المقالة السادسة عشرة في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل
(النوع الثامن: طاعة الحيوانات والجمادات) استشهد السبكي للأول بحكاية الأسد مع أبي سعيد بن أبي الخير ومع إبراهيم الخواص من قبله، وللثاني بحكاية الشيخ عز الدين بن عبد السلام مع الفرنج. فأما حكاية الأسد فلا أعرفها، وأما حكاية الريح فهي كما في ترجمة الشيخ عز الدين (رحمه الله تعالى) من طبقات السبكي أن الفرنج وصلوا إلى المنصورة في المراكب واستظهروا على المسلمين فنادى الشيخ بأعلى صوته: يا ريح خذيهم، (عدة مرار) فعادت الريح على مراكب الفرنج، وكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثر الفرنج وصرخ من بين المسلمين صارخ: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم رجلاً سخَّر الله تعالى له الريح. أخذ السبكي من هاتين الحكايتين أن الحيوانات والجمادات تطيع الأولياء، وتمتثل أمرهم، وإنما الطاعة عمل بإرادة واختيار يقصد به امتثال أمر المطاع، فهو يبني هذا على قول بعض الصوفية: إن للجمادات حياة وإدراكًا، ولولا ذلك لسمي ما كان من الريح تسخيرًا من الله تعالى كما قال ذلك الصارخ. وتسخير الله الريح لا يستلزم أن يكون بقدرة لا حكمة معها، ولا نظام، بل ذلك مُحال على الحكيم العليم، وإنما يكون ذلك بتوفيق الله تعالى بين أسباب هبوب الريح وأسباب خروج الفرنج كأن يكونوا خرجوا في وقت سبقته أو قارنته حرارة شديدة في هذا الإقليم، فاشتدت حرارة الهواء فصعد إلى الحار منه بتمدده وخفته إلى الجو، فتحرك الهواء لأجل الموازنة فكان عاصفة أغرقت الفلك بمن فيها من الفرنج. ووافق ذلك قول الشيخ تلك الكلمة فعدَّ الحادث كرامة له؛ لأن الله ألهمه ذلك القول في ذلك الوقت. يعلم كثيرون من القراء أن البارجة (فيكتوريا) أعظم بوارج الأسطول الإنكليزي في البحر المتوسط قد غرقت عند دخول الأسطول ميناء طرابُلس الشام منذ بضع سنين أو أكثر، وقد اتفق عند ذلك أن رجلاً من الظرفاء في طرابلس كان مع جماعة في منتزه التل من تلك المدينة يتفرج على الأسطول فقال: إذا تصرفت لكم بهذا الأسطول فأغرقت بعض بوارجه أتشهدون لي بالولاية والكرامة؟ قالوا: كيف لا وأنت أهل للتصريف؟ ! فقال ما معناه أنه تصرف، ولم يمض ِإلا قليل من الوقت حتى رأوا كأن الأسطول قد نقص بارجة فشكّوا في ذلك حتى علموه اليقين. ولو كان ذلك الرجل وسخ الثياب كثير الهذر والدعوى بحيث يعتقد العامة فيه الولاية والبركة لسارت الركبان بأن غرق البارجة كان كرامة له! وأما طاعة الحيوانات فالحكايات فيها كثيرة عند جميع الأمم لما يقع من الحوادث التي يعدها المعتقدون بولاية شخص كرامة له، ولو وقعت بعينها لغيره ممن لا يرونه أهلاً للكرامة لما عدّوها إلا مصادفة لا تتعدى حدود المعتاد، فإن الحيوانات لا تعرف لحركاتها في إقبالها وإدبارها وهجومها على الشيء وانصرافها عنه أسباب مطردة. وقد وقع لكثير من جُوّاب الآفاق أن يصادفوا السباع في بعض الفيافي مقبلة عليهم، ثم لا تلبث أن تنصرف عنهم بغير سبب يعرف. وعدم العلم بالسبب لا ينفي وجود السبب فربما تذكّر السبع في الساعة التي انصرف فيها شيئًا حمله على الانصراف عمن كان يقصده، كأن شم رائحة أو سمع صوتًا من الجهة التي فيها أشباله فخاف عليها عدوان عادٍ. وقد اتفق لفصيلة من العساكر المصرية في السودان أن سارت ليلة مقمرة، فاعترضهم الأسد في الطريق، فذعروا وحاروا لا يدرون ما يصنعون، ولكن الأسد لم يلبث أن زأر وعدا كالسهم، وسمعوا في أثناء ذلك عواء كثير فعلم بعضهم بما سبق له من الاختبار أَنَّ عرجلة من الضباع هجمت على لبؤة ذلك الأسد من شدة الخوف، فشعر بذلك الأسد فذهب لنصرتها. قد علم مما ذكرناه في المسائل أن الحكايات التي يتناقلها الناس لا ثقة بها فمنها الإفك المبين، ومنها جعل ما هو معتاد ليس خارقًا للعادة، ومنها ما يضاف إلى غير سببه، ويعلل بغير علته. ولو شئنا لذكرنا من هذا النوع حكايات كهذه الحكايات أسندها غير المسلمين إلى من يعتقدون لهم الكرامة وعمل العجائب. وإذا جاءنا السبكي أو غيره بحكاية منقولة بالتواتر لا تحتمل التأويل، فإننا نجزم بأنها خارقة، وما كان ينبغي لمثله في العلم أن يقول: إن هبوب الريح