للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

الدعاء للميت في الصلاة
واستغفار المؤمنين لمن سبقهم بالإيمان
واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم للتائبين ولنفسه ولغيره من المؤمنين
(س ١٧ - ٢٠) مِن صاحب الإمضاء في ولتفريدن (جاوه)
حضرة الفاضل السيد محمد رشيد رضا حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أقدم إليكم السؤال الآتي أرجو منكم الجواب ولكم الأجر والثواب.
ما قولكم في الدعاء على الميت (؟) في التكبيرة الثالثة والرابعة من الصلاة
على الميت؟ وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: ١٠) ؟ وفي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ
تَوَّاباً رَّحِيماً} (النساء: ٦٤) ؟
سؤالي مخصوص في استغفار الرسول لهم , وفي قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: ١٩) أمر الله عز
وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لنفسه ولأمته , مع أنه مغفور له: أما
ذلك ليستنوا به ويقتدوا به؟
أفتونا مأجورين - والسلام
انشروا الجواب على صفحات مناركم الغراء
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاظم وشركاه
الجواب
الدعاء للميت في تكبيرات الصلاة عليه
(ج) أما الدعاء للميت - لا عليه - في التكبيرة الثالثة والرابعة فهو مشروع،
فقد روى الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم , أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام , ثم
يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرًّا في نفسه , ثم يصلي على النبي صلى
الله عليه وسلم , ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن , ثم
يسلم سرًّا في نفسه. وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر , وأخرجه أيضًا النسائي
وعبد الرازق. قال الحافظ في فتح الباري: وإسناده صحيح , وليس فيه قوله: بعد
التكبيرة الأولى. ولا قوله: ثم يسلم سرًّا في نفسه.
***
الاستغفار للسابقين الأولين
وأما قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} (آل عمران: ١٤٧) إلخ. فلم يذكر
السائل وجه السؤال عنه , وهذه الآية قد جاءت مع آيتين في وصف المهاجرين
والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - ويعلم المراد منها بإيرادهما فنذكر الثلاث من
سورة الحشر وهي: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ *
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: ٨-١٠) .
***
جعل الله تعالى المؤمنين ثلاث درجات: (الأولى) المهاجرون وهم السابقون
إلى الإيمان والنهوض بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم على نشر دعوته ومعاداة
أهليهم , وأقوامهم في هذه السبيل سبيل الله عز وجل على ضعفهم وقوة قومهم.
(الثانية) الأنصار الذين أظهر الله تعالى هذا الدين وأيده بهم.
(الثالثة) الذين جاءوا من بعدهم , وهم سائر المؤمنين. وصفهم الله تعالى بهذا
القول الدال على علمهم بفضل السابقين الأولين عليهم , وقدرهم قدرهم وحبهم
والدعاء لهم، وهو يتناول سائر مؤمني ذلك العصر من الصحابة وغيرهم، كمن آمن
في عصره صلى الله عليه وسلم , ولم يره ويشتمل من بعدهم إن شاء الله تعالى
بمشاركته لهم في وصفهم المذكور آنفًا , وقيل: هو خاص بهؤلاء.
روى الحاكم وصححه وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله
تعالى عنه - أنه قال: الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان , وبقيت منزلة ,
فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت , ثم قرأ الآيات
الثلاث.
وروى ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يتناول بعض المهاجرين
فقرأ عليه {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (الحشر: ٨) - الآية - ثم قال: هؤلاء
المهاجرون فمنهم أنت؟ قال: لا. ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} (الحشر: ٩) - الآية - ثم قال: هؤلاء الأنصار: أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ جَاءُوا} (الحشر: ١٠) - الآية - وقال: من هؤلاء أنت؟
قال أرجو، قال: لا. ليس من هؤلاء من يسب هؤلاء.
وفي رواية أخرى عنه أنه بلغه أن رجلاً يسب عثمان فدعاه فأقعده بين يديه ,
فقرأ عليه هذه الآيات كما تقدم , فقال الرجل بعد الأخيرة: أرجو أن أكون منهم. فقال
ابن عمر: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم ويكون في قلبه الغل عليهم.
