوليات الخصوصية) الواقعة على المندوب
السامي، وكذلك الغرض الجديد - وهو قصد صيانة المصالح الحيوية لمصر -
الذي اتُّخِذ سببًا لوجود القوة العسكرية؛ وبهذا تتم للمشروع صبغة الوصاية الفعلية.
إنا لما قبلنا المهمة التي عهد بها إلينا عظمة السلطان، كنا نؤمل الوصول إلى
إبرام معاهدة تحالف مؤيدة لاستقلال مصر تأييدًا حقيقيًّا وكفيلة في الوقت نفسه
بصيانة المصالح البريطانية، وعندئذٍ فإن مصر حليفة بريطانيا العظمى كانت تعد
من واجبات كرامتها الوفاء بإخلاص بما تقطعه على نفسها من العهود، ولكن
التحالف بين أمتين لا يمكن أن يتحقق إلا على شريطة أن لا يقضي على إحداهما
بالخضوع الدائم.
وإن روح المسالمة التي سادت مناقشاتنا كانت تسمح لنا بالتفاؤل بنجاح
المفاوضات. ولكن المشروع الذي أمامنا لم يحقق هذا الأمل، فهو بحالته لا يجعل
محلاًّ للأمل في الوصول إلى اتفاقٍ يحقق أماني مصر الوطنية.
... ... ... ... ... ... لوندره في ١٥ نوفمبر سنة ١٩٢١
***
ترجمة تبليغ
من نائب جلالة الملك إلى حضرة صاحب العظمة سلطان مصر
في ٣ ديسمبر سنة ١٩٢١
يا صاحب العظمة
إنه بموجب التعليمات التي وصلتني من حكومة جلالة الملك، لي الشرف أن
أرفع إلى مقام عظمتكم البيان الآتي، المتضمن آراءَ حكومة جلالته فيما يتعلق
بالمفاوضات التي جرت حديثًا مع الوفد المرسل من قِبَل عظمتكم تحت رئاسة
صاحب الدولة عدلي باشا.
إن حكومة جلالته قدمت إلى عدلي باشا مشروع اتفاقٍ لعقد معاهدةٍ بين
الإمبراطورية البريطانية، ومصر، كانت حكومة جلالته على استعدادٍ لأن توصي
جلالة الملك، ومجلس النواب بقبوله، ولكنها علمت بمزيد الأسف أن ذلك المشروع
لم يحز قبولاً لديه، ومما زاد أسفها أنها تعتبر اقتراحاتها هذه سخيةً في جوهرها،
واسعةَ النطاق في نتائجها، وأنها لا يمكنها أن تبقى محلاًّ لأي أملٍ في إعادة النظر
في المبدأ الذي بُنيت عليه تلك الاقتراحات.
إن هناك حقيقةً جليةً سادت العلاقات بين بريطانية العظمى، ومصر مدة
أربعين سنة، ويجب أن تبقى هذه الحقيقة سائدةً هذه العلاقات على الدوام، وهي
التوافق التام بين مصالح بريطانيا العظمى في مصر، وبين مصالح مصر نفسها.
إن استقلال الأمة المصرية، وسيادتها كليهما عظيم الأهمية للإمبراطورية
البريطانية، إن مصر واقعة على خط المواصلات الرئيسي بين بريطانيا العظمى،
وممتلكات جلالة الملك في الشرق، وجميع الأراضي المصرية هي - في الواقع -
ضروريةٌ لهذه المواصلات؛ لأن مصير مصر لا يمكن فصله عن سلامة منطقة
قنال السويس؛ لذلك فإن حفظ مصر سالمةً مِن تسلط أية دولةٍ عظيمةٍ أخرى عليها-
هو في الدرجة الأولى من الأهمية للهند، وأستراليا، ونيوزيلاند، ولجميع
مستعمرات، وولايات جلالته في الشرق، ويؤثر في سعادة وسلامة نحو ثلاثمائة
وخمسين مليونًا من رعايا جلالته. ثم إن نجاح مصر يهم هذه البلاد ليس لأن كلاًّ
من بريطانيا العظمى ومصر هي أفضل عميلةٍ للأخرى فقط، بل لأن كل خطرٍ
جسيمٍ على مصلحة مصر التجارية أو المالية يدعو إلى مداخلة الدول الأخرى فيها،
ويهدد استقلالها. هذه كانت البواعث الرئيسية للعلاقات بين بريطانيا العظمى
ومصر، وهي لا تزال الآن على ما كانت عليه من القوة في الماضي.