وإغراقها للمراكب من خوارق العادات، وما زال الناس في كل زمان يشاهدون مثل ذلك بأعينهم في جميع البحار والأنهار التي تجري فيها السفن. وكلمة الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى لا تجعل المعتاد خارقًا للعادة. فإن قال: إن الكرامة لا يشترط أن تكون خارقة للعادة ومخالفة للسنن الكونية، وإنَّ توفيق الله تعالى بين حوادث الطبيعة ومصلحة المؤمنين عند دعاء بعض الصالحين أو بشارته يصح أن يسمى كرامة لذلك العبد الصالح - فلا منازع له في قوله، ولا معارض له في حكمه؛ لأن التسليم بهذا لا يفسد عقول العامة فيحول دون الاعتقاد بحكمة الله واطراد سننه، ولا يغرهم بالأشخاص فيطلبوا الشيء بغير سببه ومن غير معدنه، وما نريد بالبحث في الخوارق إلا المدافعة عن هذا الاعتقاد، والحرص على إزالة هذا الغرور. * * * (النوعان التاسع والعاشر: طي الزمان ونشره) قال السبكي: وفي تقرير هذين القسمين عسر على الأفهام، وتسليمه لأهله أَوْلَى بِديِن الإيمان، والحكايات فيهما كثيرة: أقول: يريدون بطي الزمان أن تمضي الأيام الكثيرة على المرء، ولا يشعر بمرورها، فيمر الشهر عليه كأنه يوم أو بعض يوم. ويعنون بنشر الزمان: أن تكون الساعة الواحدة كالسنين الطويلة. ومن الحكايات التي استحيا السبكي من سردها أن بعضهم أحدث وهو في المسجد الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب، فوضع بعضهم عليه عباءته وقال: اذهب فتوضأ فذهب إلى مكة فتوضأ ثم عاد! والإمام يخطب ومنهم من رأى نفسه في مثل هذه الحالة في بلاد فمكث فيها عدة سنين وتزوج ورُزق بأولاد، ثم عاد فرأى الناس في مجلسهم الذي فارقهم فيه. وهم يزعمون أن مثل هذا واقع حقيقة لا تخيّلاً، ولذلك قال: إن في تقريره عسرًا , وأي الخوارق قرر فكانت قريبة من الفهم، سهلة القبول في نظر العقل؟ ويا ليته قرر ما عنده، ولم يذكر (دين الإيمان) فيما لم يرد في كتاب ولا سنة، وما أرى عنده إلا التسليم والتقليد. ويا ليت شعري ما هي الفائدة للأمة - التي يشترطها السبكي لإظهار الكرامة - في هذين النوعين. على أن هذا شيء لا يظهر لأنه لا يقع وإنما ادعي ادعاءً بلا بينة ولا برهان، فيكف جاز لهم ادعاؤه وأمر الكرامة مبني - كما قال - على الكتمان؟ قالوا وأكثروا فإذا كان العقل والدين يقضيان بأن لا يصدق المرء بكل ما يسمع وأن عليه أن يتثبَّت في الأخبار التي تسند إلى الحس، ويستشهد فيها الناس فكيف يسلم العاقل بما هو غريب عن العقل والعادة، ولا حجة على قول مدعيه إلا نفس دعواه فقوله هو الدليل وهو المدلول. رأى الدجالون أن الناس يسلمون لمدعي الولاية بالتظاهر بالصلاح كل ما يقول، فطفقوا يدعون كل ما يخطر ببالهم، وقد كان العلماء يفندون أقوالهم فصاروا في مقدمة الخاضعين لهم المسلِّمين بكل ما يقولون. فإن كان في أهل الصدق من قال بطي الزمان ونشر الزمان، فلا نظنه يعني به أن ذلك قد وقع حقيقة في عالم الحس، وإنما يعنون - والله أعلم - ما يكون لهم من الأحوال التي يغيبون فيها عن الحس ويطيرون في جو الخيال، ويجولون في عالم المثال، فيكونون أيقاظًا وكأنهم في منام، فأما طي الزمان فغيبة تامة، وأما نشره فرؤى وأحلام، وقد يسمى القوم التصور تطورًا، والأحوال النفسية عوالم غيبية، وإذا صح أن الأرواح تتجرد قبل الموت كما يقولون، وتكون في عالم وسط بين عالم الملك وعالم الملكوت، فمن الحماقة أن يحدث الناس كافة بشيء يفوق إدراكهم، ويعلو على أفهامهم، وليس فيه من الفائدة إلا أنه فتنة لهم، ولو لم يدخلوه في الدين لكانت الفتنة أهون، بل لكان فيه فائدة للخواص؛ لأنهم يجتهدون في كشف حقيقة هذا الأمر، فإن كانت هناك عوالم حقيقية، طريقها الرياضة الروحانية، يسلكون إليها طريقها، ويدخلون عليها من بابها، ولكنهم الآن يقولون: إنَّ هذا من خوارق العادات، وإنَّه لا يكون إلا بالخصائص والعنايات، وهذا السبكي أحد علماء الأصول يقول فوق ذلك: إنَّه يعلو الأفهام، وإنَّ التسليم به أولى في دين الإيمان وشريعة الإسلام، والعامة من ورائه تستخذي لمدعي هذه الكرامات، وتنظم تعظيمهم في سلك العبادات، وتطلب منهم ما لا يُطلب إلا من الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ((يتبع بمقال تالٍ))