ووصفه تعالى لأهل الدرجة الثالثة من المؤمنين بذلك شهادة لمن كانوا في
عهد نزول الآيات بذلك , وإرشاد لمن بعدهم أو أمر بأن يكونوا كذلك؛ ليدخلوا
في هذه الحظيرة الإيمانية الشريفة. وقد قال الضحاك: أمروا بالاستغفار لهم ,
وقد علم ما أحدثوا - يعني ما أخطأ به بعضهم في عهد الفتنة اهـ. وذلك أن هؤلاء
أحوج إلى الاستغفار لهم، والمؤمن الصادق في الإيمان يحب أن يغفر الله تعالى
لإخوانه المؤمنين إذا أذنبوا , كما يحب أن يغفر له ولأولاده ولإخوته إذا أذنبوا , ولا
ينطوي على الغل والحقد عليهم , ولا يقطع أخوتهم , وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(لا يؤمن أحكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه أحمد والشيخان وأصحاب
السنن ما عدا أبا داود عن أنس رضي الله عنه.
وروي عن بعض السلف ومنهم الإمام مالك أن هذه الآية في التابعين ومن
بعدهم. واستدل بها مالك على أن من سب الصحابة فلا حق له في الفيء , فإن
الآية نزلت في قسمة الفيء. وجملة القول: إن من شأن المؤمنين التحاب والتواد
والرأفة والرحمة {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: ٢٩) ومنه نصيحة
من حضر والاستغفار لمن غبر، ومن رأيته يحمل عليهم الغل ويذكرهم بالسوء، فهو
منافق.
***
استغفار الرسول لمن تاب من المنافقين
وأما استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لمن ذكر في الآية , فلم يبين
السائل مراده منه أيضًا، وهو في نفسه ليس محل إشكال فالاستغفار دعاء , وهو
مطلوب شرعًا , ودعاء الرسول فالأمثل من المؤمنين الصالحين أرجى للقبول. ولعل
وجهه المطلوب: بيان حكمة ضم استغفاره صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء التائبين
المشار إليهم في الآية , وكونه لم يكتف في توبتهم باستغفارهم كسائر المذنبين , وقد
سبق لنا بيان هذه النكتة والحكمة في تفسير الآية من سورة النساء , ونمهد له هنا
بأن نقول:
(أولاً) إن الذين نزلت فيهم هذه الآية هم الذين قال تعالى فيهم قبلها:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: ٦٠) إلخ.
(وثانيًا) إن هؤلاء كانوا من المنافقين , وكانت رغبتهم عن التحاكم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثارهم التحاكم إلى الطاغوت إظهارًا للكفر
والعصيان , فكان لا بد في قبول توبتهم من اعتداد الرسول صلى الله عليه وسلم بها
وحكمه بصحتها واستغفاره لهم , بأن يقبلها الله تعالى منهم؛ لتظل أحكام الإسلام
جارية عليهم , وليست كالمعاصي الشخصية التي يكره الشرع إظهارها ويكتفي من
صاحبها بتوبته في خاصة نفسه. وقد كان بعض المنافقين يطلبون استغفار الرسول
صلى الله عليه وسلم في أمثال هذه الذنوب المتعلقة بالمصالح العامة ومنه قوله تعالى:
{سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: ١١) وربما دعي بعضهم إلى ذلك إرشادًا
له واختبارًا لإيمانه فأبى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ
وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} (المنافقون: ٥) .
