للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تزويج الشريفة بغير شريف
وفضل أهل البيت

(س ٢٩) مستفيد في (سنغافورة) سيدي هل هذه الفتوى (المذكورة أدناه)
صحيحة ويجوز العمل بما فيها، أم الأصح خلافها أفيدونا لا زلتم خير خلف لخير
سلف عن جوهر الإسلامية، وأرجو من حضرتكم الكلام عنها في المنار وهي:
ما قولكم في من يستحل تزويج الشرائف بمن ليسوا بأشراف، بل لو كان
بعضهم يزعم أنه هاشمي أو مطلبي، أو من بقية قريش فهل يصح تزويجهم
بالشرائف أو لا؟
(الجواب والله أعلم بالصواب)
اعلم أن مراعاة الكفاءة في النكاح واجبة، وهي في النسب على أربعة درجات
(كذا) الأولى: العرب لا يكافئهم غيرهم من العجم، الثانية: قريش لا يكافئهم
غيرهم من بقية العرب، الثالثة: بنو هاشم وبنو عبد المطلب لا يكافئهم غيرهم من
بقية قريش، الرابعة: أولاد فاطمة الزهراء بنو الحسن والحسين -رضي الله عنهم-
لا يكافئهم غيرهم من بني هاشم، والدليل عليه كما في التحفة والنهاية وغيرهما
خبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من العرب كنانة،
واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم) والأحاديث الواردة في
فضل العرب وفي فضل قريش وفي فضل بني هاشم كثيرة جدًّا. وقال ابن حجر في
التحفة والرملي في النهاية: أولاد فاطمة لا يكافئهم غيرهم من بقية بني هاشم؛ لأن
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن أولاد بناته ينتسبون إليه في الكفاءة وغيرها
كالوقف والوصية كما صرحوا به (انتهى) لأنهم أبناؤه كما ثبت في قصة المباهلة
في قوله تعالى {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} (آل عمران: ٦١) فإنه ورد أنه خرج
ومعه الحسن والحسين وعلي وفاطمة، وروى الحاكم قال صلى الله عليه وسلم:
(لكل بني أم عصبة إلا أبناء فاطمة فأنا وليهم وعصبتهم) وأخرج الترمذي عن أسامة
أنه صلى الله عليه وسلم أجلس الحسن والحسين يومًا على فخذيه وقال: (هذان
ابناي وابنا بنتي اللهم إني أحبهما فأحبهما) وأخرج الطبراني وغيره أنه صلى الله
عليه وسلم قال: (كل بني أم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا
عصبتهم) (انتهى) .
فقول الشارع نص، ويترتب عليه أحكام البنوة في الأشباح والأرواح
كالحسن والحسين وأولادهما، والتشريف ببعض خصائصه صلى الله عليه وسلم
فوجوب الصلاة عليهم ودخولهم في آية التطهير وتحريم الزكاة عليهم وافتراض
محبتهم على الأمة وغير ذلك، ثم اعلم أن الشرف قسمان ذاتي، وصفاتي وقد
اصطلح العلماء على أن الشرف الذاتي للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنه بالنسبة
لذريته فكما كانت ذات النبوة مختارة الله من الوجود فجعلها الله معدنًا لكل نعت
محمود، ولم يزل يسري منها في شعبها مظهرها في المعدن، ومع ذلك فقد بلغ
الجليل الكبير في كمال التطهير لها كما قال: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب:
٣٣) لا بعمل عملوه، ولا بصالح قدموه، بل بسابق عناية من الله لهم فتأثير
البَضْعة النبوية لا يدركه أكابر الأولياء من غيرهم، ولو جاهدوا أبد الآباد، ولهذا
السر قال الله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: ٢٣)
إذا عرفت ذلك واتضح لك أن مقام ذات النبوة وقدرها لا يدرك، وعرفت أن الكفاءة عند العرب بل وغيرهم أمر مرعي وقد جاء الشرع في ذلك على موافقة عادتهم وعرفت أن تزويج الأدنى بمن ليس كفوءًا لها ملحق عارًا على عصبتها كما
صرح به الفقهاء الواصل ذلك العار عند تزويج الشرائف بغير الأشراف إلى مقامه صلى الله عليه وسلم فحقق لديك أن الجراءة على ذلك إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم ولذريته، وأي إيذاء أعظم من إلحاق العار فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من
