(الوجه الثامن والثلاثون) : قولهم: إن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر فخلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده؛ وإنما كان يوافقه كما يوافق العالم العالم، وحتى لو أخذ بقوله تقليدًا لعمر فإنما ذلك في نحو أربع مسائل نعدها أو كان من عماله وكان عمر أمير المؤمنين وأما مخالفته ففي نحو مائة مسألة: منها: أن ابن مسعود صح عنه أن أم الولد تعتق من نصيب ولدها. ومنها: أنه كان يطبق في الصلاة إلى أن مات، وعمر كان يضع يديه على ركبتيه. ومنها: أن ابن مسعود كان يقول في الحرام: هي يمين. وعمر يقول: طلقة واحدة. ومنها: أن ابن مسعود كان يحرم نكاح الزانية على الزاني أبدًا، وعمر كان يتوّبها وينكح أحدهما الآخر. ومنها: أن ابن مسعود كان يرى بيع الأمة طلاقها، وعمر يقول: لا تطلق بذلك.. إلى قضايا كثيرة. والعجب أن المحتجّين بهذا لا يرون تقليد ابن مسعود ولا تقليد عمر، وتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي أحب إليهم وآثر عندهم، ثم كيف ينسب إلى ابن مسعود تقليد الرجال وهو يقول: لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أعلمهم بكتاب الله ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلت إليه. قال شقيق: فجلست في حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما سمعت أحدًا يرد ذلك. وكان يقول: والذي لا إله إلا هو ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه. وقال أبو موسى الأشعري: كنا حينًا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له. وقال أبو مسعود البدري - وقد قام عبد الله بن مسعود - ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم. فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا ما غِبنا ويؤذَن له إذا حُجبنا. وكتب عمر إلى أهل الكوفة: إني بعثت إليكم عمارًا أميرًا وعبد الله معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فخذوا عنهما، واقتدوا بهما، فإني آثركم بعبد الله على نفسي. وقد صح عن ابن عمر أنه استفتى ابن مسعود (في ألبتة) وأخذ بقوله ولم يكن ذلك تقليدًا له؛ بل لما سمع قوله فيها تبيّن له أنه الصواب. فهذا هو الذي كان يأخذ به الصحابة من أقوال بعضهم بعضًا. وقد صحّ عن ابن مسعود أنه قال: (اغدُ عالمًا أو متعلمًا ولا تكوننَّ إمَّعة) ؛ فأخرج الإمعة وهو المقلد من زُمرة العلماء والمتعلمين، وهو كما قال رضي الله عنه؛ فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلمين للعلم والحجة كما هو معروف ظاهر لمن تأمله. (الوجه التاسع والثلاثون) : قولهم: إن عبد الله كان يدَع قوله لقول عمر، وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي. وزيد يدع قوله لقول أُبي بن كعب. فجوابه: أنهم لم يكونوا يدعون ما يعرفون من السنة تقليدًا لهؤلاء الثلاثة كما يفعله فرقة التقليد؛ بل من تأمل سيرة القوم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا يدعونها لقول أحد كائنًا من كان وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة. وابن عباس ينكر على من يعارض ما بلغه من السنة بقوله: (قال أبو بكر وعمر) ، ويقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر. فرحم الله ابن عباس ورضي عنه، فوالله لو شاهد خلَفنا هؤلاء الذين إذا قيل لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: قال فلان وفلان. لمن لا يداني الصحابة ولا قريبًا من قريب. وإنما كانوا يدعون أقوالهم لأقوال هؤلاء؛ لأنهم يقولون القول ويقول هؤلاء فيكون الدليل معهم فيرجعون إليهم ويدعون أقوالهم كما يفعل أهل العلم الذين هو أحب إليهم مما سواه، وهذا عكس فرقة أهل التقليد من كل وجه وهذا هو الجواب عن قول مسروق: ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس. (الوجه الأربعون) قولهم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قد سن لكم معاذ فاتبعوه) فعجبًا لمحتج بهذا على تقليد الرجال في دين الله وهل صار ما سنه معاذ سنة إلا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاتبعوه) كما صار الأذان سنة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم وإقراره وشرعه لا بمجرد المنام فإن قيل: فما معنى الحديث؟ قيل: معناه أن معاذًا فعل فعلاً جعله الله لكم سنة وإنما صار سنة لنا حين أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا لأن معاذًا فعله فقط وقد صح عن معاذ أنه قال: كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلة عالم، وجدال منافق بالقرآن؛ فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم. وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب، وأما القرآن فإن له منارًا كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدًا وما لم تعلموه فَكِلُوهُ إلى عالمه، وأما الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح. ومَن لا فليست بنافعته دنياه، فصدع رضي الله عنه بالحق ونهى عن التقليد في كل شيء وأمر باتّباع ظاهر القرآن وأن لا يبالي بمن خالف فيه. وأمر بالتوقف فيما أشكل وهذا كله خلاف طريقة المقلدين. وبالله التوفيق. (الوجه الحادي والأربعون) : قولكم: إن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، فجوابه أن أولي الأمر قد قيل: هم الأمراء. وقيل: هم العلماء. وهما روايتان عن الإمام أحمد والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين وطاعتهم من طاعة الرسول لكن خفي على المقلدين أنهم إنما يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله ورسوله فكان العلماء مبلغين لأمر الرسول، والأمراء منفذين له فحينئذٍ تجب طاعتهم تبعًا لطاعة الله ورسوله. فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثار التقليد عليها. (الوجه الثاني والأربعون) : أن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم وأعظمها إبطالاً للتقليد وذلك من وجوه: أحدها: الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه. الثاني: طاعة رسوله ولا يكون العبد مطيعًا لله ورسوله حتى يكون عالمًا بأمر الله ورسوله ومن أقر على نفسه بأنه ليس من أهل العلم بأوامر الله ورسوله وإنما هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله ألبتة. الثالث: أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة وذكرناه نصًّا عن الأئمة الأربعة وغيرهم وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد وإن لم تكن واجبة بطل الاستدلال. الرابع: أنه سبحانه قال في الآية نفسها: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: ٥٩) ، وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازَع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد. فإن قيل فما هي طاعتهم المختصة بهم؛ إذ لو كانوا إنما يطاعون فيما يخبرون به عن الله ورسوله كانت الطاعة لله ورسوله لا لهم؟ قيل: وهذا هو الحق وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال ولهذا قرنها بطاعة الرسول ولم يعد العامل وأفرد طاعة الرسول وأعاد العامل؛ لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعًا كما يطاع أولو الأمر تبعًا وليس كذلك بل طاعته واجبة استقلالاً كان ما أمر به ونهى عنه في القرآن أو لم يكن. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))