بعد هذا التمهيد ننقل ما كتبناه في تفسير الآية (من ص ٢٣٤ج ٥ تفسير)
وهو:
وإنما قرن استغفارهم الذي هو عنوان توبتهم باستغفار الرسول صلى الله عليه
وسلم؛ لأن ذنبهم هذا لم يكن ظلمًا لأنفسهم فقط لم يتعد منه شيء إلى الرسول فيكفي
فيه توبتهم , بل تعدى إلى إيذاء الرسول , من حيث إنه رسول، له وحده الحق في
الحكم بين المؤمنين به، فكان لا بد في توبتهم وندمهم على ما صدر منهم أن يظهروا
ذلك للرسول؛ ليصفح عنهم فيما اعتدوا به على حقه، ويدعوَ الله تعالى أن يغفر
لهم إعراضهم عن حكمه، ومن هذا البيان تعرف نكتة وضع الاسم الظاهر موضع
الضمير؛ إذ قال: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (النساء: ٦٤) ولم يقل: (واستغفرت
لهم) فإن التوبة عن المعاصي المتعلقة بحقوق الناس لا تكون مقبولة ولا صحيحة
إلا بعد استرضاء صاحب الحق. وجعل بعض المفسرين نكتة وضع الظاهر
موضع الضمير إجلال منصب الرسالة , والإيذان بقبول استغفار صاحب هذا
المنصب الشريف , وعدم رد شفاعته. والظاهر ما قلناه، والمنصب هو هو في شرفه
وعلوه، ولكن الله لا يغفر للمنافقين إذا لم يتوبوا , وإن استغفر لهم الرسول؛ لأن الله
تعالى قال له فيهم: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: ٨٠) والآية ناطقة بأن التوبة الصحيحة تكون مقبولة حتمًا إذا كملت شرائطها، وظاهر الآية أن منها أن تكون عقب الذنب كما يدل
الشرط والعطف بالفاء , وهو بمعنى (ثم يتوبون من قريب) وتقدم تفسيره.
وذكر الأستاذ الإمام أنه تعالى سمى ترك طاعة الرسول ظلمًا للأنفس؛ أي:
إفسادًا لمصلحتها؛ لأن الرسول هاد إلى مصلحة الناس في دنياهم وآخرتهم، وهذا
الظلم يشمل الاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك. والاستغفار هو
الإقبال على الله وعزم التائب على اجتناب الذنب وعدم العود إليه مع الصدق
والإخلاص لله في ذلك , وأما الاستغفار باللسان عقب الذنب من دون هذا التوجه القلبي
فليس استغفارًا حقيقيًّا.
أقول: يعني أن ما اعتاده الناس من تحريك اللسان بلفظ (أستغفر الله) لا
يعد طلبًا للمغفرة؛ لأن الطلب الحقيقي ينشأ عن الشعور بالحاجة إلى المطلوب , فلا
بد أن يشعر القلب أولاً بألم المعصية وسوء مغبتها، وبالحاجة إلى التزكي من دنسها،
ولا يكون هذا إلا بما ذكر الأستاذ من التوجه القلبي إلى الله بالصدق والإخلاص
والعزم القوي على اجتناب سبب هذا الدنس والمعصية، وكيف يكون متألمًا من
القذر الحسي من ألفه وعرض بدنه له , إذا طلب غسله باللسان، وهو لا يترك
الالتياث به ولا يدنو من الماء؟ !
وقال في استغفار الرسول: إنكم تعلمون أن مشاركة الناس بعضهم لبعض في
الدعاء مسنونة , وإن من سنته تعالى أن يتقبل من الجماعة بأسرع مما يتقبل من
الواحد، فدعاء الجماعة أرجى للإجابة وإن كان كل داع موعودًا بالاستجابة.
وحقيقة الدعاء إظهار العبودية والخضوع له تعالى، والإجابة التي وعد بها هي
الإثابة وحسن الجزاء , فمتى أخلص الداعي؛ أجاب الله دعاءه، سواء كان
بإعطائه ما طلب أو بغير ذلك من الأجر والثواب، وإنما كانت المشاركة في
الدعاء أرجى للقبول؛ لأن الداعين الكثيرين لشخص يؤدون هذه العبادة بسببه؛ أي:
إن ذنبه يكون هو السبب في شعورهم وإحساسهم كلهم بالحاجة إلى الله تعالى
والخضوع له والاتحاد المرضي عنده , فكأن حاجته حاجتهم كلهم. فإذا كان الرسول
صلى الله عليه وسلم هو الداعي والمستغفر لأولئك التائبين من ظلمهم لأنفسهم مع
استغفارهم فذلك من اشتراك قلبه الشريف مع قلوبهم بالحاجة إلى تطهير الله لهم من
دنس الذنب وطلب النجاة من عقوبته , وناهيك بقرب الرسول صلى الله عليه وسلم
من ربه، والرجاء في استجابة دعائه.