آذى أهل بيتي فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله) وقال عليه الصلاة والسلام:
(لا تؤذوني في أهل بيتي) ... إلخ، وقال عليه الصلاة والسلام: (احفظوني في أهل بيتي) فإيذاؤهم من أكبر الكبائر ومن استحله كفر فلا يجوز تزويج غير
السيد بالسيدة، ولو رضيت وأسقطت الكفاءة أو رضي وليها؛ لأن الحق ليس
لهما؛ لأنه شرف ذاتي ليس من كسبهما حتى يسقطاه بل له- صلى الله
عليه وسلم - ولكافة أبناء الحسنين، ولو يتصور رضاهم، وقد ثبت أنهم مَوَالٍ
على ما سواهم من كافة الخلق بنص حديث: (من كنت مولاه فعلي مولاه) وهل
يجوز تزويج العبد مولاته، لا قائل به، بل قد منع خليفة الزمان السلطان عبد الحميد
خان أيده الله تبعًا لسلفه تزويج السيدات بغير السادة، وأمر الخليفة يجب العمل به
في المباحات فضلاً عن الموافق للحكم الشرعي. وأما ما نسب إلى الإمام مالك عالم
دار الهجرة - رضي الله عنه - أن المسلمين أكفاء فلا يبعد أنه مقول عليه؛ لأنه
ثبت عنه أنه امتنع من لبس النعال في المدينة؛ فقال: أستحي أن أطأ بنعلي أرضًا
وطئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدمه فمن استعظم، واستشرف أرضًا وطئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدمه يبيح ويستحل افتراش ووطء
بضعته صلى الله عليه وسلم؟ يجل قدره عن ما نسب إليه - رضي الله عنه - وفي هذا
القدر كفاية لمن منَّ الله عليه بالهداية، ومن قال بخلاف ما ذكر؛ فإما عدم اطلاع،
وإما جهل بقدره - صلى الله عليه وسلم - وقدر أهل بيته، بل من تجرأ وارتكب ذلك
بعد اطلاعه على ما ذكر؛ فهو ضعيف إيمان، بل مسلوبه لمراغمته، ومعاندته
للشرع يخشى عليه من سوء العاقبة و {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} (الأعراف: ١٨٦) حفظنا الله من ارتكاب الموبقات، وعصمنا من الهجوم على
الخطيئات، وعرفنا قدر نبيه وأهل بيته السادات إنه ولي التوفيق غير أنه معلوم لدي كل ذي عقل أنه للضرورات تباح المحظورات وارتكاب أخف الضررين لدفع الأشد متعين فلا يلزمك العناد ارتكاب الفساد والعدول عن سبيل الرشاد. وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: قاله بفمه وكتبه بقلمه أضعف الناس
عمر بن سالم العطاس عفى الله عنه آمين، وذلك في شهر محرم سنة ١٣٢٣ هـ.
(ج) سبق لنا أن نشرنا في هذه المسألة سؤالاً لأحد القراء في سنغافوره في
واقعة حال هناك ثم جاءنا من سنغافوره رسالة بتوقيع أحد الحضارمة رغب إلينا
مرسلها أن نرمز له بحرفي ع. ب قال فيها بعد الثناء والإطراء: إن ما نشرناه في
الواقعة (في ج ٦ م ٨) لم يكن السؤال فيه مطابقًا للواقع، وإن الشريفة التي
تزوجت بالسيد الهندي قد زوجها وليها الشرعي برضاه ورضاها مع علمها بأن
الزوج مطعون في نسبه على أنه قد شهد ١٢ شاهدًا من أهالي بلده وغيره بالسيادة له
وإن ما ذكره السائل أيضًا عن طعن ذلك الرجل بكتب الشرع غير صحيح، وطلب
منا هذا الكاتب أن نذكر الحكم في الواقعة على ما قرره هو من تزويج ولي الشريفة
لها برضاه ورضاها على أنه لا حاجة إلى ذلك؛ فإن الجواب الأول ناطق بصحة
العقد في هذه الحالة. وقد فهمنا من الرسالة ومن مجموع ما كتب إلينا في معناها من
تلك الجزيرة أن سبب الاهتمام بهذه المسألة هو أن بعض السادات الحضرميين الذين
يوجد منهم طائفة هناك غالون في التفاخر بأنسابهم، والإدلال بأحسابهم، ولذلك
ذهبوا في الغلو إلى ما تراه في فتوى الشيخ عمر بن سالم العطاس التي سألنا عنها
أحد القراء في سنغافوره، وقد أرسلا إليها صورتها مطبوعة فعلمنا أنهم طبعوها
ووزعوها لإثبات اعتقادهم في أنفسهم.