قد اعترف الجميع بما أصاب هذا الائتلاف من النجاح بوجهٍ عامٍّ أثناء العهد
السابق للحرب العظمى. ولما بدأت بريطانيا العظمى تهتم بمصر اهتمامًا فعليًّا كان
المصريون فريسةً للاختلال المالي، والفوضى الإدارية، وكانوا تحت رحمة أي
قادمٍ، ولم يكن في طاقتهم مقاومة ضروب الوسائل القتَّالةِ للاستغلال الأجنبي، تلك
الوسائل التي تستأصل من نفوس الأمة كرامتها، وتمحو قواها الحيوية. فإذا كانت
الأمة المصرية الآن أمةً نشيطةً ذات كرامةٍ، فإنها مدينةٌ بهذه النهضة على
الخصوص لمعونة بريطانيا العظمى ومشورتها! إن المصريين سلِموا من المداخلة
الأجنبية، وأُعينوا على إنشاء نظام إداري وافٍ، وقد تدرب عددٌ كبيرٌ منهم على
إدارة الأمور والحكم، واطَّرد نمو مقدرتهم، ونجحت ماليتهم نجاحًا فوق المنتظر،
وقد قامت سعادة جميع الطبقات على أسسٍ ثابتةٍ. وفي هذا التقدم السريع لم يكن
هناك ظل للاستقلال، إن بريطانيا العظمى لم تطلب لنفسها ربحًا ماليًّا أو امتيازًا
تجاريًّا، والأمة المصرية قد جنَت كل ثمار مشورة بريطانيا العظمى ومساعدتها لها!
إن شبوب نار الحرب بين الدول الأوروبية سنة ١٩١٤ زاد بالضرورة عُرى
الائتلاف توثيقًا بين الإمبراطورية البريطانية ومصر. ولما انضمت الدولة العثمانية
إلى جانب ألمانيا في الحرب - لم يكن أثر ذلك قاصرًا على تهديد المواصلات
البريطانية وحدها، بل كان مهدِّدًا لها، ولاستقلال مصر على السواء تهديدًا عاجلاً،
فكان إعلان الحماية على مصر اعترافًا بهذه الحقيقة، وهي أنه لا يمكن دفع
الخطر عن الإمبراطورية البريطانية ومصر معًا إلا بعملٍ مشتركٍ تحت قيادةٍ واحدةٍ.
كان اتساع نطاق الحرب بدخول تركيا فيها السبب في قتل وتشويه آلاف من
رعايا جلالة الملك من الهند وأستراليا ونيوزيلاندا ومن رجال بريطانيا العظمى
أيضًا وقبورهم في غاليبولي وفلسطين والعراق شاهدة على الجهد العظيم الذي
كابدته شعوب الإمبراطورية البريطانية بسبب دخول تركيا. قد اجتازت مصر هذه
المحنة دون أن يمسها ضررٌ بفضل جهود مَن بعثت بهم تلك الشعوب من الجنود.
فكانت خسائر مصر طفيفةً، ولم يزد دَينُها، وثروتها الآن أعظم مما كانت قبل
الحرب، في حين أن الكساد الاقتصادي قد اشتدت وطأته على أكثر البلدان الأخرى.
فليس من الحكمة أن الشعب المصري يتغاضى عن هذه الحقائق أو ينسى لمَن هو
مدين بذلك كله، ولولا القوة التي أبدتها الإمبراطورية البريطانية في الحرب
لأصبحت مصر ميدان حربٍ بين القوات المتحاربة، ولوطئت هذه القوات حقوق
مصر بأقدامها وأفنت ثروتها، ولولا نصر الحلفاء لم تكن الآن في مصر أمةٌ تطالب
بحقوق السيادة الوطنية بدلاً عن حمايةٍ أجنبيةٍ. فالحرية التي تتمتع بها مصر الآن،
وما تتطلع إليه من حريةٍ أوسع - إنما هي مَدِينةٌ بهما للسياسة البريطانية، والقوة
البريطانية!
