للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عن جريدة الأفكار العربية


الحق والقوة [*]
وبحث فلسفي عنهما بمناسبة الحرب الحاضرة ...
أو: درس ضروري لنا نحن السوريين خصوصًا
والشرقيين عمومًا

الجنرال فون برنهاردي قائد مجرب، له مكانة سامية في الجيش الألماني،
كما أنه عالم طبيعي شهير له مصنفات شتى في علم الأحياء (بيولوجيا) يُرْجَع
إليها، ويُسْتَقَى منها، وقد أصدر هذا الجنرال كتابًا في سنة ١٩١٣ دعاه (المنطق
والمبادئ في الحروب) ضمنه آراءه في الحرب، ووجوب الالتجاء إليها عادًّا إياها
فضيلة، فكان هذا المؤلَّف موضوع الأحاديث في الأندية العلمية والسياسية في
العالم بأسره، وزادت أهميته بعد إعلان الحرب الكبرى الحاضرة؛ لأن كثيرًا
من الأعمال الألمانية فيها أتت مصداقًا لما ورد في ذلك الكتاب - كأن أركان حرب
ألمانية كلهم هم الذين أنشأوه لا فردًا واحدًا من قوادهم.
ولما أكثرت المجلات العلمية والسياسية من البحث في هذا الكتاب، وتعاليمه
تصدت مجلة القرن التاسع عشر الشهيرة لنقده، فنشرت مقالة بليغة مسهبة في
عددها الأخير عنوانها " الحق والقوة " أردنا تعريبها والتعليق عليها؛ لأننا نحن
الشرقيين صرنا أحوج أمم الأرض إلى تعاليم الجنرال فون برنهاردي، وأشدهم
افتقارًا إلى من يذيعها بيننا، بعد أن شبعنا من التعاليم الأكليريكية، والمبادئ
الخيالية التي أذلتنا، وغيرنا عزَّ، وأفقرتنا، وغيرنا اغتنى، وأضعفتنا، وغيرنا
قوي وأفلح.
قالت مجلة القرن التاسع عشر:
اشتهر كتاب الجنرال فون برنهاردي الأخير لأنه لم يتضمن أبحاثًا سياسية
فقط، بل تضمن أيضًا أبحاثا فلسفية، وعمرانية، واجتماعية، تشهد له بالجرأة،
وطول الباع، وإننا في نقدنا فلسفةَ الاجتماع، ومبادئها الواردة في ذلك الكتاب
نحصر كلامنا فيما له علاقة بالحرب الحاضرة من تلك المبادئ، وأيضًا لما نحن
بصدده الآن ننشر أولاً أهم تلك التعاليم التي نرى برنهاردي يبشر بها وهي
مقتطفات من كتابه الآنف الذكر:
١- تنازع البقاء:
قال: إن التنازع لأجل البقاء هو الناموس الأولي الذي لا مفر منه،لا في المجتمع الإنساني فقط، بل في العالم الحيواني بأسره، وبموجب هذا الناموس لا
يمكن إحراز النجاح والارتقاء من دون استئصال العضو الضعيف من المجتمع
فالضعيف - إذن - يجب أن يهلك ويفنى. بيد أن المجتمع البشري يختلف عن
غيره من المجتمعات الحيوانية في أن الإنسان له حياة فردية، وحياة عمومية معًا،
وهذه الأخيرة مرتبطة بالوطن الذي ينتمي الفرد إليه، ولذلك فإن ناموس تنازع
البقاء وبقاء الأنسب لا ينطبق تمام الانطباق على الإنسان، كما ينطبق على الحيوان؛
لأن الواحد من الحيوان لا ينظر إلا إلى مصلحته الخاصة فقط، أما الفرد البشري
- المرتبط بمجموع الأمة المنتمي هو إليها - فعليه نوع من المسؤولية نحو تلك
الأمة من حيث هي مجموع منتظم، والأمة - وهي مجموع أفراد - لا حياة لها إلا
بالتنازع أيضًا؛ ولكنها في هذا الجهاد يجب أن تلتجئ إلى نظام موافق، أو شريعة
عادلة تسري على الكل من دون تمييز، حتى إذا تعارضت مصلحة الفرد ومصلحة
الأمة، كان على الفرد أن يضحي بمصلحته الخاصة إذا اقتضت المصلحة العمومية
تضحيتها [١] أي أن المنفعة الشخصية يجب أن تضحي على مذبح المنفعة العمومية
عند الحاجة، وفي الهيئات الراقية المنظمة.
