{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} (يس: ١٢) . مات السيد رشيد رضا، فمات بموته المنار، ونعاه الناعون مع نعيه، وأبَّنه المؤبنون في حفلة تأبينه، واقترن الأسى على حرمان المسلمين من المنار، بالأسى على منشئ المنار، وقد مضى أربع سنين خفت فيها ذلك الصوت المدوي الذي كان يملأ طباق الأرض، وخبا النور الذي كان يشع في الشرق والغرب، أربع سنين عسعس ليلها، وحار دليلها، ومل حذاقها، حتى إذا استيئس الركب، وظنوا أنهم قد أحيط بهم، لمع لهم نور (المنار) من مشرق جديد، يبدد الظُّلَم، ويكشف الغمم، ويشفي صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيط قلوبهم. ولقد طالما قال القائلون إن أعمال المسلمين يقضى عليها بالفشل، تموت بموت أصحابها فلا تحس لها وجودًا، ولا تسمع لها ركزًا، مات (المؤيد) بموت الشيخ علي يوسف، ومات أمين الرافعي فماتت (الأخبار) بموته، ومات السيد رشيد فوُدع المنار يوم وداعه، ومات صاحب (الأهرام) فهل أثر موته في انتشار الأهرام؟ ومات جورجي زيدان منشئ (الهلال) فلم يحُل موته دون ذيوعه واطراد نموه، ومات الدكتور صروف أحد أصحاب المقطم والمقتطف فلم يفتَّ الوهن في عضد شريكه، وظل في مده وفراهته. ألا فليطمئن هؤلاء بالاً، فقد شذت القاعدة، وانخرقت العادة، وانبعث (المنار) من مرقده، وعاد إلى الظهور وضَّاح المحيَّا، باسِم الثغر، يستأنف جهاده ويتمم رسالته، ويحتضنه جماعة الإخوان المسلمين المنبثين في العالم الإسلامي بحرارة إيمانهم، ودافع غيرتهم، متكئين على ماضي (المنار) المجيد وسمعته الغراء، مترسمين خطا منشئه العظيم في إخلاصه وبلائه، وصبره وأناته، مغترفين من فيض حكمته، مقتبسين من أنوار معارفه؛ فلقد كان - رحمة الله عليه- أمة وحده، وكان حجة من حجج الله على عباده، حتى لقد أتعب من بعده، وظل الفراغ شاغرًا فلم نجد من يسد مسده، وأحجم كل من تقدمنا إليهم في المعاونة على استمرار (المنار) ، معتذرين بعظم المسئولية، وعدم استكمال الأدوات، يستوي في ذلك علماء مصر الأعلام، وغيرهم من علماء الإسلام، وأذكر هنا كلمة المرحوم الشيخ حسين والي - من كبار علماء الأزهر المشهورين - التي قالها لنا أيام المأتم ونحن نتذاكر الأمر: (إيتوني برجل اجتمع فيه علم السيد رشيد وصلاحه، وإخلاصه، وصبره، وثقة العالم الإسلامي به، وأنا أضمن لكم استمرار المنار) . وقال نحو ذلك الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار، وكان الذين يتمنون هذه الأمنية، إنما قصارى أمنيتهم أن يكون المنار الجديد صدى المنار القديم، حتى لا يسكت ذلك الصوت الصارخ، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة. ولا شك أن المؤمنين سيفرحون بنصر الفكرة، وتحقيق الأمنية، وسيتقبلون المنار بقبول حسن، وسيرحبون بمبادئ الإسلام الصحيحة قبل أن تتناولها أيدي التحريف، وتلعب بها رياح التضليل، وسيحملهم ذلك الحرص على الرجوع إلى مجلدات المنار القديمة، بل الرياض النضيرة، يتفيئون ظلالها. ويقطفون ثمارها، وإن جناها لدانٍ، وإنه لمستساغ في اللها. ولما كان المنار الجديد سيعرف قراء جديدين، وستتناوله أيدٍ جديدة، وسينضم له أعضاء جدد، كان من المستحسن أن نقدم لهم ترجمة مختصرة عن صاحب المنار: نشأته، وإصلاحه، وآثاره، وسائر ما يتصل بذلك؛ لتكون نورًا بين يدي القراء، فإلى اللقاء. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل