للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرحلة الأوربية
(٥)

حديثنا مع أعضاء جمعية الأمم:
كان مما قرره أعضاء المؤتمر السوري الفلسطيني - قبل انفضاضه - أن
يسعى بعض أعضائه إلى مقابلة بعض أعضاء جمعية الأمم، الذي يُرجى أن
يعطفوا على قضيتنا إذا عرفوا كنهها، والذين يرجى أن نستفيد من الحديث معهم
فائدة تزيدنا بصيرة في أمرنا، فكتب الأمير شكيب إلى كثير منهم مكتوبات خاصة،
يطلب فيها تعيين وقت خاص لمقابلة وفد من أعضاء مؤتمرنا، ويخبرونه به، من
حيث إنه هو (السكرتير) للمؤتمر، فأجاب كثير منهم الطلب، وأبى المندوبان
الفرنسيان، واستكبرا أن يجيبا، كأنهما لا يعترفان بأن مؤتمرًا عُقد، على أن
حكومتهما قد كانت أشد اهتمامًا بأمر المؤتمر من زميلتها إنكلترة، فحملت صنائعها
في سورية على توقيع عرائض ينكرون فيها أن يكون المؤتمر ممثلاً لهم، ومعبرًا
عن إرادتهم، فأجابها إلى ذلك أيهم أشد نفاقًا من المستخدمين، وقليل من الجبناء
الطامعين، وستفصل أخبارهم في هذا مع غيرها في كتاب المؤتمر، الذي سيكون
تاريخًا دقيقًا لهذا العمل، وكذلك مندوب الهند، وأمره ليس بيده، بل بيد سكرتيره
الإنكليزي، وإنما مراد إنكلترة من وجوده كثرة أنصارها في الجمعية!
وكان ممن أجاب الطلب رئيس مجلس جمعية الأمم، وهو مندوب الصين،
ورئيس الجمعية العامة، وهو مندوب هولندة ومن الأعضاء البرنس أرفع الدولة
مندوب إيران، واللورد روبرت سيسل البريطاني الشهير مندوب حكومة الترانسفال،
والمستر فيشر مندوب الدولة البريطانية نفسها، وكذا مندوبو إيطالية، وإسبانية،
والبرازيل، والأرجنتين وغيرهم، وكنا نبسط لكل منهم قضيتنا، وكان أشدهم
عطفًا عليها، وتمنِّيًا لمساعدتنا مندوبا إيران والصين؛ لما بيننا وبين شعوبهما من
الجامعة الشرقية، ويليهما مندوبو البرازيل والأرجنتين، فمندوبا أسبانية وهولندة.
كان بسطنا للقضية لدى هؤلاء متشابهًا وكان الأمير ميشيل يتكلم معهم باللين
والاعتدال، ولا سيما مع الأوروبيين منهم، وكنت أنا - والأمير شكيب - نتكلم
بشدة في رفض الانتداب، وسوء الاعتقاد بالدولتين المتصديتين له، ووصف
سيرتهما، وكان سليمان بك كنعان، يزيد علينا بيانًا في قضية لبنان، ومثله توفيق
بك حماد، وشكري أفندي الجمل في الشكوى من الوطن القومي لليهود في فلسطين،
ولا فائدة في استقصاء ما دار بيننا وبينهم كلهم في ذلك، ولا بد من بيان نموذج
منه.
مناقشتنا للورد سيسل:
قابلنا اللورد روبرت سيسل في عصر يوم الجمعة (٣٠ سبتمبر) ، ومكثنا
معه ساعة وربع ساعة، وقد أفاض في الكلام معنا بطلاقة، وحرية غريبة، وهو
جالس على كرسي بين الجالس والمستلقي، كما أجلس أنا في عامة الأوقات، إلا
أنني أتحامي هذه الجلسة إذا كنت مع بعض المتكلفين المحافظين على الرسوم،
فأترك راحتي مراعاة لهم، والظاهر أن الرأي العام في أوربة لا ينتقد مثل هذه
العادة، ولا يعدّها مخلة بآداب المجلس، وإلا كان اللورد قليل الاحترام لنا، وكبراء
الإنكليز شديدو المحافظة على الآداب العامة على كبريائهم وإعجابهم بأنفسهم!