٢- القوة المحسوسة واجبة لحفظ المجتمع:
هذا من النظرة الشخصية الفردية، أما من النظرة العمومية فالمسألة فيها نظر
لأن الأمة الواحدة في أثناء معاملاتها مع سائر الأمم لا يجوز لها أن تسير بموجب
المبدأ الآنف الذكر، أي مبدأ تضحية الواحد لأجل الخير العام عند الحاجة إلى ذلك
بل يجب على الأمة كمجموع منظم أن تفسر الحق والعدالة تفسيرًا آخر يلائم
مصلحتها كما سترى.
لا يمكن تنظيم أمة ما لم يجتمع عدد كبير من أفراد تلك الأمة تحت لواء
المصلحة المشتركة بينهم، ومن العبث اجتماع البشر كلهم في أمة واحدة تحت نظام
واحد؛ لأن هذه النظرية لا يمكن تطبيقها. وتأليف أمم صغيرة ضعيفة غير
مستحيل غير أن حالة مثل هذه الأمم الصغيرة تستوجب الشفقة؛ لأن وجودها
مخالف للناموس الطبيعي، أي أن ليس لها حق الوجود، ودونك البرهان الحسي
العملي المعقول:
المقدمة المنطقية الأولى: إن البشر مضطرون بحكم نمو عددهم المضطرد
إلى تأليف جماعات طبقًا لناموس التعاون؛ ولكن هذه الجماعات تكون متباينة لا في
الكمية فقط، بل في الكيفية أيضًا.
المقدمة المنطقية الثانية: إن اختلاف العناصر، وعوامل الإقليم، والمناخ
وجدت منذ الأزل، وسوف تبقى بحكم الطبع إلى الأبد.
النتيجة المنطقية الثابتة: لذلك وجب تباين الأمم بعددها، وأنواعها؛ بسبب
تباين الأجناس، والألوان، والأخلاق، والعوامل الطبيعية من جيوغرافية وغيرها
من العوامل الخارجية، أي أنه وجب وجود أمم ضعيفة بين أمم قوية بحكم الطبع.
ولما كان ناموس تنازع البقاء - وهو ناموس طبيعي ثابت - يجبر الأمم على
حفظ كيانها، وعلى تقوية ذلك الكيان على حساب الضعيف من جيرانها [٢] ، كان
من الضروري وجود ذلك التنازع بين الأمم الضعيفة، والأمم القوية، لذلك قلت
إن الأمم الضعيفة تستوجب الشفقة؛ لأنه لا حق لها بالوجود - ومن المستحيل
دوام وجودها، وهي عرضة لخطر الاضمحلال في كل حين بسبب التنازع
الطبيعي بينها، وبين القوي من جيرانها، ولا بد للقوي من استعمال قوته، وهذا
الاستعمال هو الحرب بأبسط معانيه، وأقول - بعبارة أوضح -: إن كل أمة يجب
أن تعتمد على القوة، على القوة وحدها، في أثناء معاملاتها العمومية مع سائر
الأمم، وإلا كانت أمة ضعيفة عرضة للفناء في كل حين.