إن حكومة جلالة الملك مقتنعةٌ بأن الاتفاق التام في المصالح بين بريطانيا
العظمى ومصر - الذي جعل ائتلافهما نافعًا لكلتيهما في الماضي - هو دعامة
العلاقة التي يجب على كلتيهما استمرار المحافظة عليها. وعلى الإمبراطورية
البريطانية الآن - كما كان في الماضي - أن تحمل على عاتقها في آخر الأمر
مسئولية الدفاع عن أراضي عظمتكم ضد أي تهديدٍ خارجيٍّ. وكذلك عليها تقديم
المعونة التي قد تطلبها في أي وقتٍ حكومة عظمتكم لحفظ سلطتكم في البلاد، ثم إن
حكومة جلالة الملك تطلب فوق ذلك أن يكون لها دون غيرها - الحق في تقديم ما
قد تحتاج إليه حكومة عظمتكم من المشورة في إدارة البلاد، وتدبير ماليتها، وترقية
نظامها القضائي، ومواصلة علاقاتها مع الحكومة الأجنبية. على أن حكومة جلالته
لا ترمي من وراء هذه المطالب إلى منع مصر من تمتعها بكامل حقوقها في حكومةٍ
ذاتيةٍ وطنيةٍ، بل هي ترمي بذلك إلى التمسك بها قبل الدول الأجنبية الأخرى،
وهذه المطالب قوامها تلك الحقيقة وهي أن استقلال مصر، واستتباب النظام فيها،
وسعادتها - ركنٌ أساسيٌّ لسلامة الإمبراطورية البريطانية، وحكومة جلالة الملك
تأسف على أن مندوبي عظمتكم لم يتقدموا أثناء المفاوضات تقدمًا يُذكر في سبيل
الاعتراف بما للإمبراطورية البريطانية دون سواها من الأسباب الصحيحة للتمسك
بهذه الحقوق والمسئوليات.
إن شروط المعاهدة التي تعتبرها حكومة جلالة الملك ضروريةً لحفظ هذه
الحقوق، وكفالة هذه المسؤوليات - قد أُدرجت في موادَّ للشروع الذي سيرفعه إلى
عظمتكم صاحب الدولة عدلي باشا. وأهم هذه الشروط هو ما يتعلق بالجنود
البريطانية؛ فإن حكومة جلالة الملك قد عنيت أتم عناية ببحث الأدلة التي قدمها
الوفد المصري في هذا الشأن، ولكنها لم تستطع أن تقبلها؛ لأن حالة العالم
الحاضرة، ومجرى الأحوال في مصر منذ عقد الهدنة - لا يسمحان بأي تعديلٍ كان
في توزيع القوات البريطانية في الوقت الحاضر ومِن الواجب إعادة القول بأن
مصر هي جزءٌ من مواصلات الإمبراطورية. ولم يكد يمضي جيلٌ على مصر منذ
أُنقذت من الفوضى، وهناك علاماتٌ على أنه لا يبعد على المتطرفين في الحركة
الوطنية أن يزجُّوا بمصر ثانيةً في الهوة التي لم يطل العهد على إنقاذها منها. وقد
زاد اهتمام حكومة جلالة الملك بهذا الشأن لما رأته من وفد عظمتكم في الاعتراف
بأن الإمبراطورية البريطانية يجب أن يكون عندها ضمانٌ قويٌّ ضد أي تهديدٍ مثل
هذا لمصالحها، وإلى أن يحين الوقت الذي يكون فيه سلوك مصر مدعاةً إلى الثقة
بالضمانات، وأول هذه الضمانات، ورأسها هو وجود جنود بريطانية في مصر،
وحكومة جلالة الملك لا يمكنها أن تتخلى عن هذا الضمان، ولا أن تنقص منه.
على أنها تعيد القول، وتؤكده بأن مطالبها في هذا الصدد لا يقصد بها
استمرار الحماية، لا فعلاً، ولا حكمًا، بل العكس إن أمنيتها القلبية الخالصة هي
أن تتمتع مصر بحقوق وطنية، ويكون لها بين الأمم مقام دولةٍ متمتعةٍ بحق السيادة
على أن تكون مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالإمبراطورية البريطانية بمعاهدة تكفل
للفريقين مصالحهما، وأغراضهما المشتركة؛ ولهذه الغاية التي جعلتها حكومة
جلالته نصب عينها - اقترحت رفع الحماية فورًا، والاعتراف بمصر (دولةٌ
متمتعةٌ بحقوق السيادة تحت إمرةٍ ملوكيةٍ دستوريةٍ) والاستعاضة عن العلاقات
القائمة الآن بين الإمبراطورية البريطانية، ومصر بمعاهدةٍ دائمةٍ، ورابطة سلامٍ،
وودادٍ وتحالُفٍ وكانت حكومة جلالته تأمل أن مصر بإعادة وزارة الخارجية ترسل
ممثليها في الحال إلى الممالك الأجنبية. كما أنها كانت على استعداد لتعضيد مصر
في انضمامها إلى جمعية الأمم إذا طلبت ذلك؛ وبذلك كان يتحقق لمصر في الحال
ما للدول المتمتعة بحقوق السيادة من السلطة والميزات.