بسطنا قضيتنا للورد وبيَّنا له رأي أمتنا في الانتداب، وخصصنا بالذكر
مسألتي فلسطين ولبنان، فقال: إن البلاد السورية لا تزال - بحسب القانون الدولي-
من بلاد العدو المحتلة، صاحبتها الدولة التركية، وهي في حالة حرب مع دول
الأحلاف؛ لأنها لم تصدق على معاهدة سيفر التي أمضاها مندوبوها؛ فلهذا لم تَرَ
جمعية الأمم أن لها حقًّا في النظر في صكوك الانتداب للبلاد المرموز لها بحرف
(أ) ، المقدمة لها من إنكلترة وفرنسة، وقد اقترحت أنا النظر فيها فلم يقبل
اقتراحي.
(هذا نص كلامه، وقد كانت الجرائد ذكرت أن كلاًّ من الدولتين وضعت
صكًّا لانتدابها، ونشرت صك الانتداب للعراق - وهو سيئ جدًّا - ولم يُنشر صك
الانتداب لسورية؛ لأنه أسوأ، والظاهر أنهما استرجعتا الصكين، ثم استبدلنا
غيرهما بهما في هذا العام، وقد أقرهما مجلس عصبة الأمم، وإن لم يكن له حق
في ذلك بشهادة اللورد) .
ثم قال اللورد: إن الغرض من الانتداب أن تكون البلاد المفروض عليها
مستقلة في إدارتها، وتساعدها الدولة المنتدبة حتى تستعد للاستقلال التام!
قلنا، نعم هذا ما نص في عهد جمعية الأمم، ولكنه خداع كشفته سيرة
الدولتين المستوليتين على البلاد، قبل أن يتم لهما أمر الانتداب، ومما ذُكر في عهد
الجمعية أن لأهل البلاد الحق الأول في اختيار الدولة المنتدبة، ونشرت الدولتان
بلاغًا رسميًّا وعدتا فيه بالعمل برغبة الأهالي، ثم أخلفتا الوعد، ولم تعتد برأي
الأهالي في شيء.
قال: نعم، ولكن الدولتين احتاطتا لذلك، فجعلتا الاتفاق بينهما حائلاً دون
انتفاع أهل البلاد بهذا النص، وهو أن لا تقبل فرنسة الانتداب لفلسطين ولا للعراق
ولا تقبل بريطانيا الانتداب لسورية، كما أنهما لا تمكِّنان دولة أخرى من التصدي
لهذا الانتداب.
وقال جوابًا عن كلام يتعلق بعدم تمكينهما جمعية الأمم من جعْل الانتداب
موافقًا لروح عهدها ونصوصه: إن للجمعية أن تفعل ذلك بأن تطبق الانتداب على
مبدئها وروح عهدها فلا تقبل ما يخالف ذلك!
ثم قال: إن حكومة العراق الجديدة موافقة لروح جمعية الأمم، وإن إنكلترة
تنوي مساعدة هذه الحكومة بإخلاص، وإن سورية تستحق حكومة مثلها، لكنه
اعترف بأن مسألة فلسطين مشكلة ودقيقة (أي غير متفقة مع نصوص جمعية الأمم
ولا مع روحها) وقال: إن إنكلترة مضطرة إلى الوفاء لليهود بوعد بلفور، وإلى
إرضاء العرب، وحفظ حقوقهم! وهي ستجتهد في اختراع وسيلة لإرضاء الفريقين
مع موافقة روح جمعية الأمم في الانتداب.