وأما اشتراط ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم فمعناه أن توبتهم لا تتحقق
إلا إذا رضي عنهم رضاءً كاملاً , بحيث يشعر قلبه الرحيم بالمؤمنين بحاجتهم إلى
المغفرة لصحة توبتهم وإخلاصهم , فذنبهم ذلك لا يغفر إلا بضم استغفاره صلى
الله عليه وسلم إلى استغفارهم , وليس كل ذنب كذلك بل يكتفى في سائر الذنوب
بتوبة العبد المذنب حيث كان، والإخلاص لله تعالى اهـ.
***
استغفار الرسول لذنبه
وأما استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لذنبه فللعلماء فيه أقوال: منها ما
ذكر السائل، وسبب الإشكال الذي أثار ذلك أن الأنبياء معصومون من المعاصي
وهي قاعدة قطعية يجب تأويل ما عارضها، وظنوا أن منها أمر الله لخاتم رسله
صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لذنبه , وليس منها في الحقيقة , فإن الذنب أعم من
المعصية كما حققناه في مواضع من التفسير وغيره , فهو عبارة عما تكون له تبعة
أو عاقبة تستوخم أو تضر أو تنافي المصلحة. وقال المحقق الراغب في مفردات
القرآن: والذنب في الأصل الأخذ بِذَنَبِ (بالتحريك) الشيء. يقال: ذنبته - أصبت
ذنبه، ويستعمل في كل فعل تستوخم عقباه اعتبارًا بذنب الشيء ولهذا يسمى الذنب
تبعة اعتبارًا لما يحصل من عاقبته. اهـ
فالذنب , قد يكون قولاً وقد يكون عملاً بدنيًّا أو نفسيًّا , وقد يكون أمرًا سلبيًّا
كترك ما ينبغي، والتقصير فيما يضر التقصير فيه في المعاش أو المعاد، وهو
أعم من المعصية فإنها خاصة بمخالفة ما أمر الله تعالى به أو نهى عنه، وترى جميع
الناطقين بالعربية يستعملون الذنب في هذا المعنى العام , فيقول أحدهم لمن أساء إليه
أو قصر في شيء من حقوقه العرفية كحقوق القرابة والصداقة: إنني مذنب أو
معترف بذنبي فلا تؤاخذني. والأنبياء عليهم السلام معصومون من عصيان الله
تعالى فيما شرعه لهم من أمر ونهي، وليسوا معصومين من كل عمل , أو ترك قد
تكون له عاقبة غير حسنة , إذا لم يعلموا ذلك، بل هذا من الاجتهاد الذي يجوز عليهم
فيه الخطأ بمقتضى الطبيعة البشرية , وإنما قال العلماء: إن الله تعالى يبين لهم هذا
النوع من الخطأ إذا وقع ولا يقرهم عليه.
ويؤيد هذا ما ورد في الكتاب العزيز من معاتبة الله تعالى خاتم رسله على
أمثال هذه الذنوب وأمره بالاستغفار منها كقوله تعالى في سورة النساء: {إنَّا أنزَلْنَا
إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً *
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} (النساء: ١٠٥-١٠٧) الآيات - وسببها قضية
أراد بعض المنافقين فيها أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليحكم على يهودي
بريء بالسرقة انتصارًا لبعض المسلمين , وكاد صلى الله عليه وسلم يصدقهم ويحكم
على اليهودي , وكان هذا هو الظاهر من الدعوى ومال قلبه صلى الله عليه وسلم
إليه؛ لأن المسلمين كان يغلب عليهم الصدق، واليهود بالعكس، وكان المنافقون
أكذب الكاذبين، فنزلت الآيات مبينة له الحق في القضية.
