للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجامعتان الإسلامية والعثمانية
(٢)

الجامعة العثمانية
بينّا في صدر هذا المقال معنى الجامعتين بالإجمال، وفصلنا في القسم الأول
منه القول في الجامعة الأولى بعض التفصيل، وها نحن أولاء نفصل القول هنا في
الجامعة الثانية كذلك.
أكبر سيئات البشر الاجتماعية أنهم جعلوا انقسامهم إلى شعوب وقبائل، وأمم
ودول، وملل ونِحل، سببًا للعداوة والبغضاء، وسفك الدماء، وإفساد الأرض،
وإهلاك الحرث والنسل، وربما انقسمت الأمة الواحدة، وأهل الملة التي من شأنها
الوحدة، إلى أحزاب ومذاهب، وآراء ومشارب، فعادى بعضهم بعضًا لأجل ذلك،
وقد تَسْري عدوى هذا الفساد من الجماعات الكبيرة إلى الجماعات الصغيرة،
فترى الأسرة التي تنتهي إلى جد بعيد أو قريب تنقسم إلى بيوت يعادي بعضها بعضًا
فأولاد العم يتحاسدون ويتباغضون، بل الإخوة يتغايرون ويتدابرون، يكثر هذا
في الأمة ويقل ويزيد وينقص، على مقدار نقص العلم والتهذيب فيها وكمالهما
بالفعل، لا مقدار ما كان لها من ذلك في التاريخ، فلا شرف النسب ولا صحة أصل
الدين مما يفيد في ذلك إذا كان الفروع قد تركوا سنة أصولهم التي شرفوا بها، وكان
أهل الدين الصحيح لا حظ لهم من الاهتداء به.
لا سلامة للبشر من تلك السيئة التي تلد ما لا يُحصى من السيئات، ولا كمال
لهم ولا سعادة في هذه الحياة، إلا بالعمل بهذه القاعدة، وهي أن يتعاضدوا ويتعانوا
على ما يشتركون فيه ويتفقون عليه، ويعذر بعضهم بعضًا فيما يفترقون فيه،
ويحكِّموا الشرع والميزان فيما يتنازعون عليه، وعلى هذه القاعدة التي وضعتها من
قبل جريت في دعوة العثمانيين من طريق السياسة والاجتماع، والمسلمين من
طريق الدين والاعتقاد، إلى ما تتوقف عليه حياتهما من التعاون والاتفاق، فأنا
أدعو إلى كلتا الجامعتين، ولا أرى شيئًا من التنافي بين المصلحتين.
إن المسلمين واليهود والنصارى والصابئين وغيرهم من أهل الملل والنحل
الذين تضمهم العثمانية على اختلاف المذاهب في الملة الواحدة منهم كلهم عثمانيون
لا يكونون سعداء في معيشتهم أعزاء في وطنهم، إلا بعمران المملكة، وعزة
الدولة وشرفها، فيجب أن يتحدوا ويتعاونوا على عمران هذه البلاد بالأعمال
الزراعية والصناعية والتجارية المشتركة بينهم. ومتى مزج المال بالمال، وأنشئت
الشركات المختلطة للأعمال، واجتمع المتفرقون في العقائد والمذاهب والعناصر،
في المعامل والمزارع والمخازن، وكل منهم يرى مصلحته عين مصلحة الآخر،
ويرى سعيه لنفسه عين سعيه له، وكثر التقاء الوجوه بالوجوه، ونظر العيون،
والمحاورة بالكلام، والاجتماع على الطعام -تزول وحشة الخلاف، ويحل محلها
أنس الائتلاف، فإننا نرى المصالح المادية أدعى إلى الوفاق من الأمور المعنوية،
وإذا أمكن أن يربَّى جيل جديد في مدارس عثمانية وطنية يكون تلاميذها من جميع
العناصر تتوثق الجامعة وتكون أكمل. فإذا لم يوفق العثمانيون إلى ذلك بترغيب
عقلائهم فيه، ودعوة رجال الإصلاح والوفاق إليه، فإن الوحدة العثمانية لا تتكون
تكونًا صحيحًا تامًّا.