هكذا قال اللورد، ولكن صك الانتداب الذي ظهر أخيرًا لم يُرضِ إلا اليهود
الصهيونيين وحدهم، وقد أغضب العرب، وخفر عهود إنكلترة لهم، وأخلف
الوعود التي منَّتهم بها، ولم يوافق روح عصبة الأمم ولا نص موادها، فمَن نصدق،
وبقول مَن نثق؟ ! إلا أننا لم نصدق قول اللورد، ولكن كان يصدق مثله ومَن
دونه كثير من الفلسطينيين، حتى أتاهم اليقين!
ولما صرحنا للورد بأننا لا نقبل هذا الانتداب بحال من الأحوال، ولا نصدق
الوعود والأقوال - نصح لنا بأن لا نعرقل مسألة الانتداب، بل بأن نقبله، ونطالب
بجعْله موافقًا لروح جمعية الأمم؛ فإنه ضربة لازب (قال) ومعاهدة سيفر وإن
كانت ستعدَّل فبلاد العرب لن تعود إلى الحكومة التركية، فليس أمامنا مَن نتكل
عليه لإنصافنا - من سوء التصرف في الانتداب - إلا جمعية الأمم نفسها؛ لأنها
هي صاحبة الحق في المراقبة على الدول المنتدبة، ومحاسبتها على أعمالها.
قال هذا جوابًا عما أطال به الأمير ميشيل من سوء التصرف في البلاد باسم
الانتداب، فكأن اللورد توهم أنه يمكن أن نقبله إذا حسن التصرف فيه، وقد
صرحت أنا - والأمير شكيب - بأننا لا يمكن أن نقبله كما تقدم، وأننا إنما نذكر
سوء التصرف فيه لإقامة الحجة من الآن على سوء النية لا للانتصاف.
وكان ملخص كلامي له أنه ليس في استطاعتنا أن نحج الدولتين، ويكون
لنا الفلج عليهما في دائرة قانون هما الواضعتان له، والحاكمتان به، والمنفذتان له
بالقوة، وإنما نشكو إلى عصبة الأمم مذ الآن هذا الأمر، ونبين لها أنه مخالف
لمبدئها وغايتها، ولا نخاطبه به بصفته البريطانية، بل بكونه من كبار أعضاء
العصبة الذين تشبعوا بروحها كما نسمع عنه، ونرى أن مثله ينبغي أن يعرف
الروح السائدة في الشرق الآن، ولا سيما سورية وفلسطين وسائر بلاد العرب،
وأن الحرب الأخيرة قد علَّمتهم أن الحياة يجب أن تكون رخيصة في سبيل الحرية،
فهم لا يبالون ببذل دمائهم في سبيلها، وأنه قد ثبت عندهم أن هذا الانتداب استعمار
واستعباد، لا مساعدة لأجل استقلالهم، ولو كان مساعدة لما قاوموه كل هذه المقاومة،
وقد أجاب عن أول هذا الكلام، ولم يُجب عن الجملة الأخيرة، بل قام على أثرها!
كلامي مع المندوب البريطاني:
وأذكر مما قلته لمستر فيشر المندوب البريطاني- في أثناء حديث وفدنا معه -:
إن أهل الشرق كنوا يثقون بالبريطانيين ما لا يثقون بغيرهم من الغربيين، ولا
الشرقيين، ويضربون المثل بصدقهم ووفائهم، فإذا أراد أحد أن يقول قولاً فصلاً
صادقًا لا رجوع فيه، قال: (كلمة إنكليزية) ، وقد انقلب هذا الاعتقاد بعد الهدنة
من الحرب العامة إلى ضده، فلم يعد أحد يثق بقول إنكليزي، ولا غيره من
الأوروبيين، بل خسرت أوربة كل ما كان من نفوذها الأدبي.