ولكن رفض حكومة عظمتكم الحاضرة لهذه الاقتراحات أوجد حالةً جديدةً،
وهذه الحالة لا تؤثر في مبدإ السياسة البريطانية، ولكنها بالضرورة تقلل من
التدابير التي يمكن تنفيذها الآن؛ فلذلك ترغب حكومة جلالة الملك أن تبدي
بوضوحٍ حالة موقفها الآن.
ففيما يتعلق بالحاضر لا يمكن لحكومة جلالته تنفيذ اقتراحاتها بدون رضاء
الأمة المصرية، واشتراكها، ولكن حكومة جلالته تحافظ على الرغبة التي كانت
لديها على الدوام، وهي العمل على إنماء مواهب المصريين بزيادة عدد الموظفين
منهم في كل فرعٍ، ولا سيما في الفروع الإدارية العالية التي كثر فيها عدد
الموظفين الأوروبيين. حكومة جلالته مستعدةٌ لأن تواصل بمشاورة حكومة عظمتكم-
المفاوضات مع الدول الأجنبية لأجل إلغاء الامتيازات؛ لكي يكون الموقف الدولي
جَلِيًّا عندما يحين وقت إصدار التشريع المصري الذي سيحل محل تلك الامتيازات،
وكذلك ترجو حكومة جلالته أن السلطة التي يباشرها الآن القائد العام تحت القانون
العسكري - تباشرها الحكومة المصرية وحدَها بمقتضى القوانين المدنية المصرية،
وهي تُسَرّ برفع الأحكام العسكرية حالما يصدر (قانون التضمينات) (Actol
Indemniti) ويعمل به في كل المحاكم المدنية والجنائية في مصر، وهو قانون
لا بد منه لحماية الحكومة المصرية، وحماية السلطة البريطانية في مصر.
وأما من جهة المستقبل، فإن حكومة جلالة الملك ترغب أن توضح بعبارةٍ
جليَّةٍ السياسة التي تنوي اتباعها. فقد علمت أن المشروع الذي قدمته إلى وفد
عظمتكم - قد رُفض بحجة أن الضمانات التي تضمنها المشروع لصيانة المصالح
البريطانية والأجنبية تقضي على التمتع بالحكومة الذاتية تمتعًا صحيحًا، وهي
تأسف غاية الأسف على أن استبقاء الجنود البريطانية في مصر، واشتراك
الموظفين البريطانيين مع وزارتي الحقانية والمالية يُساء فهم المراد منها إلى هذا
الحد. إذا كان الشعب المصري يستسلم إلى أمانيه الوطنية مهما كانت هذه الأماني
صحيحةً ومشروعةً في ذاتها دون أن يكترث اكتراثًا كافيًا بالحقائق التي تستحكم في
الحياة الدولية - فإن تقدمه في سبيل تحقيق مطمحه الأسمى لا يصيبه التأخر فقط،
بل يتعرض للخطر تعرضًا تامًّا؛ إذ ليس مِن فائدةٍ تُرجى من وراء التصغير من
شأن ما على الأمة من واجباتٍ، وتعظيم ما لها من الحقوق. وإن الزعماء
المتطرفين الذين يدعون إلى هذا العمل لا يعملون على نهوض مصر بل يهددون
رُقيها. وهم بما كان لهم من الأثر في مجرى الحوادث قد تحدوا مرةً بعد مرةٍ الدولة
الأجنبية في مصالحها، وأثاروا مخاوفها، وكذلك عملوا في الأسابيع الأخيرة على
التأثير في مصير المفاوضات بنداءات مهيجة استثاروا بها جهل العامة وشهواتهم،
وإن حكومة جلالة الملك لا تعتبر أنها تخدم مصلحة مصر بتساهلها إزاء تهييج مِن
هذا القبيل، ولن يمكن مصر أن تسير في سبيل الرقي إلا متى أظهر قادتها
المسؤولون من الحزم والعزيمة ما يكفل قمع مثل هذا التهييج، فإن العالم يتألم الآن
في جهاتٍ عديدةٍ من الاندفاع في نوعٍ من الوطنية المتعصبة المضطربة. وحكومة
جلالة الملك تقاوم هذا النوع من الوطنية بكل شدة، سواء في مصر أو في غيرها،
وإن أولئك الذين يستسلمون لتلك النزعات إنما يعملون على جعْل القيود الأجنبية
التي يطلبون الخلاص منها أشد لزومًا، وبذلك يطيلون أجلها!