انتقد الفيلسوف التلياني ماشيافللي مثل هذا التعليم بحجة أنه يرمي إلى اعتبار
القوة غاية الوجود لا واسطته؛ ولكن غاية الوجود (هي حماية مصالح الفرد،
وترقيتها حتى يصل إلى الدرجة المطلوبة من السعادة، والكمال) وهذه لا يمكن
الحصول عليها من دون مساعدة الأمة، والأمة لا يمكن أن تقوم بالحماية والترقية
ما لم تكن قوية، وقوتها لا تأتي إلا من حصر محبة بنيها لها وحدها أولاً، وإلا
فإنني لا أفهم كيف أن زيدا يحب خير العالم أجمع، وهو لا يحب خير أمته،
ووطنه، وجنسه، وعائلاته أولاً. فالواجب الإنساني إذن يقضي على المرء بمحبة
جنسه أولاً.
إذن أرى أن الناموس المسيحي القائل بالمحبة، والإحسان، والغيرية هو
أشرف ناموس في الكون؛ لكنه وُضِعَ لأجل العلاقات الفردية في الأمة الواحدة فقط
ولا يمكن تعميمه على الإنسان والإنسانية؛ لأن التعميم مخالف للنواميس الطبيعية
الثابتة، والتخصيص أولى، إذ إن الذي لا يحب أخاه القريب، لا يقدر على أن
يحب البعيد الغريب، وعلى هذا الرسول بولس ذاته فيلسوف الكنيسة المسيحية،
وواضع أهم تعاليمها.
٣ - فلسفة العدالة في المعاهدات والحروب:
ليست الحرب مقتصرة على اقتتال الجيوش فقط، بل الحرب اصطلاح
سياسي يعني وجود أمة تنازع أمة أخرى، سواء كان باستخدام السلاح، أو
باستخدام السياسة، والحروب السياسية تعنى مضايقة فريق لفريق آخر بواسطة
المعاهدات التجارية، أو المعاملات الاقتصادية من صناعية، وتجارية، وزراعية،
وما أشبه. وإذا لم يذعن أحد الفريقين للآخر بحرب السياسة يصير الالتجاء إلى
السلاح أمرًا لازمًا، غير أن مسؤولية رجال الحكومة في أثناء الحروب السياسية
تقضي عليهم بالمحافظة على مصالح الشعب، وإنماء ثروته، هذه هي الغاية الأولى
لهم. أما الواسطة فخاضعة لحكم الظروف، فإذا كانت الظروف تحوجهم إلى
إطراح المبادئ النظرية الأدبية جانبًا، فلهم ذلك لأنهم بهذا الانحراف يخدمون
المصلحة العمومية لا المصلحة الفردية، وإذا رأوا الخطر محدقًا بالشعب فعليهم
مباغتة العدو، والغدر به قبل أن يتم معداته حتى يقضوا على قواه الهجومية
والدفاعية، ويأمنوا شر تَنَازُعِه إياهم منافع البلاد، وثمار أراضيها، ومعاملها،
وهذا لا يأتي إلا بإنماء القوة المحسوسة وازديادها، ولذلك كانت القوة مظهرًا من
مظاهر العدالة؛ لأن الحروب عدل، وبها وحدها تَثْبُت العدالة على أساس متين.
وبرهانًا لذلك أقول:
لنفرض أن أمة إبان ضعفها خضعت بحكم السيف إلى جارها القوي، وسلمت
معه بشروط مكتتبة على ورق سموها معاهدة، ولنفرض أن تلك الأمة الصغيرة
صارت قوية على تمادي السنين فرأت أن تلك الشروط التي كانت قد رضيت بها
أولاً في أيام ضعفها صارت ثقيلة عليها، تضر بمصالح الشعب في أيام قوتها.