قد يسهل البدار إلى العمل بهذه القاعدة في مثل البلاد السورية لاتحاد لغة أهلها
وتكافئهم في الكسب وارتقاء معارفهم؛ ولأن التفرق فيها بين المسلمين والنصارى لا
يتعدى المنافسة والمباراة إلا قليلاً. وليس لفريق منهم ضلع مع دولة أجنبية يرمي
عن قوسها إلى إلقاء فتن تمهد لها السبيل للاستيلاء على البلاد أو لما يشبه ذلك من
فساد وخيانة كما يعهد في الولايات المقدونية التي أعضل داؤها، واستعصى على
المعالج شفاؤها، فأنى يطمع في وحدتها العثمانية، بنظمها في سلك قاعدتنا الذهبية.
أما التفرق بين الترك والروم في الأناطول فهو أهون من مثله في مكدونية
وإن كان كل منهما في القطرين ملة واحدة. ودونه التفرق بين الكرد والأرمن على
ما بين هؤلاء من وقائع العدوان التي لم يقع مثلها لأولئك، وإنما ينأى بالطمع في
التأليف بينهم ذلك البون الشاسع بينهم في التربية والمعارف والكسب. وحسب
العثمانية منهم الآن أن يتركوا البغي والعدوان، وكلامنا لا يصل إليهم، فلا نطيل
الكلام في شأنهم، وكل ما نرجوه من إصلاح ذات بينهم، نفوضه إلى حكمة
الحكومة وعدلها فيهم.
وأما أهل العراق فهم أقرب إلى إخوانهم السوريين في الاستعداد للاتفاق في
إقامة قاعدة الوحدة العثمانية، لولا أثرة اليهود في الأعمال المالية، وإيثارهم للجامعة
الدينية الملية، وهم كثيرون في العراق، وفي أيديهم ناصية تجارتها، وتصريف
رياح ثروتها، وما أظن إلا أنهم يأبون مشاركة المسلمين في أعمالهم، بل يطمعون
في تجريدهم من معظم أموالهم، وإلجاء أكثرهم إلى بيع أرضهم وعقارهم، لأن
هؤلاء الأكثرين يسرفون في النفقة ويقصرون في الكسب، كما هو شأن المسلمين
في أكثر بقاع الأرض، إعراضًا عن هداية دينهم، وهجرًا لما أنزل عليهم من ربهم
في النهي عن التبذير والإسراف، والترغيب في الاعتدال والاقتصاد، وأن
المسرف المهمل ليغري القنوع بالطمع، فكيف لا يكون مزيدًا في طمع الطامعين؟
وأن المقتصد النشيط في الكسب ليجذب أمثاله إلى مشاركته في عمله، فما أجدره
بجذب الكسالى والمتواكلين. وإني لأعذر يهود العراق، وكذا النصارى فيه إذا
رغبوا عن عقد الشركات مع مسلميه إذا ظل هؤلاء مصرِّين على كسلهم وخمولهم،
وإني أعيذهم من هذا الإصرار بالله الواحد القهار، الذي جعل إرث الأرض لمن
يُصلح العمل والاستعمار {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: ٦١) .
تلك هي المرتبة العليا للجامعة العثمانية بيناها لترغيب المستعدين لها فيها،
وتنبيه محبي الإصلاح للدعوة إليها، فإذا تعذر العروج إليها في هذا العصر والتمكن
من قسميها السلبي والإيجابي معًا (السلبي هو ترك التعادي والتباغض والتدابر،
والإيجابي هو الائتلاف والاشتراك في المراقف والمنافع الدنيوية والتربية الفنية
والعلمية) فإننا نكتفي منها بالقسم السلبي لأنه ترك، والترك ميسور في كل وقت،
ثم لا مندوحة لنا عن القيام في المرتبة الثانية.
المرتبة الثانية من مراتب الجامعة العثمانية: هي أن تتبارى الأقوام التي
يجمع كلاً منها اللغة أو الدين في أسباب العمران من العلوم والفنون والأعمال مع
الإخلاص للدولة، وقصد إعلاء شأنها وشأن مجموعة الأمة، ومراعاة ما سميناه
القسم السلبي من قسمي المرتبة الأولى، وهو أن لا يتعادوا فيما يختلفون فيه. بل
يجب أن يتحروا مع ذلك حسن المعاشرة، وآداب المجاملة، وأن يكون مثلهم في
هذا كمثل الدول الأوروبية المتعاهدة على السلم: تتبارى في الكسب، وتتسابق إلى
توسيع دائرة النفوذ والسلطة، ويعامل بعضها بعضًا بالمشاحة، فلا يرضى أن
يسبقه غيره إلى دينار أو درهم، ولا إلى بث نفوذه أو تجارته في قطر أو بلد، وهم
في أثناء ذلك كله يكرم بعضهم بعضًا ويعامله بالاحترام والآداب. فإذا اتفق لبعضهم
أن تعدى حدود الحق أو الآداب مع الآخر تراضوا فيما بينهم أو تحاكموا إلى محكمة
الصلح العام، وهم في هذا قد أعلوا شأن أوروبة كلها وصاروا في مجموعهم سادة
العالم.
