سر تقدم الإنكليز السكسونيين (لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء)
قامت نهضة الأقلام في هذه الأيام الأخيرة تكيّف الداء الذي ألمَّ بحال الأمة وتُتبعه بوصف العلاج الناجع لها، وقد دارت أبحاثها على أن الدواء الصحيح لشفائها من هذا الضعف القَتَّال هو الرجوع إلى الدين، وهذا ضياء في القلوب قد سطع، ويشرح قلب المؤمن الغيور على أمته، ولكننا نأسف كل الأسف من أن هذا الشعاع الذي ظهر ما أوشك أن يتم نوره حتى خالطه غيم في الأفكار، واختلاط في الشعور، وإفراط في النزعة. فقد ينزع بعض الكاتبين إلى التشديد على كل فكر يبديه صاحبه في إصلاح الأمة إذا لم يفتتحه باسم الدين، ولم يعلق كل مقدمة منه بنص من نصوص الدين، وإلا نقد كل مؤلف عرضت فيه سنن الله في خلقه، وشؤونه في عباده متى لم يذكر فيه اسم الدين، وإن كان جلّ ما فيه من مخ الدين، كما فعل الباحث في كتاب (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) الذي نقله سعادة أحمد بك فتحي زغلول إلى لغتنا العربية الشريفة في مقالته التي نشرت في العدد الأخير من جريدة (الموسوعات) الغرَّاء حيث بنى نقد الكتاب وترجمته على أنه لا يرجى للأمة الإسلامية خيرٌ إلا من الدين حتى يخيل لقارئه أن جميع ما في الكتاب يناقض الدين مع أنه لا شيء مما يوهمه مقاله بمتوهم. نعم، الدين خير الوسائل لإصلاح الأخلاق وتقويم النفوس وتطهير الأرواح، وهو المرشد الأول إلى النظر في دقائق الكون وما أودعه الله من سر ارتباط الأسباب بمسبباتها، وقد دعانا إلى أن ننظر في أحوال الأمم الغابرة، ونحيط بما حولنا من شؤون الأمم الحاضرة، ونتأمل في تاريخ هذا الوجود وفي أطواره، وفي تصرف الله في شؤونه، وفتح لنا مجال الأفكار وميدان الإدراك، وأمرنا بالتفكر والاعتبار، كل هذا لنزداد في عقائدنا قوة، وفي يقيننا ثباتًا ومتانة، وفي أمرنا رشادًا، ولنتقي ما عساه يصل إلينا ممن يطمع فينا، أو يعدو ببغيه علينا. وهذا قرآننا الشريف غالب آياته عبر وروايات عن حوادث الشعوب الأولى، ومرآة للتواريخ الماضية قد ساقها الله لنا في خلال أوامره ونواهيه؛ لتكون أقرع في الحجة وأوقع تأثيرًا في القلوب الحيَّة. وقد مثل لنا كتاب (سر تقدم الإنكليز) حال أمة رقت في المدنية درجة رفيعة عرفها لها أعداؤها، وبهذه المدنية نفسها أصابنا منها ما نشكو إلى الله عواقبه، ونلوم أنفسنا على ما جرَّ بِنا إليه، وقد جعلت من أهم أصول التربية عندها من القوى، ووجهت عنايتها لغرس الوطنية الصادقة في القلوب مع تنظيم أماكن تعليمها، وترقية زراعتها وصناعتها، ثم قابل بينها وبين أمة تركت الاعتماد على العمل، وأهملت كثيرًا من تلك الوسائل في سيرها إلى الغاية التي تسير إليها الأمم، وكانت النتيجة سيادة الأولى وانحطاط الأخرى. أليس يجب أن يكون هذا الكتاب خير موعظة تهدى للاعتبار، وخير ذكرى تقدم لأمة من أصول دينها النظر في الموجودات؛ لتزداد بصيرة في قدرة الله