فالشعب في هذه الحالة الأخيرة صار يرى ذاته مغدورًا مغبونًا، وإذا هب
إلى تمزيق المعاهدة الأولى المجحفة بحقوقه فعمله هذا هو العدل بعينه، ولا يمكن
أن ترضى العدالة المجردة بغبن شعب كامل وغدره، ليس ذلك فقط بل إننا لا نقدر
أن ندعو الإذعان لشروط مجحفة عدالة وفضيلة، بل إن العدالة تقضي بتمزيق
المعاهدة المضرة الجائرة بواسطة المفاوضات السياسية أولاً التي أدعوها حربًا بطيئة
كامنة؛ فإذا نجحت فيه، وإلا فاستعمال السيف، والمدفع يصبح أمرًا واجبًا - ولا
يمكن أن يوجد الحق ويثبت ما لم يكن مُؤَيَّدًا بالسيف، ومدعومًا بالمدفع وقوة الساعد،
ولذلك كانت الحرب فضيلة. أي أن الحرب أمر ضروري للمجتمع الإنساني؛ لأنه
رمز العدالة، ومنشئ الشجاعة والجرأة في الأمة، ورفيق الحق والمطالبين به،
وإذا تُرِكَت الحرب تجبن الأمة عن المطالبة بحقوقها؛ فتبقى مغبونة مقهورة
ذليلة، ومثلها لا يثبت في ميدان تنازع البقاء؛ لأن ناموس بقاء الأنسب يقضي
عليها إن عاجلاً أو آجلاً، والأنسب هو الأقوى في كل حال.
هذه هي زبدة تعاليم الجنرال فون برنهاردي المدونة في كتابه الجديد (المنطق
والمبادئ في الحروب) ودونك مجمل الانتقاد العلمي الفلسفي البديع الذي نشرته
مجلة القرن التاسع عشر الطائرة الصيت في عددها الأخير قالت:
تعليق مجلة القرن الـ ١٩ على الكتاب الألماني:
ليس الجنرال فون برنهاردي وحده القائل هذا القول، ولا هو من وضع هذه
الفلسفة، أي فلسفة القوة والاعتماد عليها وحدها لأجل تثبيت الحق والعدالة، بل إننا
إذا أمعنا النظر، نرى أن معظم علماء الألمان وفلاسفتهم قالوا بهذا الرأي ونشروا
مثل هذه التعاليم من أرنست هكل العالم الطبيعي المعروف زميل شارلس دارون إلى
نياتش المادي الشهير، وغيرهما كثير، وليس من العدل والإنصاف أن نقلل من
أهمية هذه التعاليم لمجرد أنها صادرة عن أعدائنا؛ فإن (العلم مشاع بين جميع الأمم
وليس لوطنه حدود) فلندرس إذا مبادئ الجنرال برنهاردي، وتعاليمه بكل نزاهة
ولنمحصها في بوتقة التحري بقطع النظر عن قائلها.
قال أرسطو الفيلسوف اليوناني القديم: إن الفضيلة هي الوسط بين متضادين،
أي أن الشجاعة مثلاً هي فضيلة لأنها وسط بين الجبن والتهور، فالجبن رذيلة
لأنه دليل الذل، وصغر النفس، والتهور رذيلة أيضًا؛ لأنه دليل الحماقة والكبرياء
وكل هذه العيوب الأخلاقية تدل على وجود مرض بعقل المصابين بها،
وخصوصًا الغرور والكبرياء [٣] ، وقس على ذلك الصدق، والكذب، والحق،
والباطل، وما أشبه ذلك من المتضادات.
وكم ضل أفاضل من الرجال سواء السبيل؛ لأنهم اتخذوا التطرف ديدنًا لهم
فكانوا بإهمالهم الصدق مثلاً يكذبون، وهم لا يدرون، وبتطرفهم بالتمسك بالحق -
حسب اعتقادهم - يخدمون الباطل وهم لا يقصدون، والحقيقة أن تعاليم الجنرال
برنهاردي مطابقة تمام المطابقة لتعاليم أرسطوطاليس كبير الفلاسفة، لولا ما بها من
تجسيم يبلغ حد الغلو أحيانًا فضلاً عن خلوها من رابط متين يربط الحق بالقوة كما
سترى.