وأضرب لهم مثلاً آخر: جماعات من الصناع والعمال يبنون قصرًا لكل منهم
أجرة عمله خالصة له وغاية الجميع أن يكون القصر في أركانه وجدُره وبلاطه
ونجارته وتجصيصه ونقوشه من أحسن قصور الدنيا. وهم في أثناء العمل
يجتمعون على الطعام وعند أوقات الراحة يتحاورون ويتفاكهون، ولكن يجتهد كل
فرد منهم وكل فريق بأن يكون أحسن عملاً وأتقن صنعًا وأوفر أجرًا.
وأما مثلهم في المرتبة الأولى -وأخرت ذكره للمقارنة والمقابلة- فكمثل الجسد
الواحد في حياته المادية يعمل كل عضو من أعضائه عمله لحياته وحياة سائر
الأعضاء ممدًا لها ومستمدًا منها، معينًا لها مستعينًا بها، وإن كان لأهل ملة كل
منهم حياة روحية أخرى ولهم فيها أعمال خاصة هم لها عاملون.
ينبغي للمسلمين في مثل العراق أن يعتبروا في هذه المرتبة باتحاد اليهود
والنصارى وتعاونهم ونشاطهم في الكسب، وسعيهم لإرث الأرض، وأن يجاروهم
ويباروهم في ذلك ويتحروا سبقهم، من غير أن يهضموا حقهم، أو يسيئوا عِشرتهم
وإنني أرى أن المسلم إذا تعصب للمسلم في الكسب واتحد به لمسابقة غير المسلم
الذي تعصب لقومه -مع التزام ما كررنا تأكيد الحث عليه من حسن العشرة- فإن
أولئك الأغيار يرغبون حينئذ إلى المسلمين في إقامة الوحدة العثمانية على أساس
تلك القاعدة، والارتقاء بها إلى تلك المرتبة، لأن الاتحاد لا يكون إلا بعد التكافؤ.
فكيف والمسلمون يكونون حينئذ أرجح؛ لأنهم أكثر عددًا ولا يزال معظم رقبة
الأرض في أيديهم، وأما إذا طال عليهم أمد هذا التخاذل والتكاسل، فلا بد أن يغلبهم
الآخرون على ما بقي لهم، ويفقدون قوة الثروة، كما فقدوا قوة الوحدة، فلا يبقى
لهم شأن في الوطن ولا في الدولة. وحينئذ تكون تلك المرتبة العليا من الجامعة
العثمانية أبعد. ولا تغرن المسلمين كثرتهم فإنها مع التخاذل لا تغني عنهم شيئًا كما
قلت في المقصورة:
لا تخدعنك كثرة جاهلة ... فربما كان حصاها كالحصى [١]
كم فئة قليلة قد غلبت ... كثيرة بالاتحاد والنُّهى [٢]
وإنما العزة للكاثر إن ... توحد الكثير قصدًا واتقى [٣]
وإنما التقوى اجتناب كل ما ... يُردي وأخذ ما استطعت من قُوى
والمال عدة لكل قوة ... تنقض أنكاثًا بفقده القوى

إن من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري أن التعاون بين الجماعات والأقوام
والأمم والدول لا يكون بالمبادلة، ولا يوزن إلا بميزان المنفعة والمصلحة، فهو إذًا
لا يكون إلا بين الأكفاء، وتلك سنته أيضًا في الأفراد، فالإخوة المتفاوتون في العلم
أو الثروة لا يكونون سواء في شيء، فإذا وجد أفراد من الناس يبذلون أموالهم
وأوقاتهم لمنفعة غيرهم ابتغاء مرضاة الله تعالى، أو حبًّا في الجاه وحسن الصِّيت،
أو تلذذًا بفضيلة التفضل على الناس، فلا يطلبون ممن يبذلون له مالهم أو جاههم أو
وقتهم جزاءًا ولا شكورًا، بل يطلبون ذلك من الله تعالى أو من الناس الذين يطلعون
على عملهم، أو يكتفون بتلذذهم بفضلهم، وإذا صح أن هذا من الشذوذ في تلك
السُّنة التي تطَّرِد في الأقوام دون الأفراد، فمثل هؤلاء الأفراد لا يوجد في الدول
والأقوام، ألا ترى أن الدول لا تحالف إلا أندادها وأكفاءها، التي لا تنفعها إلا لتنفع
منها، وسنة الله في الشعوب والأمم كسنته في الدول، فالطريقة المثلى للتأليف بين
العثمانيين لتكوين الجامعة العثمانية هي الاجتهاد في جعلهم أكفاء للاشتراك في
المصالح والمنافع، وإنما يكون ذلك بسعي المصلحين، والله ولي المحسنين.
