قدم على هذا القطر من عهد قريب العلامة الفاضل أحمد جان أفندي أحد كبار علماء قزان من أعمال روسيا وقد اجتمعنا به فرأينا منه أفضل رجل، وأكمله علمًا وعقلاً، وبصيرة ونبلاً، وذاكرناه في شؤون المسلمين في تلك البلاد، فعلمنا منه أن حالهم أحسن من أحوال المسلمين في البلاد التي نعرفها بالخُبْر والخَبَر، وقد كان صاحب جريدة (ثمرات الفنون) المفضال اجتمع به في بيروت قبل قدومه إلى هذه الديار، واستعرف منه شؤون المسلمين في روسيا، وكتب في جريدته الغرَّاء خلاصة ما اقتبسه منه في شأن النهضة العلمية، فرأينا أن نأخذ ذلك من (الثمرات) نفسها، لا من حيث أخذت، اعترافًا لها بحق السبق، وحيث قد اعترفت هذه الجريدة بأنها كتبت بعض ما استفادته من حضرة أحمد جان أفندي، واعترف هو بذلك بعد اطلاعه عليها، فربما نزيد قرَّاءنا بيانًا في نبذة أخرى، قالت الجريدة: (يبلغ اليوم عدد المسلمين في روسية عشرين مليونًا من الأنفس أو يزيدون، وفي الجغرافية القديمة ثلاثة عشر مليونًا، وهم على جانب عظيم من التقوى وقوة الإيمان، والتربية الحسنة، والغيرة والحمية، وقد شاهد البيروتيون أثناء الحج السابق كثيرين منهم يتكلمون بلسان التتار، أي التركي القديم، فيهم عدد وافر من العلماء يعرفون العربية كتابة وقراءة، ويتكلمون فيها بلسان فصيح، ويعرفون كذلك التركية والفارسية، ولهم في ولاية أوفا من أعمال الروسية محكمة شرعية كبرى هي مرجع المسلمين في جميع قضاياهم وشؤونهم الخاصة، فيها ثلاثة قضاة موظفين من قبل الحكومة، راتب كل منهم في السنة ستمائة روبل (ريال) ومُفْتٍ واحد وراتبه ضعفا ذلك، وهي تقيم في كل بلدة من البلاد التي يقطنها مسلمون إمامًا أو إمامين ومؤذنًا يصلون بالناس في المساجد الصلوات الخمس والجُمَع والأعياد، وفي كل جمعة يأمر الخطيب بالمعروف وينهى من المنكر، ويحض على التسابق في الخيرات، والتعاون على البر والتقوى، وأكثرهم يمتثلون ذلك، ولهذا قلَّما تجد مسلمًا في ملهى أو منتدى عمومي، بل ترى كلاًّ منهمكًا في شغله، فالتاجر في تجارته، والصانع صناعته، والزارع في زراعته، وهلم جرًا، وأبغض الأشياء إليهم تمضية الوقت عبثًا باللغو واللهو، ولهم في أكثر الولايات جمعية أو جمعيتان تستدر الخيرات من أولي البر والإحسان، وتعين البائس الفقير، وللخاصة منهم شغف في مطالعة الجرائد، خصوصًا الصادقة اللهجة، البعيدة عن الإطراء والمدح، إذ يرونها أمرًا معيبًا مسقطًا للجرائد، مشينًا لها، قلَّما تجد امرأة في السوق، بل يَقْررن في بيوتهن، ينظرن في شؤون منازلهن، وتربية أبنائهن، وللمسلمين لباس خاص يمتازون به عن غيرهم، وأكثره من نسجهم، كالأجواخ والأصواف، خصوصًا ألبسة الرأس والرجل، فإنهم لا يحتاجون في اصطناعهما إلى الأجانب قط. ولهم في التجارة اليد الطولى، والقدح المعلَّى، سيما تجار قزان وقاسيم وبنزه، ومنهم من يقيم في الصين ومنهم في الهند وبخارى والعجم والأستانة ومصر وباريز ولندرا وبعض الثغور الأميركية والإيطالية، وهم مشهورون بالأمانة وحسن المعاملة والبر، حتى إنه إذا عقد تاجران أو أكثر شركة تجارية