للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


دعوى صلب المسيح
(٢)

تكلمنا في الجزء الماضي عن تمويه محرر مجلة البروتستانت على بعض
عوام المسلمين في هذه المسألة وأقوى ما يخادعون به أنه لا يعقل أن رجلاً مشهورًا
كالمسيح يشتبه على اليهود وشرطة الرومان فلا يميزونه من غيره. وفاتنا أن نذكر
أن في الأناجيل عبارات كثيرة تدل على أن الاشتباه حصل بالفعل. وقد كتب إلينا
من السويس كاتب في ذلك فرأينا أن ننقل عبارته بنصها وهي:
(قد اطَّلعت على ما جاء في المنار ردًّا على بشائر السلام في مسألة صلب
المسيح) .
ولما كنت قد كتبت على المجلة المرسلة إليَّ من نقولا كتابة في هذا الشأن
ورددتها إليه رأيت أن أطلع حضرتكم على مضمون ما كتبت فلعلك تجد فيه ما
يناسب المنار، وإن كان ما كتبته موجزًا فعلى المنار الإيضاح والمراجعة والتفصيل.
قلت عند قوله: (قال المفسرون إن الله ألقى شبهه.. إلخ) إن المفسرين
قسمان قسم يفسر من طريق الإيمان على سنة المسيحية وهم الذين نقلت قولهم، وقسم
يفسر من طريق العلم والعقل على سنة الإسلام وقد فسروا هذه الآية بما لا يبعد عما
ورد في أناجيلكم التي تقرؤونها ولا تفهمونها، ورد في الإنجيل أن المسيح قال
لتلامذته: إنكم ستنكرونني قبل أن يصيح الديك.. إلخ (أنكرت الشيء لم أعرفه)
وورد أيضًا فيه أن المسيح خرج من البستان فوجد أعداءه فقال لهم: مَن تطلبون؟
فقالوا: المسيح. فقال: هو أنا ذا فقالوا: إنما أنت بستاني ولست بالمسيح وهكذا
كانوا كلما وجدوه أنكروه وخانتهم أبصارهم في رؤيته وعمي عليهم واشتبه منظره
(وخيانة النظر ثابتة قطعًا) فلما أعيتهم الحيل استأجروا يهوذا الإسخريوطي بثلاثين
درهمًا ليدلهم عليه لتمكُّّّنه منه فلا يشتبه عليهم، وهذا في الإنجيل أيضًا فهذه الحيرة
المفضية إلى استئجار دليل يدل عليه مع ملاحظة أنه رُبِّيَ في وسطهم وكانوا
يعجبون بفصاحته وحكمته كما هو وارد في الإنجيل أيضًا تدل بأجلى بيان وأوضحه
على أنهم كانوا في شك منه، وكان يشبه لهم بغيره فكلما اجتمعوا عليه اشتبه عليهم
وعمي في نظرهم وخانتهم أبصارهم وظنوه غيره وما حصل لهم حصل لدليلهم
(يهوذا) وقد ورد في الإنجيل أنهم حينما ساقوه للصلب كانوا يستحلفونه: هل أنت
المسيح؟ فكان يقول: هذا ذا فمنه يعلم أنهم كانوا لم يزالوا في شكهم حتى بعد
الاستئجار ووجود المرشد والدليل، فلما أعياهم الأمر عمدوا إلى مَن غلب على ظنهم
أنه هو المسيح والمسيح في السحابة البيضاء مع موسى كما في الإنجيل أيضًا ثم
صلبوا ذلك الرجل الذي كانوا يستحلفونه، وغلب على ظنهم أنه هو المسيح فهل كل
هذا كان لظهور المسيح واضحًا لهم أو لأنهم كلما طلبوه شُبه لهم وألقى شبه غيره
عليه وعمي عليهم وخانتهم أبصارهم فعمدوا إلى يهوذا واستأجروه ليدلهم عليه، فما
كان بأمثل منهم في ذلك وأدتهم خاتمة المطاف إلى أخذ من غلب على ظنهم أنه هو
وصلبوه، وما هو منه بشيء بل المسيح ساخر منهم ضاحك عليهم يقول: أنا المسيح!