***
(٢)
إن الأساس الذي بنى عليه الجنرال برنهاردي كتابه هو التعليم القديم القائل إن
(الحق للقوة) ، والدعامة التي دعم بها ذلك الأساس هو تعليمه القائل بأن كل الآراء
المتعلقة بالحياة الاجتماعية والسياسية تكون آراء مضرة إذا تجاهلت كون الحق للقوة؛
لأنها أي الآراء ليست في هذا التجاهل سوى رياء وتضليل.
وبموجب تعاليم برنهاردي يكون الاشتراكيون مرائين، ويكون الراديكاليون
المتطرفون أكثر رياء وخداعًا، ليس ذلك فقط بل إن كل الفلاسفة الذين يخالفون
مذهب دارون القائل ببقاء الأنسب بعد التنازع لأجل البقاء، قد أضروا الهيئة
الاجتماعية؛ لأنهم دلوها على التواكل والاستسلام، وعلموها الحيلة والرياء،
وأبعدوها عن القوة - وهي الفضيلة المقدسة التي هي أساس كل الفضائل.
وللجنرال برنهاردي فضل عظيم في أنه شرح هذه التعاليم العملية، وحاول
تطبيقها على حالة أوربا السياسية الحاضرة، ولا شك في أنه صادق فيما يقول عن
القوة وتقديسها - تلك القوة التي صار الشعب الإنكليزي - تذكر أن الكاتب عالم
إنكليزي - يستخف بها، وينسبها إلى قبائل الزولوس المتوحشة حتى أنه أصبح في
الآونة الأخيرة يبالغ في تحقيرها وتحقير كل أمة تعتمد عليها؛ ولكن لما نشبت
الحرب الحاضرة أدرك الشعب خطأه وعلم أن من دون الاعتماد على القوة خطر
الغزوة الألمانية، وبالتالي خطر فناء إنكلترة من العائلة السياسية الكبرى.
ولا جدال في أن القوي تغلب يومًا على الضعيف جاره، واحتفظ بمركزه
المتفوق بالقوة الوحشية، وهذا ينطبق على الأمم كما على الأفراد، ولا جدال أيضًا
في أن كل حكومة راقية تضمن لأبنائها المتفردين بالقوة أفضل المراكز ولو على
حساب المجموع؛ لأن مجموع الأمة يستفيد منهم، وكما أن الأم يجب أن تكون قوية
جدًّا، حتى تتمكن من الاعتناء بطفلها الضعيف، كذلك يجب على رَجُلها أن يضمن
لها التقوية محافظة عليها، وعلى صغيرها. هذا الشطر الأول من كتاب برنهاردي،
وأظن أن الأندية العلمية والسياسية عندنا سَلَّمت بصحته فورًا.
أما الشطر الثاني الذي أقام العلماء وأقعدها، فهو كلام ذلك الجنرال الألماني
عن علاقة الأمة الواحدة بغيرها من الأمم الأخرى؛ فإن ذلك الكلام يقرر أن أفراد
الأمة الواحدة يجب عليهم التضامن، والتكاتف، وتبادل الصدق، والولاء،
والعطف، والمحبة بعضهم مع بعض فقط حسبما ورد في مثل الزوج والزوجة
ومسؤوليتهما نحو طفلهما الضعيف، أما في علاقة الشعب بغيره من الشعوب
القريبة فالجنرال برنهاردي يقول بصراحة: إن لا رحمة، ولا شفقة، بل ويل
للضعيف في تنازع البقاء؛ لأن القوة وحدها هي الحَكَم الأخير في العلاقات
العمومية، وبقاء الأنسب يقضي بانقراض الضعيف، إن لم يكن اليوم فغدًا.
