فصل [*] قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة: ٢٣) وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (آل عمران: ١٢٢) ، وقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: ٣) وقال عن أوليائه: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (الممتحنة: ٤) وقال: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (الملك: ٢٩) وقال لرسوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ} (النمل: ٧٩) وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء: ٨١) وقال: {َوتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان: ٥٨) وقال: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: ١٥٩) وقال عن أنبيائه ورسله: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} (إبراهيم: ١٢) [١] الآية، وقال عن أصحاب نبيه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} (آل عمران: ١٧٣) ، وقال: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: ٢) ، والقرآن مملوء من ذلك. وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون) وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل: قالها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} (آل عمران: ١٧٣) وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم أعوذ بعزتك - لا إله إلا أنت - أن تضلني، أنت الحيّ الذي لا تموت، والجن والإنس يموتون) ، وفي الترمذي عن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: (لو أنكم تتوكلون على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا) وفي السنن عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن قال - يعني إذا خرج من بيته - بسم الله توكلت على الله، ولا حول [٢] ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت ووقِيت [٣] وكُفيت، فيقول الشيطان لشيطانٍ آخر: كيف لك برجلٍ هُدي وكُفي ووُقي؟) . التوكل نصف الدين، ونصفه الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجّار، والطير والوحش والبهائم، فأهل السموات والأرض - المكلفون وغيرهم - في مقام التوكل، وإن تباين متعلّق وتوكلهم، فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في حصول ما يرضيه منهم، وفي إقامته في الخلق، فيتوكلون عليه في الإيمان ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابه وتنفيذ أوامره. (ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله فارغًا عن الناس. (ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في معلومٍ يناله منه مِن رزقٍ أو عافيةٍ أو نصرٍ على عدوٍّ أو زوجةٍ أو ولدٍ، ونحو ذلك. (ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش. فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبًا إلا باستعانتهم بالله، وتوكلهم عليه؛ بل قد يكون توكلهم [٤] أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات، ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك معتمدين على الله أن يسلمهم ويظفرهم بمطالبهم، فأفضل التوكل في الواجب (أعني واجب الحق وواجب الخلق وواجب النفس) ، وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم. ثُم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمِن متوكلٍ على الله في حصول الملك، ومتوكل في حصول رغيف. ومَن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله، فإن كان محبوبًا له مرضيًّا كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطًا مبغوضًا كان ما يحصل له بتوكله مضرّة عليه، وإن كان مباحًا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحةِ ما توكّل فيه، إن لم يستعن به على طاعة [٥] والله أعلم. *** فصل فلنذكر معنى التوكل ودرجاته وما قيل فيه قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب. ومعنى ذلك أنه عملٌ قلبيٌّ ليس بقول اللسان، ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات. ومِن الناس مَن يجعله مِن باب المعارف والعلوم فيقول: هو تعلم القلب بكفاية الرب للعبد. ومنهم من يفسره بالسكون وخمود حركة القلب. فيقول: التوكل هو انطراح القلب بين يدي