{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: ٤٦) . أشهد الله وملائكته والصالحين من عباده؛ بأنني سعيت إلى إنفاذ مشروع الدعوة والإرشاد في القسطنطينية، وأنا أعتقد اعتقادًا راسخًا لا زلزال فيه ولا اضطراب؛ أنه أنفع ما يخدم به دين الإسلام في نفسه، وأنه أقرب الطرق لارتقاء المسلمين في دينهم ودنياهم، وأن البلاد العثمانية ستكون هي التي تجني بواكر ثمراته، وأن سيكون من هذه الثمرات ائتلاف الشعوب العثمانية وتعاونها على ترقية البلاد في العلوم والآداب والثروة والعمران، وشدة الاتحاد بالدولة، ومنع الفتن والثورات الداخلية؛ لأن المرشدين للعامة إذا كانوا من العلماء الأتقياء الخطباء، يكون تأثيرهم أقوى من كل تأثير. سعيت إلى إنفاذ المشروع هناك، فرأيت جميع العقلاء، حتى من غير المسلمين متفقين على نفعه وفائدته، وكونه لا يحل محله سواه، حتى إن جريدة صباح ولاتوركي أثنتا عليه وهما لغير المسلمين، ولكن تصدى لمقاومته رجلان من المسلمين أحدهما من رجال الحكومة وجمعية الاتحاد والترقي والآخر من المبعوثين قاوماه في الباطن، وهما يدعيان المساعدة عليه في الظاهر. فأما رجل الحكومة والجمعية فلا أصرح باسمه الآن، ويعرفه جميع أعضاء جمعية العلم والإرشاد التي أسسناها هناك، وأكثر أهل البصيرة في الآستانة من العلماء وغيرهم. وأما المبعوث فهو عبيد الله أفندي مبعوث أزمير، وصاحب الجريدة المسماة بالعرب. أقمت في الآستانة سنة كاملة كما علم قراء المنار، ومعظم أعمالي في مصر معطلة، ثم عدت ولا زال يبلغني من بعض أصحاب الشأن في حكومتها أنهم يريدون تنفيذ المشروع الذي وافقوا عليه فيها، وعن غيرهم أنهم لا يريدون ذلك، وهذا ما حملني على السعي لتنفيذه هنا بأوسع وأكمل مما وافقوني عليه هناك. لا يختلف اثنان في أن أول ما يبدأ به في مثل هذا العمل هو مكاشفة من يرجى منهم القيام به؛ ودعوتهم إلى الاجتماع والتشاور فيه، وهذا ما بدأت به وقبل أن يتم اختيار الأفراد الذين أحببت أن يكونوا هم المؤسسين. قامت جريدة العلم التي هي لسان حال الحزب الوطني بمصر ترجف بالمشروع، وتلبس على الناس أمره، وباتفاق محمد بك فريد رئيس الحزب والشيخ عبد العزيز شاويش رئيس تحرير جريدة العلم على مقاومته، فكان مثل خذلان المسلمين لأنفسهم ولدينهم بمصر والآستانة واحدًا. كانت جريدة العلم زعمت أنه يوجد بمصر جمعية تدعى جمعية الاتحاد العربي غرضها فصل البلاد العربية من الدولة العثمانية، وإقامة خليفة عربي فيها تحت حماية الإنكليز، وأنها تعمل أعلامًا مطرزة لترسلها إلى البلاد العربية، ثم مزجت مشروع الدعوة والإرشاد بتلك الأوهام، وأطلقت القول في ذم العرب. خرق في السياسة وسعاية للإيقاع بين الشعبين الكبيرين المقومين للأمة العثمانية؛ وهما العرب والترك، عن جهل أو علم، فالشعب العربي أكثر عددًا وأوسع بلادًا، وقيمته وقيمة بلاده المعنوية في هذه الدولة أعظم من كل شيء، وهذا الطعن فيه يتضمن الطعن في الدولة نفسها، كما نعلم ذلك من العهد الحميدي المظلم الذي كان يروج فيه مثل هذه السعايات والوشايات الوهمية؛ التي كانت جريدة اللواء ترجف بها. ليس هذا المقام بمقام البحث في هذه المسألة، وإنما ذكرتها لأبين أن جريدة العلم بنت عليها الطعن والإرجاف في مشروع الدعوة والإرشاد، وجعلته تابعًا لها ووسيلة إليها، وهو المشروع المقدس من أدناس السياسة وأهلها المفسدين، وكان المغرور بما أرجف به، كان يتوهم أنه بإرجافه يقضي على هذا المشروع ويقتله وهو جنين حتى لا يطمع أحد في وجوده فيعمل له؛ وفاته أن المخلصين لا يبالون من رماهم بالريبة، وأكل لحومهم بالغيبة، ولا يثنيهم عن عملهم الإفك والبهتان، وإنما يزيدهم ذلك إيمانًا وعزمًا، ويقولون حسبنا الله ونعم الوكيل. وها نحن أولاء نسجل ما كتب في جريدة العلم مع الرد عليه؛ ليكون من مادة تاريخ هذا المشروع الجليل، وللزمان الحكم الفصل في إظهار الحقائق للعالمين، وإبطال أباطيل المبطلين، وإلى الله المصير والعاقبة للمتقين. ((يتبع بمقال تالٍ))