ذلكم بأنكم في أثناء هذه الحرب قد ألقيتم على جميع الأمم والشعوب في الشرق
والغرب درسًا واحدًا، كان يتكرر كل يوم مدة أربع سنين، وهو أن الغرض من
هذه الحرب - بين حلفكم والحلف الجرماني - هو نصر سلطان الحق وحرية الأمم
والشعوب على سلطان القوة، والاعتداء على الضعفاء، وإخضاعهم بالسلاح
العسكري، ووعدتمونا - معشر العرب خاصة - بأننا سنكون بانتصاركم أحرارًا
مستقلين، وقد امتزجت هذه الوعود بدمائنا وأعصابنا، كما صدقت الشعوب كلها
تلك الدروس التي كانت تلقيها عليها برقيات روتر، وهافاس كل يوم، وتشرحها
وتفصلها جرائدكم، وجرائد أحلافكم.
وما كان إلا أن وضعت الحرب أوزارها بخضوع أعدائكم لكم، ونزولهم على
شروطكم في الهدنة والصلح، حتى نثلت الكنائن، وظهرت الدفائن، فعلم أنكم إنما
خشيتم أن تشارككم الدولة الألمانية بقوتها في استعبادكم للشعوب، واستعماركم
لبلادها، فأردتم القضاء على قوتها؛ لتنفردوا بذلك، وكان أسوأ الناس خيبة مَن
اتخذتموهم، واتخذوكم أصدقاء من مخدوعي الأمة العربية، فإنكم انتزعتم منها خير
بلادها وأخصبها، ومواطن مدنيتها، وهي سورية والعراق، فقسمتوها بينكم وبين
حليفتكم فرنسة اقتسام الغنائم، وقهرتموها على الخضوع لحُكمكم بالدبابات
والطيارات والبنادق والمدافع.
وإننا نرى أنكم إنما أسستم إمبراطوريتكم العظيمة بالقوة المعنوية والأدبية
كالدهاء والحكمة واللين، وأنكم ستكونون - باستبدال القوة العسكرية الوحشية بها -
من الخاسرين، وإنني قد كتبت في إثبات هذه القضية مذكرة أرسلتها إلى وزيركم
الأكبر لويد جورج في العام الماضي أثبت فيها أنه يمكن لكم أن تربحوا من الشعوب
العربية، والتركية، والفارسية وغيرها من أمم الشرق بالصداقة وحسن المعاملة
معها - إذا تركتم لها استقلالها - أضعاف ما تتصورون من الربح منها باستعبادها
واستذلالها، والخداع بالأقوال - كتسمية الاستعمار بالانتداب - لم يبقَ له رواجٍ عند
أحد من الناس.
وقد انسلَّ المندوب البريطاني من المناقشة في هذا الموضوع بأنه الآن عضو
في جمعية الأمم لا في الوزارة البريطانية، وأن الانتداب مقرر في عهد الجمعية،
وليس موكولاً إلى أعضائها؛ ليقرروه، أو يتركوه، وإنما يطالبون بجعْله مطابقًا
للمبادئ والأحكام الموضوعة له!
ومما أضحكنا من كلام المندوب البريطاني أنني لما غمزت الحلفاء باقتسام
بلادنا باسم الانتداب قال: إننا نحن لم نأخذ شيئًا!
مندوب الصين:
ومما قلته لمندوب الصين - وهو رئيس مجلس العصبة بالانتخاب، ويا له
من رجل عالم عاقل حليم! -: لا يعزب عن علم سعادتكم أن الدول الغربية
الطامعة تعد الشرق كله مباحًا لها، وترى أنه ليس لشعوبه حق في الحرية القومية
واستقلال الحكم، إلا مَن أثبت ذلك لنفسه بالقوة الحربية القاهرة كاليابان، وما
يمنعهم من العدوان على شعب شرقي ضعيف في عقر داره لسلب حريته،
واستغلال بلاده بيده - وأيديهم من فوقها - لا التنازع فيما بينهم عليه، وقد بدؤوا
بعد هذه الحرب الوحشية باقتسام بلاد الشرق الأدنى، فإذا فرغوا منها لا يبقى
أمامهم إلا الشرق الأقصى، فأنتم بدفاعكم عن قضيتنا تدافعون عن أنفسكم:
مَن حلقت لحية جار له ... فليسكب الماء على لحيته
فاعترف بصحة هذا القول وبوجوب تكافل الشرقيين، وتعاونهم على جعْل
آسية للآسيويين، وقد عني بنا أكثر من غيره.