يشترطون بادئ بدء إنفاق الخمس من الربح أو أقل على المدرسة الفلانية أو غيرها من بيوت العلم، وهي لعمري مزية حسنة امتاز بها التجار الروسيون على غيرهم، وللمثرين منهم عدا ما تقدم ذكره مبرات جمة، كتأسيس المساجد والجوامع، وإشادة (كذا) المدارس والمباني الخيرية وغيرها، وفي مدينة قزان وحدها ١٤ مسجدًا، وسكانها المسلمون يبلغون نحو الخمسة والعشرين ألفًا، والحكومة الروسية تتداخل بالظاهر في شؤون المسلمين الدينية، وهم يتقاضون القضايا الجزائية والجنائية في محاكمها التي ليس لهم فيها أعضاء، غير أن القوم استيقظوا من سباتهم وانتبهوا من غفلتهم، وأيقنوا أن لا قيام ولا قوام لهم إلا بالعلوم والمعارف، وأخذ كثير منهم يدرس اللغة الروسية، وفتحت الحكومة لهم ثلاثة مكاتب في ولاية قزان لتعليم هذه اللغة لمن يشاء منهم؛ إذ هي التي تخولهم الحق في مناصب الحكومة ومجالسها ومحاكمها؛ وهذه المكاتب الثلاثة خاصة بالمسلمين، وأقامت في كل مكتب معلمين مسلمين، أحدهما لتعليم اللغة، والثاني للأمور الدينية، وبالجملة فإن القوم قد قاموا بنهضة علمية جديرة بالذكر، ورجل هذه النهضة العلامة الأستاذ الغيور الهمام عالم جان أفندي البارودي مؤسس المدرسة المحمدية في ولاية قزان التي سيأتي ذكرها، فإنه - حفظه الله وأبقاه - عدا اهتمامه العظيم بترقية هذه المدرسة الكبرى والنهوض بها في مدارج التقدم والنجاح تراه متجولاً من بلدة إلى أخرى، باثًّا في قومه روح الهمة والنشاط، راقيًا بهم في مراقي الحضارة والعمران، حاضًّا لهم على التعاضد والتعاون، وجمع شتات الكلمة، والتفاني في تحصيل العلوم والفنون، والانكباب على إتقان الصناعات والزراعات، إلى غير ذلك من أسباب الإصلاح ووسائل النجاح، وإليك بعض معلوماتنا عن المدرسة المحمدية التي على نظامها يُقاس أكثر مدارس المسلمين في روسية: أسس هذه المدرسة وشيد بنيانها الرجل الكبير والمحسن الشهير محمد جان بن بنيامين علييف والد العلامة عالم جان أفندي المشار إليه، وهو من أكابر تجار قزان، وعيون أعيانها، وذلك في سنة ١٣٠٠ هجرية، أي منذ سبع عشرة سنة، وقبل أن نخوض عُباب البحث عن هذه المدرسة الكبرى نرى من اللائق أن نلم ولو بشيء يسير عن مؤسس بنيانها ومشيد أركانها، إذ يجدر - لعمري - بأمثاله من مثري المسلمين وأغنيائهم الاقتداء به والنسج على منواله، فتحسن الحال ويعم النوال. الرجل ذو همة علية عجيبة، وحسبك دليلاً على هذا أنه لما رأى البلاد في أشد الحاجات إلى العلم الذي هو لها بمثابة الروح للجسم أشغل من أولاده الأربعة ثلاثة في طلبه، فنشأوا بحسن نيته علماء صلحاء، أكبرهم عالم جان أفندي المنوه بذكره، ثم صالح جان أفندي وهو الآن مُدرس في مدرسة إسلامية أخرى في قزان، وفيها مائتا طالب، ثم عبد الرحمن أفندي وهو اليوم مدرس في المدرسة المحمدية السابق ذكرها، وقد أسس هذه المدرسة من ماله الخاص، وصرف عليها أموالاً طائلة، وأقام لها مديرًا شبله الأكبر الأستاذ عالم جان أفندي الذي حقق آمال والده بما اختصه الله به - مع حداثة سِنِّهِ - من سعة العلم ووفور العقل، وعلو الهمة