(كتب هذا في المحجر الصحي بالحمدانية بين حلب وحماه في غرة شعبان)
***
ذيل للمقالة في العناصر العثمانية
بينا أن للجامعة العثمانية مرتبتين: مرتبة عليا ومرتبة دنيا، وأنه إذا
تعذر العروج إلى الأولى وجب الاعتصام بالأخرى، وهو أن يُعنى أهل كل عنصر
من العناصر أو ملة من الملل ذات الجنسية العثمانية في ترقية أنفسهم بالتربية والتعليم
والاقتصاد، وجميع شئون الاجتماع والعمران، مع موادتهم لغيرهم من
إخوانهم العثمانيين وتعزيز الدولة.
وقد تتداخل مصالح العناصر والملل بعضها في بعض فيتعاون كل من تجمعه
بآخر مصلحة على ما يشتركان فيه فيتعدد من يعاونهم ويعاونونه. فالمسلم العربي
والتركي والألباني والكردي يتعاونون في المشروعات التي ترفع شأن الإسلام،
وتبث دعوته بين الآنام، وكل منهم يعاون أهل لغته فقط على ترقيتها وتوسيع دائرة
معارفها، وإن اختلفت دينهم (على أن اللغة العربية لغة كتاب الله وسنة رسوله،
فهي مشتركة بين جميع المسلمين لا خاصة بمن هم عرب في النسب والكلام فيجب
على كل مسلم أن يقوم بحقها) لا يعارض أحد في ذلك أحدًا. كما يتعاون كل على
الأعمال المالية والعلمية بلا معارضة ولا امتعاض.
يظهر أن طبيعة الاجتماع في هذا العصر لا تقبل إلا هذا النوع من تكوين
الجامعة العثمانية. وقد جهل هذا وذاك زعماء (جمعية الاتحاد والترقي) وزين لهم
الغرور تكوين جامعة تركية، تدين لها وتخضع جميع العناصر العثمانية، فتوسلوا
إلى ذلك بأقوى الوسائل، ونصبوا له جميع الحبائل، وناهيك بقوة السيف والنار،
والدرهم والدينار، فإنهم عمدوا إلى مكان القوة من الشعبين الكبيرين الحريصين
على لغاتهما (وهما العرب والألبان) فأثاروا في بلادهما الفتن وجردوا عليهما
الجيوش المنظمة، فحاربوا اليمن وحوران والكرك وبلاد الأرنؤط، وبعد إنفاق
الملايين من الأموال، وسفك دماء الألوف المؤلفة من الرجال، لم يستطيعوا أن
يمهدوا السبيل لتتريك هذين الجيلين الجليلين، ولم يظفروا بمن حاربوا منهما،
ليستذلوا سائر شعبيهما، ويحملونهم على استبدال التركية بلغتيهما، بل نفروهما من
العناية بتعلم اللغة التركية، مضافة إلى اللغة الأصلية، وتفاقمت الفتنة بعد ذلك في
بلاد الأرنؤط ومقدونيا واستطار شررها، ونفرت الدول كلها من العثمانية وبطلت
ثقتها بها، إلا ألمانية التي تستغل هذه الجمعية - بل الدولة بنفوذ الجمعية -
استغلالاً أربح من استغلالها لعبد الحميد، إذ أخذت منها مملكة البوسنة والهرسك
لحليفتها النمسة، ومملكة طرابلس الغرب وبرقة لحليفتها الأخرى إيطالية، وأخذت
منها العهود والمواثيق على تسهيل السبيل ليهود ألمانية الصهيونيين، في استعمار
الأرض المقدسة من فلسطين، وأرجأت لقمتها الكبرى إلى حين.