ومنها إذنه صلى الله عليه وسلم لبعض المنافقين في التخلف عن الخروج معه
إلى غزوة تبوك حين استأذنوا في ذلك , وكان وجه اجتهاده صلى الله عليه وآله
وسلم صحيحًا من وجه أيده القرآن بعد ذلك بقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ
خَبَالاً} (التوبة: ٤٧) الآية، ولكن كانت المصلحة الراجحة أو أرجح المصلحتين
أن لا يأذن لهم , فعاتبه الله تعالى وبين له ذلك بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: ٤٣) ومثل ذلك اجتهاده
صلى الله عليه وسلم في فداء أسرى بدر الموافق لاجتهاد أبي بكر الصديق - رضي
الله تعالى عنه - وكان العتاب عليه أشد وهو قوله تعالى:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض} (الأنفال: ٦٧) إلى
قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال:
٦٨) .
وهذا الوجه لا ينافي حكمة اقتداء الأمة به صلى الله عليه وسلم , وأن لا
يدعي أحد مهما تكن درجته في المعرفة والصلاح , أنه لا ذنب له يستغفر الله منه -
ولا قول من خرج المسألة على قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فإن ما عد
من ذنوب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا اجتهادًا في إقامة الدين , بحسب ما
وصل إليه علمه , وعلم الله تعالى فوق كل علوم خلقه. فهو في نفسه حسنة له
عليها أجر الاجتهاد، وباعتبار آخر ذنب لا معصية، وحسبنا هذا هنا فقد تكرر
بسط المسألة في المنار.
***
أسئلة في الهبة والميراث
من صاحب الإمضاء - في كلوغ بنكوك نوى (سيام)
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا للواحد الخلاق، وصلاة وسلامًا على سيدنا محمد أفضل الخلق على
الإطلاق، وعلى آله وصحبه أئمة أعلام الهدى في الأنحاء والآفاق.
وبعد، فيا حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا المحترم أرشدنا الله
برشدك، وأسعدك في الدارين، ودمت مصباح النيرين، وعلوت معالي الفرقدين،
آمين آمين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
مولاي إني أتشرف أن أرفع لمسامع فضيلتكم أمرًا أرجو أن تبينوا لي حكم الله
تعالى فيه وهو ما يأتي:
(١) كان حضرة والدي العزيز - رحمه الله تعالى - قبل وفاته إلى رحمة
الله تعالى , وهب من ملكه قطعة الأرض هبة شرعية , بلا عوض وهو صحيح
عقلاً وجسدًا , فذهب معي إلى مصلحة التملك (Department deeds Title)
طلبًا من بعض موظفي هذه المصلحة أن يكتبوا اسمي على صك الملكية (حجة
التملك) لتحويل الملك فيها , وجعلوه مكتوبًا فيها وهم شاهدون على ذلك , وذلك
بإمضاء اسم والدي المرحوم واسمي فيها بتمام الإيجاب والقبول لدى الشهود
الموظفين في تلك المصلحة , وهم متدينون بدين البوذ!
(٢) ثم وهب لحضرة والدتي المحترمة (زوجته الأولى) داره المبنية على
قطعة الأرض المذكورة هبة شرعية بلا عوض , وهو سليم العقل والجسم , وذلك
بأن والدي المرحوم كتب لوالدتي العزيزة كتابًا , أمضى فيه اسمه على أنه قد جعل
داره المذكورة مملوكة لوالدتي المحترمة بتمام الرضاء والإيجاب والقبول , ولكن
لا شاهد على ذلك.
(٣) وقد اتفق والدي الكريمان على شراء قطعة الأرض من المزارع
(Yards Farm) برأس مالهما الذي قد استعاراه من الغير , ويقضيان بما
يستفيدانه من أجرات هذه المزرعة , فإلى الآن لم يتخلصا بينهما (كذا) .
فلما توفي والدي إلى رحمته تعالى، حكم بعض علماء بلادي بأن قطعة الأرض
والدار الموهوبتين لنفسي ولوالدتي المحترمة لا تصح هبتهما , وأن المزرعة لا
تصح أن تملكها والدتي , ولا يصح أن يقسم نصفها لحضرتها قبل أن تكون واقعة
في الميراث , بل تكون هذه الأشياء الثلاثة (أي: قطعة الأرض والدار والمزرعة)
كلها مما تركه حضرة والدي من ميراثه , فيضمونها إلى تركته؛ ليقسموها لزوجتيه
الأولى والثانية , ولجميع أولاده من جهتهما.