أما الحق في مسألة الكفاءة؛ فهو ما بيناه في الجزء العاشر من المجلد السابع
أيام حادثة الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، وقد نقل المؤيد ما كتبناه يومئذ فاطلع
عليه الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية -رحمه الله تعالى -وكان في مصيف رأس
البر فكتب إلي: (اطلعت في المؤيد على ما كتبت في الكفاءة والأولياء واستحسنته)
وإنما اطلع عليه في المؤيد؛ لأنه نشر فيه ما كتبت قبل أن أرسل المنار، ولذلك كتب
إليّ الإمام في ذلك الرقيم (كنت أنتظر أن يصل إلي المنار هنا؛ ليكون مما ألقي
عليه نظري إذا أرجعته عن أمواج البحر الأبيض، ولم أطلقه إلى بساط النيل
الأحمر فإني جالس طول يومي بين البحرين) والمقصود أن الأستاذ الإمام قد أجاز
ما كتبته في الكفاءة فكأنه أفتى به.
أما المنزع الذي رمى عنه الشيخ سالم العطاس فهو غريب، وأوغله في الغربة
والغرابة جعل الكفاءة في الشرفاء حقًّا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولجميع أبناء
الحسنين بحيث لا يصح تزويج الشريفة بغير شريف ولو رضيت ورضي وليها؛ إذًا
لا يتصور أن يرضى - النبي صلى الله عليه وسلم - وسائر الشرفاء في مشارق
الأرض ومغاربها، واستدلاله على ذلك بكونه إيذاء للنبي بإيذاء أهل بيته، قال:
وإيذاؤهم من أكبر الكبائر يكفر مستحله ثم استدلاله أيضًا بحديث (من كنت مولاه
فعلي مولاه) على كون ذراري علي موال على من سواهم من جميع الخلق
بالنص وخروجه من ذلك إلى أن جميع الناس عبيد لهم، وأنه لا قائل بجواز
تزويج العبد لمولاته! نعوذ بالله من هذا الغلو والغرور.
يستدل الشيعة بحديث (من كنت مولاه فعلي مولاه) على أن عليًّا أحق
بالخلافة ممن سبقه فيها، ولا أعرف عنهم أنهم بعدوا في الاستدلال إلى جعل جميع
الناس عبيدًا له ولذريته، بل لم يقل مسلم بأن الناس عبيد للنبي - صلى الله عليه
وسلم -، بل الإسلام يمنع هذا فمن أين جاء به العطاس يرحمه الله ويصلح باله.
وكيف يتفق استنباطه هذا مع ذكره السلطان عبد الحميد بلقب الخلافة، وإذا كان
غير الشريف العلوي الفاطمي لا يجوز أن يكون زوجًا للشريفة؛ لأنه عبدها فكيف
يكون العبد خليفة على ساداته ومواليه الذين لا يحصى عددهم، والخليفة مولى
لرعيته يجب عليهم طاعته في كل معروف، وأما الزوج فليس مولى لامرأته بهذا
المعنى، بل يقول جماهير الفقهاء: (إنه لا تجب عليها طاعته إلا في المكث في
البيت والتمكين من الاستمتاع) . والحق أن لفظ المولى في الحديث معناه الناصر،
كما قال الجوهري في الصحاح، ويطلق في اللغة على الصاحب، والقريب،
والجار، والحليف والنزيل والشريك، والعبد، والمعتق، فكيف يسمح لنا الدين أن
نتخطى هذه المعاني ونقول: إن الحديث نص في أن الناس عبيد لذرية علي؟ هل
كان أبو بكر وعمر والعباس وغيرهم من الصحابة وسائر المسلمين عبيدًا لعلي في
حياته، وهل ملك أولاده من بعده الناس بالإرث أم نص الحديث دال على أنهم
يملكونهم بالاستقلال في كل زمان؟ ظاهر قول العطاس الثاني، وكل مسلم يبرأ إلى
الله من الأول والثاني.
كان الشرفاء ومازالوا يزوجون بناتهم من غيرهم، وجميع العلماء يستحلون
هذا مع التراضي، وسائر الناس تبع لهم؛ فهل يقول العطاس: إن جميع من
استحل ذلك كافر حتى المزوجون والمتزوجات بالرضا والاختيار، فيكفر الشرفاء
مبالغة في تعظيمهم؟ .
ليس هذا المنزع الذي رأيت بأغرب من منزعه الآخر في جعل النسبة إلى
الحسن والحسين في معنى نبوة النبي - عليه الصلاة والسلام - من حيث إن شرفها
ذاتي غير مدرك، وأنها من اختيار الله تعالى، وأنها منبع لكل نعت محمود وأن
أكابر الأولياء لو جاهدوا أبد الآباد لا يلحقون لشريف أثرًا؛ لأن الله تعالى بالغ في
كمال تطهير آل البيت إذ قال: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: ٣٣) لا بعمل
عملوه، ولا بصالح قدموه، بل سابق عناية من الله لهم، ثم قال: ولهذا السر قال
الله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: ٢٣) .