الرب، كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، وهو ترك الاختيار، والاسترسال مع مجاري الأقدار. قال سهل: التوكل: الاسترسال مع الله على ما يريد. ومنهم من يفسره بالرضاء؛ فيقول: هو الرضاء بالمقدور. قال بشر الحافي: يقول أحدهم: توكلت على الله، يكذب على الله، لو توكل على الله رضي بما يفعل الله. وسئل يحيى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: إذا رضي بالله وكيلاً. ومِنهم مَن يفسره بالثقة بالله، والطمأنينة إليه والسكون إليه. قال ابن عطاء: التوكل أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدّة فاقتك إليها، ولا تزال [٦] على حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها. وقال ذو النون: هو ترك تدبير النفس، والانخلاع من الحول والقوة، وإنما يقوى العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه. وقال بعضهم: التوكل التعلق بالله في كل حال. وقيل: التوكل أن ترد عليك موارد الفاقات، فلا تسمو إلا إلى مَن إليه الكفايات. وقيل: نفي الشكوك، والتفويض إلى مالك الملوك. وقال ذو النون: خلع الأرباب، وقطع الأسباب؛ يريد قطعها مِن تعلق القلب بها، لا مِن مُلابسة الجوارح لها. ومنهم من جعله مركَّبًا مِن أمرين أو أمور. فقال أبو سعيد الخراز: التوكل اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب - يريد حركة ذاته في الأسباب بالظاهر والباطن - وسكون إلى المسبب وركون إليه، ولا يضطرب قلبه معه، ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه. وقال أبو تراب النخشبي: هو طرح البدن في العبودية، وتعلّق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية. فإن أعطي شكر، وإن مُنع صبر، فجعله مركبًا مِن خمسة أمور: القيام بحركات العبودية، وتعلّق القلب بتدبير الرب، وسكونه إلى قضائه وقدره، وطمأنينته بكفايته له، وشكره إذا أَعطى، وصبره إذا مَنع. قال أبو يعقوب النهرجوري: التوكل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيم الخليل - عليه السلام - في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام (أمّا إليك فلا) لأنه غائب عن نفسه بالله [٧] فلم يرَ مع الله غيرَ الله. وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكّل فاسد. قال سهل بن عبد الله: مَن طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومَن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، فالتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم، والكسب سنته، فمَن عمل على حاله فلا يتركن سنّته. وهذا معنى قول أبى سعيد (هو اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب) ، وقول سهل أبين وأرفع. وقيل: التوكل قطع علائق القلب بغير الله. وسئل سهل عن التوكل فقال: قلب عاش مع الله بلا علاقة [٨] . وقيل: التوكل هجر العلائق، ومواصلة الحقائق. وقيل: التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال. وهذا مِن موجباته وآثاره؛ لأنه [٩] حقيقته. وقيل: هو ترك كل سبب يوصلك إلى مسبّب، حتّى يكون الحق هو المتولي لذلك. وهذا صحيحٌ مِن وجهٍ، وباطلٌ مِن وجهٍ، فترك الأسباب المأمور بها قادحٌ في التوكل، وقد تولّى الحق إيصال العبد بها. وأمّا ترك الأسباب المباحة، فإن تركها لِمَا هو أرجح منها مصلحةً فممدوحٌ، وإلا فهو مذمومٌ. وقيل: هو إلقاء النفس في العبودية، وإخراجها مِن الربوبية. يريد استرسالها مع الأمر، وبراءتها مِن حولها وقوتها، وشهود ذلك بها؛ بل بالرب وحده. ومنهم مَن قال: التوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه. ومنهم مَن قال: هو التفويض إليه في كلّ حالٍ. ومنهم مَن جعل التوكل بدايةً، والتسليم وساطةً، والتفويض نهايةً. قال أبو علي الدقاق: التوكل ثلاث درجات - التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض. فالمتوكل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه. فالتوكل بداية، والتسليم وساطة، والتفويض نهاية فالتوكل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين. التوكل صفة العوام، والتسليم صفة الخواص، والتفويض صفة خاصة الخاصة. التوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم الخليل، والتفويض صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. هذا كله كلام الدقاق. ومعنى هذا التوكل اعتمادٌ على الوكيل، وقد يعتمد الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه، وإرادة وشائبة منازعة، فإذا سلّم إليه زال عنه ذلك، ورضي بما يفعله وكيله. وحال المفوض فوق هذا، فإنه طالب مريد ممن فوض إليه، ملتمس منه أن يتولى أموره، فهو رضاء واختيار، وتسليم واعتماد، فالتوكل يندرج في التسليم، وهو والتسليم يندرجان في التفويض، والله سبحانه وتعالى أعلم. *** فصل وحقيقة الأمر أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها. وكلٌّ أشار إلى واحد من هذه الأمور، أو اثنين أو أكثر. فأوّل ذلك معرفة بالرب وصفاته، مِن قدرته وكفايته وقيوميّته وانتهاءِ الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل. قال شيخنا رضي الله عنه: ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا مِن القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء [١٠] ولايستقيم أيضًا مِن الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات. فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم؟ ولا هو فاعل باختياره؟ ولا له إرادة ومشيئة؟ ولا يقوم به صفة؟ فكل مَن كان بالله وصفاته أعلم وأعرف، كان توكله أصح وأقوى. والله سبحانه وتعالى أعلم. *** فصل (الدرجة الثانية: إثبات في الأسباب والمسببات) فإن مَن نفاها فتوكله مدخولٌ. وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي أن الأسباب يقدح في التوكل، وأن نفيها كمال [١١] التوكل. فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة؛ لأن التوكل مِن أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سببًا في حصول المدعو به، فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سببًا، ولا جعل دعاءه سببًا لنَيْل شيء، فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله إن كان قدر [١٢] حصل؛ توكل أو لم يتوكل، دعا أو لم يدع. وإن لم يقدّر لم يحصل، توكل أيضًا أو ترك التوكل. وصرّح هؤلاء أن التوكل والدعاء عبودية محضة لا فائدة لهما إلا ذلك، ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته [١٣] شيء ممّا قدّر له. ومِن غلاتهم مّن يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان عديم الفائدة؛ إذ هو مضمون الحصول. ورأيت بعض متعمّقي هؤلاء في كتاب له [١٤] لا يجوز الدعاء بهذا، وإنما يجوزه تلاوة لا دعاء. قال: لأن الدعاء به يتضمن الشك في وقوعه؛ لأن الداعي بين الخوف والرجاء، والشك في وقوع ذلك - شك في خبر الله، فانظر إلى ما قاد إنكار الأسباب من العظائم، وتحريم الدعاء بما أثنى الله على عباده وأوليائه بالدعاء به وبطلبه، ولم يزل المسلمون مِن عهْد نبيهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن يدعون به في مقامات الدعاء، وهو مِن أفضل الدعوات. وجواب هذا الوهم الباطل أن يقال: بقي قسمٌ ثالثٌ غير ما ذكرتم مِنَ القسمين لم تذكروه، وهو الواقع؛ وهو أن يكون قضى بحصول الشيء عند حصول سببه مِن التوكل والدعاء، فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب، وقضى الله بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يأتِ بالسبب امتنع المسبب، وهذا كما قضى بحصول الولد إذا جامع الرجل مَن يحبلها، فإذا لم يجامع لم يخلق منه الولد، وقضى بحصول الشبع إذا أكل، والرِّيّ إذا شرب، فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يُرْوَ. وقضى بحصول الحج والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطريق، فإذا حبس [١٥] في بيته لم يصل إلى مكة [١٦] وقضى بدخول الجنة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصالحة، فإذا ترك الإسلام لم يدخلها أبدًا [١٦] وقضى بإنضاج الطعام بإيقاد النار تحته. وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشقّ الأرض وإلقاء البذور فيها، فما لم يأتِ [١٧] بذلك لم يحصل إلا الخيبة. فوزان ما قاله منكرو الأسباب أن يترك كلٌّ مِن هؤلاء السبب الموصل، ويقول: إن كان قضي لي وسبق في الأزل حصول الولد والشبع والري والحج ونحوها، فلا بد أن يصل إن تحركت أو سكنت، تزوجت أو تركت، سافرت أو قعدت، وإن لم يكن قضيَ لي لم يحصل لي أيضًا، فعلت أو تركت. فهل يعد أحدٌ هذا مِن جملة العقلاء؟ وهل البهائم إلا أفقه منه؟ فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة. فالتوكل مِن أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه. فمَن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن مِن تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها. فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربويته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية، والله سبحانه وتعالى أعلم. *** فصل الدرجة الثالثة: (رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل) [١٨] فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده؛ بل حقيقة التوكل توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل، فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه، فنقص مِن توكله على اللهِ بقدر ذهاب تلك الشعبة، ومِن هاهنا ظن مَن ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب، وهذا حق، لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح، فالتوكل لا يتمّ إلا برفض الأسباب عن القلب، وتعلّق الجوارح بها، فيكون منقطعًا منها متصلاً بها، والله سبحانه أعلم. *** فصل الدرجة الرابعة: (اعتماد القلب على الله، واستناده إليه، وسكونه إليه) بحيث لا يبقى فيه اضطراب مِن تشويش الأسباب، ولا سكون إليها؛ بل يخلع السكون إليها من قلبه، ويلبسه السكوت إلى سببها، وعلى هذا [١٩] فإنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها، ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره؛ لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه، قد حصنه من خوفها ورجائها، فحاله حال مَن خرج عليه عدوٌّ عظيم لا طاقة له به، فرأى حصنًا مفتوحًا فأدخله ربه إليه، وأغلق عليه باب الحصن، فهو يشاهد عدوّه خارج الحصن، فاضطراب قلبه وخوفه منهم في هذه الحال لا معنى له. وكذلك مَن أعطاه ملك درهمًا فسرق منه، فقال له الملك: عندي أضعافه لا تهتم متى جئت لي أعطيتك مِن خزائني أضعافه. فإذا علم صحة قول الملك ووثق به واطمأن إليه، وعلم أن خزائنه مليئة بذلك؛ لم يحزنه فوته. وقد مثّل ذلك بحال الطفل الرضيع في اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيره، وليس في قلبه التفات إلى غيره، كما قال بعض العارفين: المتوكل كالطفل لا يعرف شيئًا يأوي إليه إلا ثدي أمه، كذلك المتوكل لا يأوي إلا إلى ربه سبحانه. *** فصل الدرجة الخامسة (حسن الظن بالله عز وجل) فعلى قدر حسن ظنك بربك [٢٠] ورجائك له يكون توكلك عليه. ولذلك فسّر بعضهم التوكل بحسن الظن فقال: التوكل حسن الظن بالله. والتحقيق أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يتصوّر التوكل على من ساء [٢١] ظنّك به، ولا التوكل على من لا ترجوه، والله أعلم. *** فصل الدرجة السادسة (استسلام القلب له، وانجذاب دواعيه كلها إليه، وقطع منازعاته) وبهذا فسّره مَن قال: أنْ يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد، لا يكون له حركة ولا تدبير. وهذا معنى قول بعضهم: التوكل إسقاط التدبير. يعني الاستسلام لتدبير الرب لك. وهذا في غير باب الأمر والنهي؛ بل فيما يفعله بك لا فيما أمرك بفعله، فالاستسلام كتسليم العبد الذليل نفسه لسيده واقتياده له، وترك منازعات نفسه وإرادتها مع سيده، والله سبحانه وتعالى أعلم. *** فصل الدرجة السابعة (التفويض) وهو روح التوكل ولُبّه وحقيقته، وهو إلقاء أموره كلها إلى الله، وإنزالها به طلبًا واختيارًا، لا كرهًا واضطرارًا، بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب أموره [٢٢] إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته، وتمام كفايته، وحسن ولايته له، وتدبيره له، فهو يرى أن تدبيره له خير من تدبيره لنفسه، وقيامه بمصالحه وتوليه لها، خيرٌ مِن قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها، فلا يجد له أصلح ولا أوفق من تفويضه أموره كلها إلى أبيه، وراحته مِن حمل كلفها [٢٣] وثقل حملها، مع عجزه عنها، وجهله بوجوه المصالح فيها، وعلمه بكمال علم مَن فوّض إليه وقدرته وشفقته. ((يتبع بمقال تالٍ))