وإذ الأمر كذلك، فإن حكومة جلالة الملك مراعاةً لمصلحة مصر، ومصلحتها
الخاصة أيضًا ستستمر بلا تردُّدٍ على مواصلة غرضها كمرشدةٍ لمصر، وأمينةٍ على
مصالحها. ولا يكفيها أن تعلم أن في استطاعتها العودة إلى مصر إذا تبين أن مصر
بعد أن تركت لنفسها بغير معونةٍ قد عادت إلى عهد التبذير، والاضطراب الذي
لازمها في القرن الماضي؛ فرغبة حكومة جلالة الملك أن تستكمل العمل الذي بُدِئ
به في عهد اللورد كرومر، لا أن تبدأه من جديدٍ، وهي لا تنوي أن تبقي مصر
تحت وصايتها، بل العكس ترغب في تقوية عناصر التعمير في الوطنية المصرية،
وتوسيع مجال العمل أمامها، وتقريب الوقت الذي يمكن فيه تحقيق المطمح
الوطني تحقيقًا تامًّا، ولكنها ترى من الواجب أن تصر على الاحتفاظ بالحقوق
والسلطة الفعالة لأجل صيانة مصالح مصر ومصالحها الخاصة على السواء، وذلك
إلى أن يُظْهِر الشعب المصري أنه قادرٌ على صيانةِ بلاده من الاضطراب الداخلي،
وما يترتب عليه حتمًا من تدخل الدول الأجنبية.
وسبيل التقدم الوحيد للشعب المصري يقوم على تآزره مع الإمبراطورية
البريطانية، لا على تنافرهما، وحكومة جلالته لرغبتها في هذا التآزر مستعدة فيما
يتعلق بها إلى البحث في أية طريقةٍ قد تعرض عليها؛ لأجل تنفيذ اقتراحاتها في
جوهرها، وذلك في أي وقتٍ تريده حكومة عظمتكم، على أنها مع هذا لا يسعها
تعديل المبدأ الذي بُنيت عليه تلك الاقتراحات، ولا إضعاف تلك الضمانات
الجوهرية التي تشتمل عليها، وهذه الاقتراحات من مقتضاها أن يكون مستقبل
مصر في أيدي الشعب المصري نفسه. فكلما زاد اعتراف شعبكم بوَحدة المصالح
البريطانية ومصالحه كلما قلَّت الحاجة إلى هذه الضمانات، وقادة مصر المسؤولون
هم الذين عليهم في هذا العهد الثاني مِن اشتراكهم مع بريطانيا العظمى - أن يُثبِتوا
بقبولهم النظام الوطني المعروض عليهم الآن، وبالتزام جانب الحكمة في العمل به
أن المصالح الحيوية للإمبراطورية البريطانية في بلادهم يمكن أن تُوكل لعنايتهم
بالتدريج. اهـ.
(المنار)
قد صدَّقت الأحداث جميع ما قررناه في المسألة المصرية في الجزء السابع،
وجاءت الوقائع بما توقعناه من فشل مفاوضة الوفد الرسمي للحكومة البريطانية،
واستعفاء وزارة عدلي باشا، فكان ما أحدثه اختلافها مع الوفد - أو سعد - من
الشقاق سبب حرمانها مما تبغي من الاتفاق، وكان فشلها خيرًا لمصر من نجاحها؛
فإنه أزال غرور جميع مُحسِني الظن بالدولة البريطانية، وأبطل تغرير الانتفاعيين
الذين كانوا يخدعون بها الأمة، فمشروع كرزون الصادع خيرٌ من مشروع ملنر
الخادع؛ إذ أظهر للعالِم والجاهل والذكي والغبي أن بريطانيا لا تبغي من المصريين
إلا الاعتراف لها بأنها سيدة مصر والسودان، والمالكة لهما، ولأهلهما، ولئن كان
لورد كرومر هو المسترق، فكرزون هو المحرر؛ بحفزه الأمة إلى الخروج من
هذا الرِّق، وإنما الفضل للسلطة العسكرية التي أرهقت البلاد، وأجبرت وزراء
لندن على إماطة حجاب الرياء.
