إن الخدمة الشريفة التي قام بها الجيش في انقلابنا الخيري الحميد الأخير هي معلومة لدى الجميع، وطبيعي أن الجيش كان مضطرًّا إلى تكوين التحول الجديد وتسكين الاضطراب الذي حدث في الأحوال العامة، وتأييد مقصد الانقلاب، فكان اشتغال أعضائه بالسياسة يومئذ أمرًا ضروريًّا، ولكن بعد الانقلاب وتأسيس الدستور (المشروطية) لم يبق محل لاشتغال الجيش بالسياسة، وأنا منذ سنة ونصف تقريبًا أوصيت الوصايا اللازمة شفاهًا بكل عزم وإخلاص في الآستانة وفي أدرنة؛ بأن يحصر الجيش همته في وظيفته العسكرية المقدسة، وإني أقول بلسان الشكر: إن هذه الوصايا تلقيت بالطاعة من قبل رفاقي الأعزاء، وإنه بهمة رفاقي الضباط الذين بطبيعتهم يقدرون سمو الوظيفة حق قدرها، حصل في هذه المدة القليلة نجاح مهم في انتظام الجيش اعترف به الصاحب والعدو، وبهذا النجاح وجدنا الجيش لم يتوان في طريق التكامل خطوة واحدة، على أنه منذ سنة ونصف وقف أمام سبع محاربات في اليمن وعسير وشمال الأرناؤوط وحوران والكرك، ثم اليمن وعسير ثانيًا، وعصيان الماليسور كل ذلك لم يثن عنان مطيته عن التقدم إلى الأمام، وأن الجيش وفقه الله ما دام يدأب على هذا الجد والاجتهاد، فهي يعلي شأنه وسطوته دومًا، وأن النقطة الوحيدة التي يعلق عليها الأمل في سبيل الوصول إلى هذا المقصد؛ هي أن يجرد الضباط رفاقي أذهانهم وأنفسهم من الأفكار والمقاصد غير اللائقة، ويقفوا وجودهم على الوظيفة العسكرية فقط. إن التكامل والانحطاط في الجيش منوط بسعي رفاقي، فكلما زاد ارتباطهم بالوظيفة تتجلى آثار التعالي بصورة جديدة كل يوم، وإن الحالة التي يولدها عكس ذلك هي السقوط ليس غير. على أن السقوط يكون سريع الوقوع لا تدريجًا كالترقي، وآثاره تظهر في الحال، وعلى هذا التقدير يكون الجيش قد أودى بوطنه ودولته التي هو مكلف بالعمل لبقاء وجودها، وهذه النتيجة تثبت أنه يجب على الجندي أن لا يتفكر في شيء غير الوظيفة، وأن لا يعيش إلا لأجلها فقط؛ لأن الوطن الذي يعزه أكثر من نفسه لا يعيش إلا بارتباطه هو بوظيفته. إن السياسة من شأنها توليد المطامع والاختلافات، فهي بالطبع موجبة لإهمال الوظائف العسكرية وداعية للتباين في الأفكار، وهذا ما يؤدي إلى خراب المملكة. وإني لمشاهداتي وتجاربي، أعلم أن جميع رفاقي الضباط قد شعروا بقدسية الوظيفة، وعدلوها بأرواحهم وضمائرهم فيجب عليهم أن ينزهوا أفكارهم ومقاصدهم عما سواها، وإني أسدي الاحترام لرفاقي الذين يمعنون النظر في الوظيفة ويتلقونها على هذا الوجه، وأحبهم أكثر من محبة الوالد لولده، كما أنه لا يجوز أن أتوانى ألبتة في معاقبة الذين لا ينظرون إلى هذه الحقائق، والنتائج التي صورتها بنظر الاهتمام، فيهملون وظائفهم في ميلهم إلى الأفكار الخارجة عن المسلك ويشتغلون بالسياسة، ومجازاتهم تنوطها بي صلاحيتي القانونية، ولأجل أن يطلعوا على هذه النصائح والوصايا نشرناها لجميع المراجع، فأوصيهم وصية خاصة بعمل ما يقتضيه الحال. (المنار) من أصول السياسة أن الجنود الذين يتصدون للسياسة ويحدثون الانقلابات بالثورة والسلاح، يكونون خطرًا على المملكة إذا بقي لهم نفوذهم في الجيش، ومن أحكام السياسة أن يقتل هؤلاء ولو بالحيلة إذا لم يؤمن جانبهم. ومن أسباب تعجيل الإنكليز بالحرب السودانية عقب الاحتلال؛ تعريض عسكر الثورة العرابية للهلاك والزوال وقد تم لهم ذلك من غير أن يشعر الناس بسببه. ونحمد الله أن كان انقلابنا سليمًا، قد قدر محمود شوكت باشا وأعوانه من القواد والضباط العقلاء (كمحمد هادي باشا وصادق بك) على تلافي الخطر، وإن كان يفهم مما كتبه هؤلاء الثلاثة أن في الضباط من لا يزال يشتغل بالسياسة؛ بإغراء أولئك الزعماء المعروفين من جمعية الاتحاد والترقي، ولا شك أن هذا من الجناية والخيانة كما قال محمد هادي باشا والفاروقي، فعسى أن يوفق محمود شوكت باشا في أقرب وقت إلى تنفيذ ما أشار إليه في هذا البلاغ من غير فتنة، وحينئذٍ نأمن من الخطر الداخلي ويستقر أمر الدستور فينا.