استطارت الفتن وخِيف على الدولة السقوط السريع، بسياسة أولئك
المغرورين، فقام أهل الغيرة على أهل الغرور، وأسقطوا وزارتهم وسلطتهم كما
أسقطوا قبلهم سلطة السلطان المخلوع، وأسسوا وزارة محنَّكة، من أهل التجارب
والثقة، (وزارة أحمد مختار باشا الغازي) بعد أن أسسوا حزب الحرية والائتلاف
الذي يُرجى أن يرسو بسفينة الدولة في مرفأ النجاة، بإعطاء كل عنصر من
العناصر حقه، مع التأليف بينه وبين غيره.
ليس هذا مقام بيان سيئات جمعية الاتحاد والترقي، وما يرجى من نفع حزب
الحرية والائتلاف. وإنما نريد أن نبين أن الجمعية بذلت كل ما في الدولة من القوى
معززة له بكل ما في طاقتها من الحيل والمكر والدهاء، واستعمال الدجالين
والمنافقين، من المغاربة والسوريين والمصريين، لتخدع العرب والمسلمين،
وغيرهم من العثمانيين، وتنفذ مقاصدها في إدغام عناصر الدولة في العنصر
التركي، فلم تستطع إلى ذلك سبيلاً، بل كان سعيها له سعيًا لضده، حتى كادت
تجعل الجميع أعداء لترك بذنب أفراد منهم، ومن الدونمة واليهود والأوشاب الذين
لا يعرف لهم في العنصر التركي الكريم أصل ثابت، ولا عرق راسخ، ولا تشهد
لهم بالانتساب إليه معارف وجوههم، ولا لون سحنته، ولا تقطيع أعضائهم، لولا
أن من الله تعالى على الأمة العثمانية، بإزالة سلطتهم الاستبدادية، بسعي كرام
الترك وغير الترك من العثمانيين (كما ذكرنا آنفا) ثم نبين بعد هذا أن لا سبيل
إلى الوحدة العثمانية إلا بالبعد عن طريقة الاتحاديين إلى طريقة الائتلافيين أو مثلها.
لهذا يدعي الاتحاديون الآن أنهم رجعوا عن رأيهم في تتريك العناصر
والضغط على غير الترك وجعل السيادة والحكم للترك وحدهم، وعن إبقاء جمعيتهم
جمعية ثورة وسفك ماء، إلى جعلها حزبًا سياسيًّا كغيره من الأحزاب. وحسبنا هذا
اعترافًا منهم بسوء ما كانوا عليه وقبحه وضرره، وإن لم يعترف به أُجراؤهم
والمتملقون لهم من العرب. ونحن لا نصدق لهم دعوى، وإنما نحكم عليهم بأفعالهم
لا بأقوالهم، ومنها أننا نرى المتمكنين في مذهبهم لا يزالون يلحون في عداوة
العرب واضطهاد أرباب الأقلام والرأي منهم، والداعين إلى ترقيتهم، لتترقى
العثمانية بهم، كما يفعل إخوانهم الترك وغيرهم، ولو لم يكن بين أيدينا من الشواهد
إلا ضغط ديوان الحرب العرفي الذي بقى من آثار السوءى في بيروت لصاحبي
المفيد وأعوانهما ومحاسبتهم في كل يوم على مفردات الألفاظ والتراكيب الإضافية
والوصفية -بله الجمل ذات المعاني- لكفى. وما ذنب هؤلاء إلا ذكر العرب ودعوة
العرب إلى العلم والارتقاء دون الجمعية.
أضف إلى هذا إحياء هذه الجمعية، ما كنا نظن أنه مات بسقوط السلطة
الحميدية، من تهمة السعي إلى تأسيس خلافة عربية، كأنهم يأبون أن يتركوا لعبد
الحميد سيئة إلا ويأتونها بأقبح مما كان في عصره، فهذه التهمة مما كان يتقرب إليه
بها مصطفى كامل وقد قام يتقرب إليهم بها خلفاؤه كما سنبينه في مقال آخر.