وفائق الغيرة، فنعم الأب ونعم الابن، وهكذا تكون الآباء، بل هكذا تكون الأبناء، ورتب المدرسة على أبدع نظام وأحسن ترتيب، وقسم طلبتها إلى ثلاثة أقسام: الأول قسم الفقراء الذين لم يك لهم من مكتسب يتعيشون به سوى المسألة، فأغناهم عنها، وهم يقربون من مائة تلميذ، وعين لهم معلمين، الأول لتعليم مبادئ القراءة والكتابة، والثاني للصناعة، وخصص كل تلميذ يوميًّا باثنتين وستين بارة ونصف، وهم يقيمون كل يوم أربع ساعات يتعلمون فيها على مرتين ثنتين القرآن الكريم والضروريات الدينية والدنيوية، والكتابة ومبادئ الصناعات، والنفقات التي تنفق على هؤلاء يقوم بها أغنياء البلدة، منهم من يتكفل بتلميذ واحد، ومنهم باثنين، ومنهم بخمسة وهكذا، فينشأ هؤلاء وقد تلقوا مبادي القراءات والصناعات، يعبدون الله على علم ذوو تربية حسنة تخولهم معرفة التعيش برضاء وهناء. القسم الثاني لتعليم الطبقة الوسطى، وهم يقربون من ثلاثمائة تلميذ يؤخذ من المستطيع منهم راتب يتفاوت بتفاوت غناء آبائهم وذويهم، فمنهم من يؤدي روبلة واحدة في الشهر، أي اثني عشر قرشًا ونصفًا صاغًًا، ومنهم نصف ذلك أو ربعه أو ضعفه أو أربعة أضعافه إلى عشرة أضعاف، ومنهم من لا يؤخذ منه شيء، ومدة تعليم هذا القسم سبع سنين، ثلاث ابتدائية، وأربع رشدية (تجهيزية) حتى إذا أتموها أصبح لكل منهم الخيار في الاشتغال بالتجارة أو الصناعة أو الزراعة، أو غير ذلك مما يصلح لهم، أو يدخل الطبقة العالية في المدرسة، وهي القسم الثالث منها، يشتمل هذا القسم على نيف وثلاثمائة طالب، وتارة يبلغون الأربعمائة، وأكثرهم من البلاد الشاسعة النائية، يقرأون النحو والصرف والمنطق، والمعاني والبيان والبلاغة، والحساب والحكمة، والتاريخ والجغرافيا، والأصول والحديث والتفسير إلى غير ذلك من أنواع العلوم العربية كلها، فيخرج الطالب إمامًا أو مدرسًا في قرية أو بلدة. ولهذا القسم الذي هو الركن الأعظم للمدرسة المحمدية عشرون مدرسًا سوى رئيس المدرسين الأستاذ عالم جان أفندي الذي يدرس فيها مرتين في اليوم أيضًا، ولكل مدرس منهم درسان أو ثلاثة في اليوم، حسب البرنامج (البروغرام) المتفق عليه من هيئة المدرسين، وهذه الهيئة تجتمع خمسة أو ستة أيام متوالية في آخر شهر آب (أغسطس) من كل عام، أي قبيل افتتاح المدارس، وقد تجتمع أيضًا بضع مرات بعد افتتاحها، فإذا انتظم عقد الهيئة يعرض الرئيس عليها رأيه كتابة في بيان العلوم والفنون التي يجب أن تدرس في العام المقبل في المدرسة، وكذلك الطرق التي ينبغي أن تسير عليها في تعاليمها مبينًا ذلك مسألة بعد أخرى، فتوضع هذه اللائحة موضع المذاكرة والمداولة، فإذا وافقت الهيئة عليها، إما بالإجماع أو بالأكثرية يبين الرئيس الكتب التي يناسب إقراؤها، فتذاكر الهيئة بذلك أيضًا ولكل عضو من أعضائها الحرية التامة في بيان الرأي الأصلح والأخذ به، ونبذ غير الموافق منه، فإذا أتمت الهيئة وظيفتها هذه يوضع البرنامج ويسير المدرسون على منهاجه السنة كلها، إلا إذا رؤي خلال السنة لزوم لتبديل شيء أو تغييره، فيكون بالاتفاق من هيئة المدرسين على