مندوب إيران:
ومما قلته لمندوب إيران (البرنس أرفع الدولة) أن خصم المسلمين الأكبر
في الشرق بل خصم الشرق كله - هو الدولة البريطانية، وهي مع المسلمين اليوم
على طرفين متقابلين، وإن كانا يشتركان في أن كلاًّ منهما أقوى ما كان وأضعف ما
كان في كل تاريخ حياته!
فأما الدولة البريطانية فقد خرجت من هذه الحرب، وهي سيدة أوربة كلها -
دع الشرق - فإنها استراحت من خطر الأسطول الألماني، الذي كان يهدد سيادتها
البحرية بالزوال، وأضافت إلى مستعمراتها بلادًا واسعة غنية، ودكت صروح
الدولة العثمانية، وجعلت أختها الدولة الإيرانية تحت حمايتها، وأحاطت بجزيرة
العرب من أطرافها، بعد أن أعلنت الحماية على مصر واحتلت العراق وفلسطين
(البلاد المقدسة) ، وانفردت بالسلطان في البحر المتوسط، فصار كل دُوَله وراءها
كالخدم وراء المخدوم، ولكن هذه العظمة والرفعة هي منتهى ما يمكن أن تصل إليه،
ولا يطيق النوع البشري احتمال عظمة فوق هذه، فهي قد بلغت القمة، ولما كان
الوقوف والسكون في عالم الأحياء مُحالاً لم يبق إلا أن تنحدر وتتدهور، وقد بدت
آيات الانحدار والسقوط، فقد ثارت عليها أرلندة ومصر والعراق ثورات دموية،
وثارت فلسطين ثورة سياسية، والهند ثورة اجتماعية، ونجم نبت الشقاق بينها
وبين جارتها وأقوى حليفاتها الدولة الفرنسية، ورفضت إيران معاهدتها الاستعبادية،
وصارت جارتها أفغانستان دولة مستقلة حربية، واستعادت الأمة التركية قوتها
الحربية، ووراء ذلك كله الروسية البلشفية، كل هذه المعضلات قد فاجأتها، وهي
في هذا الأوج من مجدها، فعجزت عن معالجة أدنى معضلة منها.
وأما المسلمون فقد انتهت هذه الحرب بالقضاء على ما بقي من دولهم المستقلة،
واقتسام ما بقي من بلادهم بين الدول الظافرة، فبلغوا الحضيض الأسفل من الذلة
والمسكنة، ولما كان الوقوف والسكون محالاً لم يبق إلا أن يصعدوا ويرتقوا، وقد
ظهرت طلائع الارتقاء - بما أشرنا إليه - من ثورات شعوبهم، ونهوض حكوماتهم ,
فإذا كانوا قد اعتبروا بما كان من جناياتهم على أنفسهم، وتابوا - كما نرجو -
من ذنوبهم، وتعاونت شعوبهم مع سائر شعوب الشرق على دفع الضيم والعدوان
عنهم - فلا ريب في نظر الله إليهم، ونصره إياهم، والمسلم لا ييأس من رَوْحِ الله
مهما تكن الخطوب، والكوارث التي تساوره؛ لأن اليأس لا يجتمع مع الإيمان
بقدرة الله وعنايته وفضله في قلب واحد، وهذه آيات الله قد ظهرت للمسلمين
بتسخير الأمة الروسية لدولتي الإسلام - العثمانية والإيرانية - تنصرهما، وتشد
من أزرهما، وتساعدهما على درء الخطر البريطاني عنهما، بعدما كانت هي
الخطر الأكبر عليهما، الساعية إلى ثل عروشهما، وكانت الدولة البريطانية هي
التي تقاومها في هذا، لا حبًّا فيهما، بل خوفًا أن تنازعها سلطانها البحري
بالاستيلاء على الآستانة، وتزحف على الهند من طريق إيران، أو كما قال المثل:
(لا حبًّا في علي، ولكن بغضًا في معاوية) .