وبجملة أوضح أقول: إن أركان حرب ألمانية يقولون بالحق، والعدالة،
والرحمة بين أبناء العائلة السياسية الواحدة؛ ولكن يقولون بمعاملة الغريب على
قاعدة بقاء الأنسب - أي على قاعدة الحق للقوة، وعند درس هذا المذهب بنزاهة
وإنصاف نرى أنه ليس مذهبًا جديدًا، ولا مخالفًا لما نراه جاريًا في الكون، سواء
أردنا ذلك أم لم نرده، إذن لا أرى أن الذين خطَّئُوا برنهاردي هم من القوم
المصيبين المنصفين [٤] .
نعم إن عندنا شرائع تضمن العدالة، وتجبر الحكومة على إجرائها حفظًا
لحقوق الضعيف من جاره القوي؛ ولكن هذه الشرائع، وتلك العدالة تسري على
أبناء الأمة الواحدة فقط، أما على غيرنا من الأمم والحكومات فمن ينكر أننا لا
نعاملهم بما يعامل به بعضنا بعضًا، إن نكران هذا الأمر هو الرياء بعينه، وهذا
هو مبدأ برنهاردي أيضًا، وهاك نص إحدى عباراته حرفيًّا بهذا الصدد قال:
(لا يوجد في الكون حكومة تُجْرِي على غيرها من الحكومات ذات القوانين
وذات النوع من العدالة الذي تجريه على أفرادها هي، كذلك ليس من الواجب على
أي حكومة أن تعتني بالغريب، وتعطف عليه وتساعده؛ لكن من أوجب الواجب
عليها الإعتناء بأولادها، وتقوية الضعفاء منهم فقط، وإجراء العدالة بتمام النزاهة
والتدقيق بين المتخاصمين منهم وحدهم، وإذا قلنا: إن محكمة دولية عمومية يجب أن
تنشأ لأجل فض الخلافات بين الدول على مبدأ الحق والعدالة المجردة، نعود
ونرجع إلى القوة الوحشية المحسوسة لأجل تأييدها، وإليك البرهان:
(هب أن خلافًا نشب بين أمتين، أو أكثر، ورُفِعَ أمره إلى تلك المحكمة
الدولية العمومية العليا (الموهومة) ، وهذه بموجب الحق، والعدالة المجردة
أصدرت حكمها ضد الأمة القوية المتعدية، ورفضت تلك الأمة القوية أن تخضع
لحكم المحكمة العادل، فماذا علينا أن نفعل؟ علينا أن نلتجئ إلى جيش قوي جدًّا
يرغم تلك الأمة القوية على قبول حكم المحكمة العليا وتنفيذه، وإلا كانت العدالة،
والحق، والحكم حبرًا على ورق من الوجهة العملية، ولما لم يكن تنظيم جيش
عمومي ممكنا، كان من المستحيل - إذن - إجراء الحق بين الأمم المتباينة في
العدد والقوة إجراء فعليًّا، كما يجري في الأمة الواحدة التي لها من قوة جندها ما
يجعل الحق نافذًا، والعدالة المجردة ممكنة - ولكن بين أفرادها فقط، ومجمل القول
أن الناموس الطبيعي المعقول هكذا يأمر، أي أن العدالة المجردة يجب أن تجري؛
ولكن بين أبناء الأمة الواحدة فقط؛ لأن ذلك ضروري لحفظ كيانها ولتقويتها، أما
مع الأمم الأخرى فالحق للقوة في كل حال، وويل للضعيف والمستضعف [٥] .
***
الاستعمار
تنازع ألمانية وإنكلترة بسببه
بعد هذا يوضح الجنرال برنهاردي مسألة الاستعمار بقوله: إن كل أمة قوية
لا بد لها يومًا من طلب التوسع في أملاكها؛ لأن أفرادها المتزايد عددهم يحتاجون
أولاً إلى المواد الغذائية، وثانيًا إلى المواد الأصلية في الصناعة حاجة تزيد بالنسبة
إلى عددهم المتكاثر، وهذه لا يجدونها إلا في الخارج، وإذا زادت مصنوعاتهم
تراهم يضطرون إلى إيجاد أسواق جديدة لأجل تصريفها - أي إلى إيجاد مستعمرات،
فالمستعمرات - إذن - من لوازم الأمم الراقية.