فبعد هذه التجارب التي دخلت فيها دولتنا العلية أدام الله تأييدها، وبعد هذه
العبر التي رأيناها بأعيننا، وجب علينا أن نصرح بأن بقاء الدولة يتوقف على
المساواة في الحقوق والعدل بين جميع عناصرها، وحريتها في أديانها ولغتها،
وسائر مقوماتها ومشخصاتها، مع التأليف بينها وربط بعضها ببعض، على الوجه
الذي بيناه من قبل. ولا يتم هذا مع استئثار العاصمة بالسلطة على ما كانت عليه
في الزمن الماضي، بل لا بد من إدارة جديدة من قبيل ما يسمونه بعدم المركزية
تراعى فيها أحوال الولايات العثمانية المتباينة في العقائد والعادات واللغات حتى أنه
ليعد من محاولة المحال سياستها وإدارتها بقانون واحد تجعل فيه ولايات الحجاز
واليمن كولايات مقدونيا.
كان الاتحاديون يريدون أن يجعلوا بعض الولايات مستعمرات للمملكة ليس لها
حقوق في الانتخاب لمجلس الأمة ولا غير ذلك من حقوق الدولة، وإنما ينشأ لها
قانون خاص، وكان الطلاب الذين يرسلونهم إلى أوروبة لدراسة الحقوق والقوانين
فيها يعهدون إلى بعضهم بدرس قوانين المستعمرات الأوروبية بالتفصيل، وهذا من
نظرياتهم التي لا تؤدي إلا إلى شر مما أدت إليه سياسة التتريك من قبل.
إن بعض أُجراء الاتحاديين من مسلمي العرب يرغِّبون جميع المسلمين في
السياسة والإدارة المركزية وينفرونهم من ضدها، ومن دعوة قومهم إلى إحياء لغتهم
وترقية ثروتهم، وجمع كلمتهم، مع المحافظة على عثمانيتهم، ويحتجون على
ترغيبهم وتغيرهم بأن هذا إذا كان مفيدًا، فإن نصارى الرومللي وغيرهم يشاركونهم
فيه، أي: فيجب أن نؤيد جمعية الاتحاد والترقي في إضعاف جميع العناصر
والضغط عليها بالحكومة المركزية القاسية لتتمكن بذلك من رقاب تلك العناصر! !
نظر قصير وحجة داحضة: إن جمعية الاتحاد والترقي لا تطمع قط في
تحويل نصارى الرومللي عن لغاتهم ولا عن دينهم، وهي تعلم أن حكومات البلقان
ودول أوروبة وراءهم ظهير لهم. وإنما الجمعية كعبد الحميد لا توجه ضغطها إلا
إلى المسلمين، بدليل قتالها لأهل اليمن والكرك وحوران والأنؤد، ومنحها
الامتياز للماليسورين النصارى من هؤلاء دون المسلمين، ويوشك أن تكون
مراعاتها لأولئك النصارى سببًا لمراعاتنا دون الضد.
بمثل هذه الأوهام تستعمل بعض مسلمي العرب لغش المسلمين كما أوهمت
بعضهم أن كل سعيها واجتهادها موجه إلى الجامعة الإسلامية! ! وكما استعملت
بعض نصارى العرب لغش النصارى منهم وإيهامهم بأنها هي تعمل لهم كيت وكيت
وترجحهم على مسلمي قومهم؛ لأنها تثق بهم ما لا تثق بالمسلمين الذي يريدون
إنشاء خلافة عربية يجعلون بها الحكومة دينية محضة! ! أي والجمعية تشهد لها
ماسونيتها بأنها تريد إزالة الصبغة الدينية من الدولة. وقد راج هذا الغش في سوقهم
فكان أروج من مثله في سوقنا، فساعدتها جرائدهم السورية والمصرية ثلاث سنين
ثم ظهر لأكثرهم أنهم كانوا مخدوعين.
وجملة القول أن غش الجمعية قد انكشف لجميع العقلاء من جميع العناصر.
وأن كل عنصر قد تنبه بعمل الجمعية إلى ما يجب عليه من تقويم نفسه. وأشدهم
إخلاصًا للترك العرب والأرنؤد والأكراد، وسيظهر هذا لجميع الناس، على أنها
مادامت ذات قوة ومال، تجد من المنافقين من يخدمها في كل حال، ولكن العاقبة
للمتقين.