ما بَيَّنا. أما نفقات هذه المدرسة فبعضها من العقارات الموقوفة عليها من الأغنياء، وبعضها يتبرع به المحسنون سنويًّا، والباقي يجمعه الأستاذ رئيس المدرسة، فيدعو لناديه أغنياء البلدة مرة في السنة، ويبين لهم حالتها ودخلها وخرجها فيتبرع كل بما يلهمه الله به، وفي هذا المجتمع ينتخب خازن المدرسة ومعاونه، فالخازن يأخذ ويعطي، ويقوم بلوازم المدرسة كلها، ويعمر ما اندرس منها، ويصلح ما فسد حتى إذا تمت السنة يعرض حسابه على الهيئة، ولا يأخذ تلقاء ذلك أجرة لا هو ولا معاونه، وهما إنما يكونان من أكابر البلدة، معروفين بالأمانة والصداقة والثراء، ويفتخران بهذه الخدمة أيما افتخار، وكثيرًا ما يؤثرانها على أشغالهما وتجارتهما، ولا بد أن يزورا المدرسة في كل يوم، يفتقدان حالتها ونظافتها، وحسن ترتيبها، ومذاكرة القادم إليها والنازح منها، ويبحثان عن حالة المرضى، ويحضران لهم الطبيب إن احتيج إليه ونحو ذلك، وبالجملة فإن كل ما يقتضي للمدرسة وطلبتها، سوى التعليم والامتحان فهو منوط بالخازن ومعاونِه، وكثيرًا ما يستشيران رئيس المدرّسين أو الهيئة بتمامها إذا رأيا احتياجًا ولزومًا. والامتحان العمومي للمدرسة إنما يكون في شهر نوار (مايو) من كل عام، أي بعد أن يجري اختيار الطلبة - مدة شهر، فتوزع بطاقات (الدعوة) على أرباب المدارس والمكاتب، والعلماء والوجهاء، فيحضر السواد الأعظم منهم، وكثير من المعلمين ما ينظر إلى الامتحان بعين الانتقاد أو الاستحسان، وفي الانتقاد الصحيح من الفوائد الجمة ما لا يخفى، حتى إذا تم الامتحان وزعت الجوائز على مستحقيها، ثم يجتمع الوجوه من الحضور والأساتذة وغيرهم، فيشكرون الله تعالى وأرباب النعم والخيرات من المدرسين والمحسنين، ثم يتضرع بعضهم إلى المولى تعالى بإخلاص وخشوع، ويدعو بالتوفيق والنجاح فيؤمِّن السامعون، وببركة هذا الاجتماع يصبح الناس على قلب رجل واحد، فيعقد كل منهم النية على عمل شيء ينال فيه رضاء الله، إما بتعلم أو تعليم، أو وعظ أو تحرير، أو تجارة أو صناعة أو زراعة، ونحو ذلك، ويهيئون أنفسهم لخدمة الدين، ولا يرون في أنفسهم ومالهم حقًّا لهم، بل عباد الله وخَدَمة لدينه، لا يبذرون في مأكل أو مشرب أو ملبس، ولا يمضون أوقاتهم في اللهو واللغو، ويعدونهما خيانة في حقوق الله وإخلالاً بالواجب عليهم. هذا بعض ما علمناه من الأخ بالله العالم القزاني عن أحوال إخواننا المسلمين في روسية والمدرسة المحمدية الكبرى في قزان التي فيها خمس مدارس أخرى، وعليها تقاس سائر مدارس المسلمين في ولايات لوقا وأورنبوغ وحيستابول وترويسكي وسمير وضامار وبنزة ويوا وجابق وقارغالي واسترلي تماف وغيرها من الولايات والمتصرفيات، ولا نزيد بعد هذا كلمة في بيان فضائل التعاضد والتعاون وجمع الكلمة، إذ فيما تقدم كفاية ومقنع بما ينتج عن ذلك للأمة من أسباب النجاح والفلاح، والعروج بالبلاد في معرج الحضارة والعمران، ولا عبرة بما يتشدق به اليوم بعض من تطفلوا على مباحث فضلاء الأمة وكتابها بالجامعة الإسلامية، والله سبحانه الموفق والمعين، هو حسبنا ونعم الوكيل.