ثم نوَّهنا بنهضة الغازي مصطفى كمال باشا العسكرية والسياسية، ولا سيما
عنايته بجمْع الكلمة بين الشعوب الإسلامية والشرقية، فقال البرنس: لولا مصطفى
كمال باشا لكان كل مسلم في الدنيا ذليلاً الآن.
وبهذه المناسبة أذكر أنني قلت لأكثر مَن تكلمت معهم من أعضاء جمعية الأمم
بالاشتراك مع بعض إخواني من وفد المؤتمر أو منفردًا ولرئيس الجمعية خاصة -
وهو آخر مَن تكلم معه الوفد - ما ملخَّصه:
بعض كلامي لرئيس جمعية الأمم:
إن هذه الجمعية التي اقترح الرئيس ويلسون تأليفها من جميع أمم الحضارة
لخير جميع البشر لا يليق بشرفها وشرف أممها وحكوماتها وشرف المبدأ، والغاية
الموضوعين لعملها أن تكون آلة لدولتين استعماريتين، تكفل لهما استعباد مَن
استوليتا عليه من الشعوب قبل الحرب، ومَن تريدان الاستيلاء عليهم بعدها باسم
الانتداب منها، ولا سيما بلادنا العربية التي هي قلب الأرض، ومهد الأديان
الكبرى في العالم، وموضوع التنازع في النفوذ بين الدول الكبرى؛ فإن هاتين
الدولتين قد قلبتا الموضوع، فحولتا الغاية المقصودة من الجمعية إلى ضدها، وقد
عَزَّ عليها أن تحتمل تبعة الاستيلاء على البلاد المقدسة ومهد الأديان السماوية
الكبرى، فجعلت تبعته على عاتق هذه الجمعية، وكلفتاها أن تكفل لهما هذه الغنيمة،
وما قبلها من غنائم الاستعمار الذي كان التنازع عليه علة هذه الحرب المخربة،
ويُخشى أن يفضي إلى حرب شر منها هولاً، وشر مآلاً، ولا يصح منها أن تسفه
نفسها وتحقرها بأن تعتذر عن هذه الجريمة بأنها مقيدة بقانون وضعه لها هؤلاء
الطامعون؛ فإن قانونها يجب أن يكون من وَضْعها، وأن يقرر بأصوات الأكثرين
من أعضاء جمعيتها العامة، فإما أن تقبل الدول الطامعة ذلك، وإما أن يُفتضَح
رياؤها، وتُلقى عليها وحدها تبعة ما ستجنيه على البشر مطامعها.
إذا كان البلقان هو مسعِّر نيران الفتن والحرب في الغرب فإن سورية
وفلسطين وسائر بلاد العرب - ستكون مسعر نيران الفتن والحروب في الغرب
والشرق جميعًا، وإذا كانت إنكلترة وفرنسة قد فقدتا في عاقبة هذه الحرب كل ما
كان لهما من النفوذ الأدبي في الشرق، فستكون جمعية الأمم هي القاضية على نفوذ
أوربة الأدبي في العالم كله إذا رضيت أن تكون آلة لهما فيما ذكرنا.
وإذا أصبحت أوربة لا تبالي بالنفوذ الأدبي لاستحواذ الأفكار المادية عليها -
كما قال فيلسوفها الأكبر هربرت سبنسر - فلتعلم أن النفوذ المادي سيتبع النفوذ
الأدبي؛ فإن الشرق قد استيقظ، وعرف نفسه، ولن يرضى بعد اليوم أن تكون
شعوبه عبيدًا أذلاء للطامعين المستعمرين، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص:
٨٨) .
((يتبع بمقال تالٍ))