صدر من أنقرة كتاب بالتركية بعنوان (الخلافة والسلطان القومي) يقع في ٧٨ صفحة، هو مجرد من اسم المؤلف واسم المطبعة واسم البلد الذي طبع فيه، ولكن مهما أراد واضعوه أن يتكتموا، فإن موضوعه ومادته وكل شيء فيه يَنُمُّ على حقيقته. وهو مطبوع أجمل طبع على ورق جيد، ومنسق تنسيقًا يشهد لواضعيه بأنهم بذلوا الجهد في التأنق به وإفراغه في القالب الذي أرادوه له. ويرجح أن حكومة المجلس الوطني الكبير هي التي نشرت كتاب (الخلافة والسلطان القومي) تأييدًا لخطتها في هذه المسألة الإسلامية الكبرى، وقد تولت أمر نشره في العالم كله مديرية الاستخبارات؛ لأن ذلك داخل في دائرة اختصاصها، أما أصحاب المعلومات التي تضمنها هذا الكتاب فهم أنفسهم الذين أعدوا للغازي مصطفى كمال باشا المادة الدينية والعلمية من خطبته الشهيرة في الخلافة. يتألف كتاب (الخلافة والسلطان القومي) من مقدمة وفصلين وخاتمة، أما المقدمة ففي اختلاف وجهة نظر الفرق الإسلامية كالخوارج والإمامية والباطنية وغيرها إلى الخلافة، وهل هي ضرورية أم لا؟ وأما الفصل الأول ففي تعريف الخلافة وتقسيمها إلى حقيقية وصورية وفي شروطها وكونها في قريش، وفي أنها من نوع عقود الوكالة، وفي الغاية منها وما يترتب على ذلك من واجبات الخليفة ومسئوليته، وفي الولاية العامة والسلطان القومي. وأما الفصل الثاني ففي التفريق بين السلطة والخلافة وهو بيت القصيد في الكتاب، والفصل كله يدور حول الإقناع بجواز ما صنعته حكومة أنقرة في الخلافة الإسلامية؛ ولأن هذا الفصل هو المقصود من الكتاب فقد جعلت الخاتمة أيضًا في هذا الموضوع لزيادة تأييده. ومما أراد مؤلفو الكتاب إثباته أن الخلافة الإسلامية ليست من مسائل الدين، بل هي مسألة دنيوية وسياسية (ذكروا ذلك في المقدمة ثم في متن الكتاب) . وبعد أن نقلوا عن (شرح المقاصد) تعريف الخلافة بأنها: (رياسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم) ونقلوا عن (المسايرة) لابن الهمام أنها: (استحقاق تصرف عام على المسلمين) قالوا: إن المعنى الذي تدل عليه كلمة (الإمامة) هو المعنى الذي يراد الآن من لفظ (الحكومة) والإسلام ليس فيه رياسة دينية لأحد، حتى إن (مشيخة الإسلام) مما ابتدعه العثمانيون، ولم يكن هناك مقام رسمي ديني في الحكومات الإسلامية السابقة له هذه الصفة من الرياسة الدينية، وغاية ما في الباب أن شيخ الإسلام له صفة الفتوى لا يمتاز عن المفتين في شيء، والمفتي هو العالم وفتواه متى كانت صوابًا صحيحة سواء كانت فتوى رسمية أو غير رسمية. ثم قسم واضعو الكتابِ الخلافةَ إلى حقيقية وصورية، فالخليفة الحقيقي هو الجامع لكل الصفات والشروط المطلوب وجودها في الخليفة، وأن تكون الأمة قد اختارته وبايعته برضاها وإرادتها، وأن يكون - فضلاً عن هذا وذاك - مجردًا من الأغراض الدنيوية والمطامع المختلفة، وأن تكون له على الأمة شفقة الأب على بنيه، وأن لا ينحرف عن الشرع قيد أنملة. والخلاصة أن الخليفة الحقيقي هو الذي يسلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أعماله، فإن لم يكن الخليفة كذلك، أو إذا لم تكن متوفرة فيه شروط الخلافة، أو أن يكون قد نال هذا المقام بالغلبة والقهر، فهو سلطان وليس بخليفة، بل إن السلطة والملك لا يكونان مشروعين إذا قاما على الظلم والاعتساف، فلا يعتبر قضاء القاضي ولا ولاية الوالي إذا كانا منصوبين من إمام أو سلطان جائر. وذكر مؤلفو الكتاب شروط الخلافة، ومنها (أن يكون الخليفة من قريش) أي من أركان القبيلة القرشية، قالوا: وقريش هم بنو النضر بن كنانة الذين منهم النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم بنو هاشم وبنو أمية وبنو العباس فهؤلاء جميعًا من قريش، وذلك مذهب أهل السنة من حنفية وشافعية ومالكية وحنابلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش) وقد قرر ذلك بلسان قطعي