فلذلك - يا سيدي الأستاذ المخلص - أحرر هذا راجيًا من فيض علومكم
وملتمسًا من فضل فضيلتكم أن تشرفوني بالجواب الشافي والبيان الكافي فيما يأتي:
(ا) هل تصح هبة قطعة الأرض والدار اللتين وهبهما لي ولحضرة والدتي
أم لا؟
(ب) هل تصح أن تكون قطعة الأرض ملكًا لي أم لا؟
(ج) هل تصح أن تكون الدار مملوكة لوالدتي أم لا؟
(د) هل تصح أن تكون قطعة الأرض والدار مما تركه والدي أم لا؟
(هـ) هل يصح أن تحصل والدتي على نصف الملك في المزرعة أم لا؟
(و) هل تصح أن يقسم نصفها لحضرتها أم لا؟
(ذ) هل تصح أن تكون المزرعة كلها ميراثًا أم لا؟
فهل تسمحون لي بذلك فلكم مني خالص الشكر , ومن الله جزيل الأجر
والثواب وأستسمحكم العفو عما زل قلمي من الخطأ والنسيان وسوء العبارة , التي
قد تكون في كتابي هذا؛ لأني مع صغري لفي دراستي للغة العرب.
وختامًا أرجو سيدي المفضال أن يتفضل حضرته بقبول عاطر سلامي وفائق
احترامي وإخلاصي. ... ... ... ... ... ... ... ... ولدكم المخلص بالشرق الأقصى ...
... محمد علي الكريمي
(ج) إن السؤال مجمل , ولم يذكر السائل فيه ما بنى عليه بعض علماء بلده
إبطال الهبة والشركة في شراء الأرض المذكورة ليعلم أصواب هو أم خطأ؟ وهل
هو مبني على الدليل أم على أحد المذاهب المتبعة في تلك البلاد؟ - فالهبة للوارث
في حال الصحة صحيحة , وهي تنعقد بالإيجاب والقبول، ولكن يشترط في
الموهوب له أن يكون أهلاً للقبول والقبض بصحة تصرفه , فهل كان السائل كذلك
أم لا؟ ويقول أكثر العلماء: إن الهبة تتم بالقبض فهل قبض كل من السائل
ووالدته ما وهبه لهما والده وتصرفا فيه أم لا؟
وجملة القول أن بيان الحق في هذه المسائل يتوقف على الاطلاع على صورة
الحكم الذي حكم به بعض علماء بلاد السائل والوقوف على أدلته , ولا سيما الأرض
التي اشتراها الزوجان بمال اقترضاه وهما يؤديانه مما يستغلانه من الأرض , وليت
شعري هل يعني بالحكم معناه القضائي أم يريد به الفتوى , وبيان حكم الشرع في
هذه الوقائع؟ وإذا كان هذا حكمًا قضائيًا فمن الذي نصب هذا العالم قاضيًا؟
أحكومة البلاد الوثنية أم المسلمون أنفسهم؟ وما فائدة استفتائه إيانا إن كان حكم ذلك
العالم نافذًا؟ وهل المسلمون هنالك يلتزمون العمل بفتوى علمائهم اختيارًا أم تلزمهم
الحكومة إياها إلزامًا؟ أم لا يعملون إلا بما يعتقدون أنه صواب منها؟ نرجو السائل
أن يبين لنا ذلك، وكل ما يتعلق بهذه المسائل، وإن كان لذلك العالم فتوى مكتوبة فيما
ذكر فليرسل إلينا صورتها بحروفها، هذا إذا كان لبياننا الحكم الصحيح فائدة
له، وإلا فهو مخير. وقد طال العهد عندنا على هذه الأسئلة فمضى على وصولها إلينا
بضعة أشهر ولم نجد فراغًا نكتب إليه فيه بذلك.