وتدبيره في خلقه، ولتحتاط لنفسها بالعمل على ما تراه من سنن الله في غيرها وفيها، والمقابلة بين السنتين والنظر في سبب تباين الطورين مع الرجوع في ذلك كله إلى أصول دينها. وقد قصد سعادة المترجم بكتابه هذا تنبيه الأفكار إلى معنى جليل ربما لم يخطر على بال الباحث، ولكنه يخطر على بال المتأمل، قصد أن يثبت لأمته أن الأخلاق الفاضلة والتربية الصحيحة أينما حلت في أمة رفعتها لذروة السعادة، وصعدت بها في معارج السيادة، فكيف بنا إذا أخذناها عن ديننا، وهي من أخص مزاياه؟ لا شك أن تأثيرها يكون فينا أعظم، وفعلها في طباعنا أنجح. أي تنديد يسمح به دين الباحث يصح توجيهه إلى مثل سعادة المترجم، وقد أهدى أمته مرآة عِبَر يرى في أحد وجهيها أمة راقية أوج المدنية ببركة التمسك بالعوامل السليمة، وأخرى هابطة من رفعتها بسبب إهمالها تلك العوامل، خصوصًا إذا اعتبرنا أن روح الترقي وهو الاستقلال الشخصي هو بعينه روح الدين الإسلامي، والإسلام هو أول دين أفضى بالعبد إلى ربه مباشرة بلا واسطة رئيس ولا نائب، وهو الذي دعا إلى العمل بالأسباب، وقضى بأن لا سبيل إلى السعادة إلا بالعمل بعد الاستعانة به وحده. وكأني بالباحث يميل إلى القول بأن سعادة المترجم لا يروق في نظره تهذيب الدين وآدابه، ولهذا اختار النصح لأمته من الطريق الذي سلكه، ولكن هذا سَبْق نظر أو سوء ظن بدون قرينة عليه، ومن يطلع على كتابات سعادة المترجم، أو يتلو شيئًا من كتاب (الإسلام) الذي نقله إلى العربية يعلم قوة إخلاصه في دينه وغيرته على يقينه، وهذا كتاب (سر تقدم الإنكليز) قد ختم بفصل في الكلام على الدين، وبيّن أن سعادة الأمم بصلاح الدين، وشقاءها بفساده. وقد ذهب حضرة الباحث في مقالته إلى أن حب الخير وحده ليس كافيًا في سعادة الأمة، بل لابد من بث الرغبة أو الرهبة أو كليهما في الناس، وتلك الرغبة أو الرهبة إن لم تكن من الله تعالى فمن السلطان، وهذا لا نخالفه فيه، وسعادة المترجم لا يطالب الناس بالانسلاخ عن دينهم والابتعاد عن الله تعالى، ولا مخالفة السلطان عند مطالعة كتابه، وأعجب من هذا أن حضرة الباحث قال في مقالته: (لو أراح المؤلف نفسه من عناء التحرير والتحبير، ودعا الناس إلى أخذ علم الدين والأخلاق عن أهله وعلمائه، لأفاد وأجاد، وفينا بحمد الله تعالى من علماء الدين وأطباء النفوس من يعدون بالمئات) . وإنا نسأله بحق دينه أن ينبئنا بأسماء عشرة من تلك المئات حتى ندعو الناس إلى دروسهم، وليخبرنا بدروس الأخلاق والآداب التي يلقونها وأوقاتها، ولا شك أن سعادة المترجم وغيره من أهل الغيرة ينهضون لحث الناس للتربع في حلقات دروسهم. فإن كان من تؤخذ عنه الآداب المصعدة للأمم في درجات الترقي يبلغون هذا العدد، فَلِمَ لَمْ يؤلفوا بأنفسهم الجمعيات لدعوة الناس إلى تلقي الآداب وسماع المواعظ عنهم؟ ولِمَ لَمْ يبدءوا على الأقل بإصلاح خطب أيام الجمعة، ووضعها في عبارة تفهمها العامة، وإيداعها معاني تنفذ في أفئدتهم ويظهر أثرها في عملهم، وأما الجامع الأزهر فإنَّا نسأل الله أن ينبه في علمائه عين الدين، ويوقظ في أرواحهم النظر إلى مصالحه، بل ومصالح أنفسهم. وليت شعري علام عمت الشكوى من المحاكم الشرعية، وحار المصريون في إصلاحها، وما الذي بعث الأجنبي على التداخل في شؤونها، وحمل جميع الكاتبين على الإقرار بوجود الخلل والفساد فيها، وإنما لاموا الأجنبي في الهجوم عليها، وطلبوا منه أن يدع الأمر لأهله، وأن يَكِل إصلاحها إلى أهل الدين حتى يكون قوام الإصلاح هو الشرع القويم. هل قال أحد بأن الشرع قائم في محاكمه؟ هل اعترف أحد بأن العدل غالب على القضاة في تلك المحاكم؟ بل هل أقر أحد بأن النصف من عددهم قائم بالعدل في أحكامه، بعيد عن الهوى في مذاهبه وآرائه؟ فإن لم نجد الصلاح في أولئك القضاة غالبًا، وهم منتخبون من علماء ذلك الجامع المعمور، فهل نجد من يسمع قولنا إذا دعونا العالم لحضور مجالس من تلقوا عنهم. إنهم تلقوا وغيرهم يتلقون دروس الفقه، وشيئًا من دروس العربية، يحضرون تلك الدروس على أنها صناعات، بل على أنها عبارات يجب على الطالب أن يفهمها؛ لأنها ألفت في كتبها لا لأجل أن ينتفع بما دلت عليه كما هو معلوم، أما الآداب السامية فهي في بطون الكتب التي لا يقرءونها، ويعدها الكثير منهم من سقط المتاع، فهل من واعظ يعظ من يحق لهم أن يعظونا؟ تكلم الكاتب على النظافة - نظافة الظاهر ونظافة الباطن - فهل نجد بها عناية في ذلك المحل الذي يجدر به أن يكون أنظف مكان وأقدسه وأشرفه، إلا أننا نستجير بمثل الكاتب في إرشاد أهله ومتولي شؤونه أن يجعلوه ومن فيه قدوة في النظافة ظاهرًا وباطنًا. إن الكاتب لم يذكر إلا شخصًا واحدًا من أهل العلم ألَّف جمعية (مكارم الأخلاق) فنعم الصنيع صنيعه، ونسأل الله أن يرشده إلى أقوم السبل فيما هدي إليه وأن يقيه شر العجلة واستسهال نيل الغاية حتى يظهر لعمله من الأثر ما نحبه لعامتنا. فهذا كله يحملنا على أن ننظر في سِيَر غيرنا لنعلم كيف وصلوا إلى السيادة على غيرهم، فإذا رأيناهم وصلوا بالعمل لا بالقول، ورجعنا إلى ديننا فوجدناه قائمًا على رؤوسنا ينادينا بقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة: ١٠٥) استحينا وخجلنا، وقلنا: ما كان أجدرنا بأن يعمل كل منا بما هو ميسر له، وما كان أولانا بالجد وترك الهزل، وما أحقنا بالنظر إلى الغايات دون النظر في تحقيق العبارات. وإني أرى من الواجب على حضرة الباحث وهو أعلم منا بمعاهد التربية ودروس الآداب أن يبدأ بتأليف جمعية من الشبان إن كان شابًّا، ومن الكهول إن كان كهلاً، ومن الشيوخ إن كان شيخًا، فنذهب إلى تلك الدروس ونتلقى من الآداب ما يعيد إلى الأمة ما فقدته من دينها، ويحيي فيها ما أماتته التقاليد من عقائدها، وعليه أن يعلن ذلك، فأكون أول الساعين معه إليها، وأنا في انتظار ذلك إن شاء الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ح. ع)