فانظروا أيها المنصفون كيف يلعب بكتاب الله ويحرف كلامه عن معناه،
بدعوى الاهتداء بهديه، والعمل بأمره ونهيه، وإنما هو اتباع الهوى، شرد
بالغالين عن معهد الهدى، وأحمد الله تعالى أن جعلني شريفًا غير مفتون، وجنبني
وقومي مزالّ الغرور، فأما قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: ٣٣) فقد ورد تعقيبًا لآيات في خطاب نساء
النبي - عليه الصلاة والسلام - يأمرهن الله تعالى بها وينهاهن، ويعلمهن بأن
جزاءهن على الخير والشر مضاعف؛ لأنهن لسن كسائر النساء، وهذا ظاهر معقول
المعنى؛ فإن بيت المرشد الكامل قدوة في الهدى والرشاد، ولو ظهر العمل السيئ
من ذلك البيت الذي جعله الله منبعًا للهدى ومشرقًا للوحي لكان أعظم منفر عن
الاهتداء والإيمان، فقوله تعالى بعد تلك الأحكام (إنما يريد الله) ... إلخ تعليل،
وبيان للحكمة في كون نساء النبي لسن كسائر النساء وكونهن جديرات بمضاعفة
العذاب على المعصية والثواب على الطاعة لمكان القدوة كقوله تعالى بعد ذكر أحكام
الصيام وما فيها من الرخص {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة:
١٨٥) وإنما قال (عنكم) لأن النبي صلى الله عليه وسلم في البيت وهو المقصود
بالتطهير أولاً وبالذات؛ لأن كمال نسائه ينسب إلى هدايته صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى:
٢٣) فليس معناه أنه يطلب من الناس مودة قرابته أجرة بتبليغه أحكام ربه حاش
لله ما كان لنبيه أن يطلب على التبليغ أجرًا، كما نطق القرآن ونهض البرهان،
وإنما الاستثناء منفصل، ومعناه لا أسألكم أجرًا على ما جئتكم به فتتوهموا أنني
طالب منفعة لنفسي، وإنما أسألكم ما هو نافع لكم، وهو المودة في القرابة، أي أن
تودوا ذوي القربى منكم فهو إذًا بمعنى ما يؤثر عن الإنجيل من الأمر بمحبة القريب،
أو أن تودوني في قرابتي منكم، لا لأني بعثت لهدايتكم فعاملوني معاملة سائر
الأقربين، ولا تؤذوني، وأما الدين (فلكم دينكم ولي دين) لست عليه بجبار، وإنما
عليّ البلاغ وللناس الخيار.
وعقب هذا بقوله: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} (الشورى: ٢٣)
والآية من سورة الشورى، وهي مكية من أول القرآن نزولاً وأمثال هذا الخطاب في
الدعوة والاستمالة إلى الحق كثيرة، ولا يمكن أن يحمل لفظ القربى فيه على ذرية
فاطمة - عليها السلام - لما تقدم، ولأنها لم تكن تزوجت ولا ولدت في ذلك العهد.
سبق (للمنار) قول في تفسير هذه الآية وفيه أن الشيعة هم الذين افتحروا لها
هذا المعنى غافلين عما وراءه من الطعن في الرسالة، واحتجاج الكافرين على
المؤمنين بأن الرسول كان يطلب بدعوته الدنيا لذريته كالملوك والأمراء. وإن
القرآن بجملته وتفصيله، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأهله
ومعاملته للناس، وتوليتهم الأعمال كل ذلك مما ينسف هذه الشبهة نسفًا.