وبإطلاق تام أستاذ فقهاء الحنفية وكبير من كبراء فحول علماء تركستان وهو النجم النسفي المعروف بمفتي الثقلين المتوفى في سمرقند عام ٥٣٧ فأثبته في كتابه (العقائد النسفية) الذي يُدَرَّس في جميع المدارس الإسلامية منذ عصور وهو من الكتب المقررة في المدارس الدينية في الآستانة إلى يومنا هذا، لذلك قال العلامة التفتازاني في (شرح العقائد النسفية) : إن الأمر أصبح مشكلاً بعد انقراض الخلافة العباسية لأن الخلافة القرشية قد زالت بزوالها. واستنتج واضعو كتاب (الخلافة والسلطان القومي) من ذلك أنه ما دام واجبًا على المسلمين إقامة الخليفة، وما دام الخليفة لا بد أن يكون من قريش - فإنه من الواجب تحويل ذلك إلى إقامة حكومة فقط؛ لتعذر وجود خليفة جامع للصفات والشروط اللازمة، ولا يكون المسلمون آثمين إذا أقاموا حكومة تحل محل الخلافة ولا حاجة حينئذ إلى أن تكون هذه الحكومة حكومة الخلافة ولا إلى أن يكون رئيسها خليفة (انظر ص ٢٢ من هذا الكتاب) ولذلك لم ينكر العلماء المعاصرون للسلطان سليم الأول على هذا السلطان حمله الخليفة (المتوكل على الله العباسي) على أن يفرغ له الخلافة سنة ٩٢٣ مع أنه فعل ذلك على مرأى منهم في جامع آيا صوفية، ومع ذلك فإن خلافة السلطان سليم الأول خلافة صورية وليست خلافة حقيقية. ولذلك لم يعبأ أحد في العالم الإسلامي بل ولا في جزيرة العرب لادعاء الشريف حسين الخلافة وإعلانه ذلك مع أنه في مكة ومن قريش بل ومن بني هاشم ولم يكد المجلس الوطني الكبير يعلن أنه أجلس في مقام الخلافة حضرة عبد المجيد حتى ارتفع صوت الإجابة والبيعة من جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولو بالقول على الأقل، وعلى ذلك فإن مما يوافق الحكمة حصر المجلس الوطني الكبير الخلافة في آل عثمان. ثم تساءل مؤلفو الكتاب عما إذا كان رجل جامع في نفسه شروط الخلافة أكثر من كل رجل آخر في العالم الإسلامي هل يكون خليفة بنفسه؟ وأجابوا أنه لا يكون خليفة ما لم تخوله الأمة حق التصرف العام عليها، ونقلوا عن الماوردي في (الأحكام السلطانية) أن الخلافة عبارة عن نوع من أنواع العقود فيما بين الأمة الإسلامية والخليفة، فهو من نوع عقود الوكالة، ولذلك كانت العمدة في انعقاد الخلافة إنما هي الشورى، حتى إن البيعة بنفسها تفيد معنى العقد كالبيع والشراء. وللوصول إلى مقام الخلافة طريقان: إما البيعة العامة، أو استخلاف الخليفة ولي عهده، فالأول هو الأصل، والثاني متفرع عنه، بشرط توفر شروط الخلافة فيمن يتولاها في كل من الحالتين، وأما الإرث فلا تجوز الخلافة به؛ لأن الوكالة لا تورث، وذكروا طريقًا ثالثًا لإحراز الخلافة، وهو طريق القهر والغلبة، وذلك لا يكون بطبيعة الحال إلا في الخلافة الصورية دون الحقيقية، فإذا ثار عليه متغلب آخر وغلبه ينعزل الأول بتغلب الثاني. والخليفة لا يملك حق التصرف في أمور المسلمين بما فيه ضررهم أو ضرر أفراد منهم، وإن كان الضرر قليلاً، وتصرفه من هذا القبيل لا يُعَدُّ معتبرًا ولا نافذًا فلو تصرف بشبر من الأرض العامة لغير مصلحة يكون تصرفه لاغيًا. والخلافة ليست معقودة لنفسها بل تكون وسيلة لشيء آخر وهو الحكومة، فالغاية منها توزيع العدل وصيانة الملة، بل تلك هل الغاية من الشرع نفسه، وإنما استفحل ملك الإسلام يوم كان يُنْظَرُ إلى الشرع والإمامة بهذا النظر ثم اضمحل الإسلام وأهله لما انصرفت الإمامة عن واجباتها هذه إلى ما يخالفها، فغرق العالم الإسلامي في جهل كثيف، وتولاه تعصب متعفن، وكانت نتيجة هذا وذاك سقوط الملة الإسلامية في حَمَأَةِ الفقر والسفلة. ومسئولية الخليفة عظيمة، بل ليس في الإسلام فرد مجرد من المسئولية، وقد ورد في الحديث: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته) . أما ما ورد في قانون الدولة العثمانية الأساسي من أن (السلطان مقدس وغير مسئول) فإنما اقتبسه العثمانيون