فيقولون: لست هو، حتى قتلوا غيره وصلبوه وهو محجوب عن أنظارهم
مشتبه عليهم قد شُبه لهم بالبستاني مرة وبغيره أخرى وبذلك نجَّاه الله من كيدهم فما
نالوه بسوء {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ
مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّن} (النساء: ١٥٧) المبني على إرشاد يهوذا
المشكوك فيه كما علمت من نص الإنجيل {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (النساء: ١٥٧) .
هل فهمت يا حضرة المبشر الآية وكيف كانت عبارات الإنجيل حجة للإسلام
لا عليه؟ . فاقرؤوا الأناجيل وافهموها؛ فقد وسع الله لكم على يد البروتستانت ولا
تكونوا كالذي يحمل أسفارًا اهـ.
أركان الدين الصحيح
ضاق هذا الجزء عن رد شبهات النصارى على القرآن وغير ذلك مما كنا
وعدنا به لطول مقالة (النبأ العظيم) أكثر مما كنا نتوقع، وقد صدر الجزء الخامس
من المجلة البروتستنتية قبل صدور هذا المنار قرأنا فيها نبذة في أركان الدين
الصحيح يقول فيه الكاتب الذي ينتمي إلى المسيح ما نصه:
وإن المذهب الذي يجب على كل فرد أن يختاره لنفسه هو أكثر المذاهب
مشابهة لروح الآلهة وأقربها لصفاتهم.. إلى آخر ما قاله وكرر فيه لفظ (الآلهة)
ثم فسر هذا المذهب بقوله: (ذلك المذهب الذي ينادي: أن يا قوم أحسنوا إلى مَن
أساء إليكم فتلك صفات الله، ذلك المذهب إنما هو مذهب إلهي بلا مراء) ، ثم ذكر
أن المذهب إذا قال لتابعيه جاهدوا في سبيل الله ودافعوا عن أنفسكم في سبيل الله
يكون بريئًا من الله والله بريئًا منه؛ لأن العزة الإلهية لا تأمر بالقتال مهما كان
الغرض شريفًا. وأجاب عن أمر التوراة بني إسرائيل بإبادة بعض الأمم
المجاورين لهم (بأنه) كان أمرًا وقتيًّا لازمًا للتوصل إلى المسيحية ديانة السلام
والمحبة) ! .
ثم ذكر اعتراض الناس على هذا المذهب بكون محبة الأعداء وترك المدافعة
عن النفس مستحيل، واعترف بأن هذا صحيح بالنسبة إلى معارف البشر الآن وقال:
إن معارفهم سترتقي في المستقبل إلى فهمه.
فملخص هذا الدين الإلهي:
(١) أنه يوجد آلهة متعددة وأن أخلاقهم متفقة على محبة أعدائهم ولا شك
أن أعداءهم هم الذين لا يؤمنون بهم، ولا معنى لمحبتهم إلا عدم مؤاخذتهم على الكفر
فالنتيجة أن هذا الدين دين إباحة ومبطل لنفسه ولغيره.
(٢) أنه يأمر بمحبة الأعداء وترك المدافعة وذلك مستحيل بحسب ما
وصلت إليه معارف البشر إلى القرن العشرين من ظهوره؛ ونتيجة هذا أنه لم يتبعه
أحد حتى الآن.
و (٣) أن هذا المذهب يخالف قول المسيح: (وهذه هي الحياة الحقيقية أن
يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك. ويسوع المسيح الذي أرسلته) (يوحنا ١٧)
وقوله: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا؛ بل
سيفًا؛ فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها
وأعداء الإنسان أهل بيته) (متّى ١٠-٣٤و٣٥) وقوله: (جئت لألقي نارًا على
الأرض) (لوقا ١٣-٩٤) وقوله: (إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه
وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا)
(لوقا ١٤-٢٦) وقوله: (أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا
بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا ١٩-٢٧) وأمثال ذلك.
فأي الدينين دين المسيح عليه السلام؟ !