ونكتفي بأن نقول في هذه التعليقة العجلى على هذه الوثائق الرسمية: إن
بريطانية كانت تظن أن هذا الطغيان، والجبروت، والعظموت، والتهديد بقوة
السعير العسكري - لا بد أن يرهب مصر الفتاة العزلى، فتخر ساجدةً بين يدي
القائد اللِّنبِي فاتح القدس قائلةً: غفرانك غفرانك؛ نحن عبيد بريطانيا العظمى
صاحبة الحق في أموالنا، ودمائنا، وأرضنا، وسمائنا، فمهما تمنحنا في حكم
بلادنا من وظيفةٍ أو منصبٍ، أو حق مأكلٍ أو مشربٍ - فهو فضلٌ وسخاءٌ منها
نقابله بالحمد والشكر، ومهما تستأثر به من الحكم، والتصرف، والمنافع ومن رقبة
الأرض - فهو من تصرف المالك في ملكه، وإن سُمِّي في العُرف العام والخاص
مصادرةً وظلمًا!
كذب ظن بريطانية؛ فإن الأمة قد هبت كلها للإنكار الشديد على المذكرتين،
ورفضهما أشد الرفض، وفي مقدمتها زعيمها الأكبر سعد باشا، وأعضاء الوفد
داعية إلى الاتحاد على ذلك، وعلى الإصرار على الاستقلال التام المطلق بلسان
جميع أحزابها، وصحفها، فأمر القائد اللنبي سعدًا، ومَن معه باعتزال السياسة،
والخروج من القاهرة إلى الريف، فردوا الأمر فاعتقلوا، ونفوا من مصر؛ فثارت
البلاد ثورةً اجتماعيةً عامةً، لم يصدها عنه الخوف من الجند البريطاني الذي ملأ
العاصمة، وغيرها من المدن معززًا بالسيارات المدرعة، والطيارات المهددة،
وعاد أعضاء الوفد المشاقّون فاتحدوا مع الباقين يعملون في بيت الأمة، وبرزت
إلى ميدان السياسة عقيلة الزعيم التي أبت مرافقته لتحل محله في خدمته، فألقت
على أعضاء الوفد خطابًا من وراء حجابٍ، ذرفت منه العيون، واضطربت
الألباب، ثم جمعت شمل النساء على مقاومة الخصم بمقاطعة تجارته، وتربية
الأولاد على بغضه وعداوته، وعم التظاهر بالاستياء، والاحتجاج على المذكرتين،
ونفي الزعيم، وأعضاء الوفد في الجرائد، وغيرها من جميع الأحزاب،
والجماعات الرسمية، وغير الرسمية من دينية، ومدنية، حتى إن رؤساء الكنيسة
القبطية قرروا ترك الزيارات، والتهاني بعيدي الميلاد، ورأس السنة، وألحت
الوزارة العدلية بقبول استقالتها، وتعذر تأليف وزارةٍ جديدةٍ تنفذ للسلطة البريطانية
ما تريد لشدة الاحتجاج من الرأي العام للأمة، حتى الذين كانوا يسمون العدليين أو
الحكوميين والوزاريين.
وتواترت الوفود من جميع أرجاء القطر رافعةً احتجاجها إلى القصر السلطاني
على المذكرتين، ونفي الزعيم، ومَن معه إلخ، واستقر رأي السواد الأعظم
على مقاطعة التجارة الإنكليزية، ورجال الإنكليز، وأخيرًا أصدر الوفد قرارًا شديدًا
في هذا المعنى، نُشِر في بعض الجرائد؛ فعطلتها السلطة العسكرية، واعتقلت
أعضاء الوفد الذي وقَّعُوه؛ فحل محلهم أفراد آخرون بلا خوفٍ ولا وجلٍ، ولا غَرْوَ؛
فإن كل ما حصل فهو خيرٌ لمصر؛ إذ لا تتربى الأمم إلا بالشدائد، وشرٌّ للإنكليز؛
لأنه وضْع للقوة العسكرية القاهرة في موضع سياسة الحكمة، والدهاء الساحرة،
فإذا أصروا على ذلك كانوا هم الخاسرين، وإذا أصررنا على طلب حقنا كنا نحن
الفائزين، والعاقبة للمتقين.