أي غلو (العطاس) - يرحمه الله ويصلح باله - ليس بالغريب؟ أإنكاره قول
الإمام مالك أن المسلمين أكفاء، واحتجاجه على ذلك بما كان من أدب هذا الإمام
مع النبي - عليه السلام - إذ كان لا يطأ أرض المدينة، واستنباطه منه عدم إباحة
افتراش البضعة النبوية ووطئها؟ أيظن أن الإمام مالكًا كان يحرم أن يمشي الناس
في المدينة بالنعال، أو أن تركب فيها الحمير والبغال؟ أيظن أنه يقيس اتخاذ المرأة
زوجًا وقرينة لرجل تشاركه في نعمته وتتحد معه في معيشته على وطء الأرض
بالنعل أو بغير النعل؟ ما هذا الفقه المقلوب؟
يسهل على من يسلك مسلك هذا المفتي في الاستنباط أن يستخرج من كلامه ما
يعده الفقهاء من المكفرات فيكفره كما كفر من يخالف فتواه، أو كاد يكفر بها جميع
المسلمين، والحق أنه لا يحكم بكفر أحد من أهل القبلة إلا بقول أو عمل يدل
دلالة قطعية على أنه لا يؤمن بالله، وبما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
مما هو متواتر مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة؛ فمن آذى شريفًا من آل
البيت لحظ من حظوظ الدنيا يكون عاصيًا لله كما لو آذى غيره؛ لأن الإيذاء حرام،
وأما من يؤذي الشرفاء لأنهم ينتمون إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -
فالأقرب أن يكون إيذاؤه إياه بهذا القصد معلولاً لكفره به لا علة له؛ إذ لا يعقل أن
يقصد المؤمن ذلك فلا يظهر هذا إلا فيمن يؤذي كل من قدر على إيذائه منه، فمتى
خصص فردًا أو أفرادًا علم أنه لا يؤذيهم لأجل النسبة.
وجملة القول أن الشريعة الإسلامية شريعة عدل ومساواة، لا شريعة تقسيم
ومحاباة، وأحكامها عامة مدار العبادات فيها على تزكية النفس، وتحليتها
بالفضائل، ومدار المعاملات على درء المفاسد والمضار، وجلب المنافع وحفظ
المصالح، وليس لأحد أن يخص الشرفاء أو غيرهم بأحكام شرعية تؤخذ بالتسليم
على أنها من التعبد؛ فأبناء الحسنين وغيرهم من الناس سواء في أحكامهم، وما
ورد في تخصيص آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأحكام كتحريم
الصدقة عليهم معقول المعنى، ولا يجوز لأحد أن يزيد عليه؛ لأن التخصيص خلاف
القياس؛ فلا يقاس عليه، وفي الحديث الصحيح أن الآل في باب تحريم الصدقة
هم بنو هاشم وبنو المطلب، لا ذرية فاطمة خاصة. وأن الكفاءة في النكاح لا
يستدل عليها بالفضائل والخصائص، وإنما يرجع فيها إلى نص الشارع، أو القياس
الصحيح. أما نص الشارع؛ فلم يصح منه في مسألتنا شيء، قال الحافظ ابن حجر
في شرح البخاري: لم يثبت في اعتبار الكفاءة في النسب حديث، أما ما أخرجه
البزار من حديث معاذ رفعه (العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي بعضهم أكفاء
بعض) فإسناده ضعيف. اهـ وإنما الكفاءة الثابتة في السنة خاصة بالدين والحرية
والأخلاق واليسار وهذا ما كان عليه أكثر أهل الصدر الأول، من قال من الفقهاء
باعتبارها في النسب فحجته الصحيحة القياس، ومداره على دفع العار؛ فإذا لم يكن
هنالك عار بالفعل فلا اعتبار بالنسب في الكفاءة، وعلى هذا أكثر البلاد الإسلامية
فيما نظن، وإذا رضيت امرأة شريفة هي وأولياؤها بالتزوج بمَنْ ليس بشريف في
بلاد يعد ذلك فيها من العار، فلا حرج عليهم؛ لأنهم أعلم بمصلحتهم، وأحرص على
شرف أنفسهم والأمر ليس تعبدي، ولو كان ما ذكره (العطاس) من فضل أهل
البيت يجعل استنباطه صحيحًا وداخلاً في الأحكام التعبدية لكان لنا أن نقول مثله في
العلماء، فإن ما ورد في الكتاب والسنة في مدح العلم والعلماء أعظم وأظهر مما
ورد في آل البيت فهل نقول: إنه لا يحل للعالم أن يزوج ابنته بمن ليس بعالم؛ لأن ذلك إهانة للعلم الذي عظمه الله تعالى؟ ! فالأمر فيه ليس إليه، وإنما
هو متعبد بذلك؟ كلا، إن الزواج من المعاملات التي تبنى على أساس المصلحة، وكل قوم أعلم بمصلحتهم والشرع لم يحجر عليهم في اختيار الخير، وإنما حرم
عليهم الإيذاء، والله أعلم وأحكم.
هذا وإنني لا أظن بالشيخ (عمر بن سالم العطاس) إلا الخير، وحسن النية
وأشكر له حبه للشرفاء، ولولا أن فتواه طبعت لما رددت عليها في المنار، وأسأل
الله تعالى أن يحفظنا وإياه من الغلو، ويلهمنا رشدنا أجمعين.