والاستعمار يتم بطرق ثلاث:
(١) المهاجرة واختلاط المهاجرين تدريجًا مع السكان الأصليين، والامتزاج
بهم امتزاجًا سلميَّا، حتى يتغلبوا عليهم بفضل تفوقهم على الوطنيين بالقوى
البدنية، والعقلية، والأخلاقية.
(٢) بإنشاء مستعمرات منظمة في بلاد أهلها من نصف المتمدنين، أو من
غير المتمدنين، وامتلاك مثل هذه المستعمرات غير صعب البتة.
(٣) بالحرب، واغتصاب المستعمرات من أيدي أهليها عنوة، إذا كان
أولئك الأهلون على جانب من المنعة، والتمدن، وهذه الطرق الثلاث تُدْعَى
المهاجرة، والاستعمار، والاغتصاب، وهي لا تتم إلا باستعمال القوة في إحدى
مظاهرها، وبمعاملة سكان البلاد الأصليين حسب ناموس تنازع البقاء، لا حسب
الحق، والعدالة.
والحق كل الحق مع الجنرال برنهاردي في هذا التصريح، لأن كل أمة قوية
استملكت بلادها وبلاد غيرها بقوة السيف يومًا، لم تعامل الأهلين الأصليين قط
بالمساواة، والعدالة، كما يَدَّعُون، وليس في هذه التعاليم شيء جديد كما قلت آنفًا؛
ولكن الذي زادها أهمية هو اشتباك ألمانيا منفذة هذه المبادئ بحرب كبرى مع
غيرها من الأمم، ووجود حزب قوي عندنا (أي في إنكلترا) شعاره (السلم مهما
كلفه الأمر) ، ومذهبه هو أن الذي يأخذ بالسيف بالسيف يؤخذ، وسها عن بال هذا
الحزب المتخنث أن الذي لا سيف عنده يكون أول من يسقط بسيف الغير، وخصوصًا
في هذه الأيام، أيام المنازعات، والمناظرات، والمسابقات الهائلة.
ولا أصدق من كلام الجنرال برنهاردي عن السوسياليست والراديكاليين
(الاشتراكيين والمتطرفين) الذين يزعمون أن الحكومة ليست سوى شركة ضمانة
عملها توزيع المنافع، والمرافق بالسواء - أن هذه الآراء لا يمكن العمل بموجبها
أبدًا؛ لأنها آراء نظرية بحتة، وكل أمة تسير بموجبها تضعف؛ فتنحط وتفنى على
تمادي الأجيال، والشواهد العديدة التي اقتبسها برنهاردي من دارون وكنت وهكل
وفشت وشلر وغوث تؤيد هذا المذهب، وحبذا لو أنه ذكر اسم كروب ومدافعه
أيضًا، حتى يصير الاقتباس تامًّا؛ لأن كروب واختراعاته لا تقل أهمية عن تعاليم
أولئك الفلاسفة.
***
فضائل الحرب
نقد برنهاردي
إنني من المعجبين بتصريح برنهاردي القائل: إن للحرب فضيلتين هما
الشجاعة والعدالة، فالشجاعة فضيلة لأنها رائد الاستقلال، والعدالة فضيلة لأنها رائد
الصدق، والصدق رفيق القوي دائمًا؛ ولكن العدالة والصدق يجب أن ينحصرا مع
الغرباء، وبين الأمم الأخرى، فللقوة المركز الأول دائمًا، وكل من يقول بخلاف
ذلك فهو خادع أو مخدوع.