من قوانين أوروبا الأساسية وهو ينافي الشرع الإسلامي كل المنافاة؛ لأنه ليس أحد من الناس مقدسًا في حكم الشريعة الإسلامية، فالمقدس هو الله وحده، وإذا كان في المخلوقات شيء مقدَّس فإنما هي الحقوق؛ لأنها أمانة الله بين يدي من يتولاها، فالإمام إذا عبث بهذه الحقوق وظلم الأمة فهو واقع تحت حكم الحديث الشريف: (أشد الناس عذابًا يوم القيامة إمام جائر) وأما الولاية العامة التي هي للإمام (الخليفة) على المسلمين فإنما هي ولاية تفويض، فإذا خُلع الخليفة أو تخلى عن منصبه سقط عنه حق الولاية العامة، وعاد فردًا كأفراد الناس، وهذا هو معنى السلطان الشعبي تمامًا. وما جاء في الكتب الإسلامية من وجوب نصب الخليفة فإنما نظروا فيه إلى أن الأمة لا يمكنها أن تتولى بجمهورها القيام بمهامها العامة فقضوا بتفويض هذه المهام العامة إلى الإمام أو الخليفة، وهم إنما يريدون أن من الواجب على الأمة الإسلامية ألا تكون بلا حكومة، وهم يقولون في كتبهم: إن المقصد الأصلي من نصب الإمام إنما هو سد الثغور وتجهيز الجيوش وإقامة الحدود وقطع النزاع وفصل الخصومات وإقامة الشعائر الدينية، وهذا الأمر كما يقوم به الإمام العادل المُدَبِّر يمكن أن تقوم به (الحكومة) مهما كان شكلها إذا كانت ذات أنظمة صالحة فالمقصود هو أن لا تضيع حقوق الناس، وأن لا تختل مصالح الملة، فالولاية العامة كما تكون للخليفة تكون للحكومة المنتظمة العادلة. وأخذ مؤلفو الكتاب يبرهنون على صحة غرضهم وهو أن الحكومة تقوم مقام الخلافة؛ لأن الخلافة انقطعت منذ أمد طويل والخلفاء الذين نعرفهم كلهم خلفاء صوريون غير حقيقيين بل إن الخلفاء العباسيين أيضًا كذلك، وجعل مؤلفو الكتاب يردون على العلامة التفتازاني (انظر ص٥١) لقوله في شرح (العقائد النسفية) : (إن أهل الحل والعقد من أئمة الدين اتفقوا على خلافة آل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه) واستدلوا من عدم رضا الإمام أبي حنيفة بتولي وظيفة القضاء أنه كان خارجًا على الخلافة العباسية وغير معترِف بها. ولما انتبهوا إلى ما ثبت في التاريخ من ولاية الإمامين أبي يوسف ومحمد القضاء للخلفاء المهدي والهادي والرشيد، وهذان الإمامان كانا صاحبي أبي حنيفة وعلى أقوالهما قام مذهبه، رجعوا فقالوا: إن ذلك لا يدل على اعترافهما بالخلافة الحقيقية لهؤلاء الخلفاء. ونقلوا عن ابن الهمام في (المسايرة) أن قبول منصب القضاء والولاية من السلطان الظالم الفاسق جائز وصحيح، وقد شحنوا عدة صفحات من كتابهم بانتقاص خلفاء الملة الإسلامية من أقدم الأزمان إلى الآن، ولم يستثنوا غير الخلفاء الراشدين الأربعة وواحدًا أو اثنين آخرين، وسلبوا سائر خلفاء الإسلام كل مزية ليبرهنوا على أن الخلافة يجب أن تُهْمَل، وأن الخليفة يجب أن يُسْلَبَ كل سلطة. ثم قالوا: بما أن الخلافة عقد وكالة، فالأمة لها عند البيعة أن تشترط في الخليفة ما تشاء، فإن قبل فذاك، وإلا بايعت من يقبل شروطها، هذا طريق، وطريق آخر وهو أن يجرد الخليفة من كل شيء ويعهد بوظيفته إلى أشخاص آخرين، قالوا: ولنا قدوة في التاريخ يوم تولى الملوك الإدارة عن الخلفاء وجعلوهم لا يتدخلون في أمر ولا يتولون للأمة عملاً. قالوا (ص ٥٩) : وإن فريقًا من الناس في زماننا يترددون في تجويز تقييد الخليفة إلى هذا الحد الذي تنفصل فيه السلطة عن الخلافة وهم مخطئون في ترددهم، فإن علماء مصر جوزوا ذلك ليس الآن بل قبل ستمائة سنة حيث بايعوا المستنصر بالله العباسي بيعة صورية وكان الحكم والعمل في يد الظاهر بيبرس، وقد أقر ذلك العز بن عبد السلام من كبار علماء الشافعية. قالوا (ص٦٠) : ومعلوم أن علماء الشافعية لا يتساهلون في الأمور الشرعية كما يتساهل الحنفية، ومن الجور أن نقول: إنهم وافقوا سلطان مصر على ذلك رياء فالعز بن عبد السلام من أشد العلماء صلابة في أخلاقه ودينه وتمسكًا بعلمه اهـ.