إلى هنا انتهى إعجابي بالتعاليم العملية التي دونها الجنرال برنهاردي في كتابه
الأخير؛ ولكن موضوعًا اجتماعيًّا فلسفيًّا كهذا لا يخلو من التعقيد والصعوبة لذلك لا
ألوم برنهاردي إذا رأيته يناقض نفسه في بعض الأحايين، ويخلط في تدوين
المبادئ وشرحها في البعض الآخر.
فمن جملة المتناقضات في تعاليمه عدم شفقته على الأمم الضعيفة حالة كونه لم
يضمن لنا طريقة ثابتة بها تبقى الأمة القوية قوية إلى ما شاء الله - وهذا من أهم
الاعتراضات أيضًا على مذهب دارون القائل ببقاء الأنسب، ومن جملة مواضع
الخلط والخبط في شرح مبادئه عدم جمعه بين العدالة والقوة جمعًا علميًّا ترتاح
النفس إليه، بل أراه أبقى هوَّة عميقة بين القوة الوحشية التي عبر عنها بالحرب،
وبين العدالة المجردة التي لا يجوز لها أن تخضع للقوة.
ليس ذلك فقط، بل إن الجنرال برنهاردي اعتمد على علم الأحياء (بيولوجيا)
في مصنفه الأخير، وهو مولع بهذا العلم؛ لكنه تجاهل وجود ناموس التعاون
والتضامن في النوع الواحد، ونسي أو تناسى أن الإنسان مهما تعددت أممه،
وأجناسه، وعناصره، وألوانه لم يخرج عن كونه نوعًا واحدًا من أنواع الأحياء،
هو نوع الإنسان يتطلب كيانه ناموس التعاون، والتضامن، ولو بأحد أشكاله
البسيطة.
ويحوجني الوقت والمجال؛ لأُبيِّن أن العلاقة بين الحق والقوة هي علاقة
شديدة موجودة فعلاً، وهي مثل الارتباط المتين الموجود بين الحرية والمسؤولية،
وبين الحق والواجب، فكما أن الحرية تُوجِد المسؤولية والحق يوجد الواجب،
والعكس بالعكس، كذلك أرى أن ناموس الحق للقوة - الذي ينادي به الجنرال
برنهاردي، وأركان حرب ألمانيا عمومًا - يقتضي وجود علاقة متينة بين الحق
والقوة لم يشر إليها برنهاردي، ولا عَرَضًا في سياق كلامه، لذلك نرى أن ألمانيا
في هذه الحرب مغمضة عين الحق في بعض تصرفاتها المخالفة، ومجسمة فضيلة
القوة الوحشية المحسوسة في سائر إجراءاتها مما جعلها عرضة للنقد العادل.
أما ما خلا هذه النقط القليلة القابلة الانتقاد، فكلام الجنرال برنهاردي صحيح
لا غبار عليه، ويجدر بالحزب السلمي في إنجلترا أن يدرسه بمزيد التدقيق
والتروي، عله يُقْلِع عن تعاليمه النظرية الضارة، ويساعد القائلين منا بوجوب
تنظيم جيش قوي دائم، وتعويد الأمة على تربية رجال أشداء أقوياء البدن، وعلى
غاية من النشاط والبسالة. اهـ.
(المنار)
نقلنا ما تقدم عن جريدة الأفكار البرازيلية بنصه، مع تصحيح لفظي قليل،
والقارئ يرى أن غرض صاحب مجلة القرن التاسع عشر الإنكليزية من تلخيص ما
لخصه من الكتاب الألماني هو إقناع قومه بأن يحذوا حذو الألمان في شدة العناية بالقوة
الحربية، ومنه جعل الخدمة العسكرية إجبارية، والظاهر أن شر عاقبة لهذه الحرب
هو زيادة عناية الأمم الأوربية كلها بالاستعداد للحرب، وإن كان بعض الناس يظنون
أنها سترجع إلى رشدها بما تقاسي من خسارة الأنفس والأموال.