للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي
الآخِرِين} (الشعراء: ٨٣) ، {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: ١٠١) .
فلك الحمد أن جعلت سِير الأولين عبرة للآخرين، ومننت على عبادك بمن
بعثته في الأميين، يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من
قبل لفي ضلال مبين، محمد خاتم النبيين، ورحمتك العامة للعالمين، فَصَلِّ وسلم
اللهم عليه وعلى آله وصحبه، والمجددين لهديه وإصلاحه من بعده، حتى ترث
الأرض ومن عليها، وأنت خير الوارثين.
أما بعد، فيقول محمد رشيد رضا صاحب المنار: إن مصر لن تنسى ذكر
الحكيمين المجددين، والإمامين المصلحين، السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ
محمد عبده المصري، فطلاب الإصلاح الديني والإصلاح المدني والإصلاح
السياسي، لا يفتئون يشيدون باسميهما على أعواد المنابر، وفي أعمدة المجلات
والجرائد، ولا يزالون يجعلونهما مضرب الأمثال، ويتناقلون ما يُؤثر عنهما من
حكم الأقوال، وجلائل الأعمال، بل ذكرهما الحميد معروف في سائر الشرق، غير
مجهول في عالم الغرب، وإن لقب (حكيم الشرق) ولقب (الأستاذ الإمام) لاصقان
بهما، ومُغنِيان عن تسميتهما.
وقد أجمع العارفون والمدونون للتاريخ الحديث على أنهما مصدر هذه النهضة
العصرية في مصر والأفغان وإيران والهند، وهم يشعرون بالحاجة إلى وضع
تاريخ لهما يدون سيرتهما، ويفصِّل أعمالهما الإصلاحية، ويرون أن ما كتب في
الصحف عند وفاة كل منهما، وما ينشر فيها أحيانًا من التنويه بإصلاحهما نَزْرٌ
يسير من أعمالهما وآرائهما النافعة. وعجب بعض المفكرين أن رأوا بعض الإفرنج
يكتب في تاريخهما ما لم يكتب مثله أولادهما وأحفادهما من دعاة الإصلاح والتجديد.
وينحون بأشد اللائمة على المصريين منهم عامة، وعلى صاحب المنار
خاصة! إذ كان أخص مريدي الأستاذ الإمام وناشر علمه وحكمته، والمدافع عن
إصلاحه في عهده ومن بعده، وقد وعد بكتابة تاريخ له عقب وفاته، فنشر سفرًا
جمع فيه أكثر منشآته القلمية، وجزءًا جمع فيه أهم ما قيل وما كتب في تأبينه
ورثائه، وسماهما (الجزء الثاني والثالث من تاريخ الأستاذ الإمام) وقد مرَّ ربع قرن
ونيف ولم يصدر الجزء الأول الذي هو التاريخ الحقيقي.
أشهد أن لوم اللائمين لمصر على هذا التقصير حق، وإنني بما يخصني من
التثريب علي لأجله - وهو أكبره - أحق، ورب لائم مليم، ورب ملوم معذور،
وها أنذا ألخص عذري بعد أن اعترفت بتقصيري، وبرئت من ذنبي بإنجاز وعدي.
توفي الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في إثر معارك من جهاده في الإصلاح ما
صلي نارها معه غيري، وحملت ما تصديت له من الضرر، غير متململ ولا
ضَجِر، وأما ما لذع قلبي من نار فقده فهو الذي لم يكن لي بحمله حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم، ثم كنت مهددًا بعده بالنفي من هذه البلاد كما هُددت في آخر
عهده، وقد وطَّنت نفسي على النفي وعزمت على السفر إلى الهند، ولم أتحول عن
خطتي قيد شعرة.
أعلنت عزمي على كتابة تاريخ للأستاذ الإمام فلم ألبث أن بُلِّغت عن الأستاذ
الشيخ عبد الكريم سلمان أن أصدقاءه قد قرروا تأليف تاريخه بالتعاون بينهم وهم به
أولى، فقلت للمُبَلِّغ: إن تأليف تاريخين لهذا الإمام الكبير ليس بكثير ولا كبير
فليكتبوا ما عندهم ولأكتب ما عندي.
ثم أرسل إليَّ عميد حزبه المدني وأقوى أركانه سعد باشا زغلول، وكان عاد مع
شقيقه أحمد فتحي باشا من أوربة، فجئته فبلَّغني أنه هو وإخوانه من مريدي الإمام
وأصدقائه يرون أن أتولى كتابة تاريخه، وأن يساعدوني بما لديهم من المواد
والمعلومات، ثم يساعدوني على طبعه ونشره بالمال، بشرط أن أطلعهم على عملي
وأستشيرهم فيه؛ فإن كثيرًا من سيرته - رحمه الله - كانوا يُعَدَّون متكافلين معه فيه،
ويُعَدَّون من بعده مسئولين عنه.
فأجبته أنني لست إلا واحدًا منكم، بل أنا أصغركم، ولا أستغني عن
مساعدتكم ومشاورتكم، ولا أحب الخروج عما ترونه من مصلحتكم. وفي إثر ذلك
اجتمع بدعوة منه: الشيخ عبد الكريم سلمان وحسن باشا عاصم ومحمد بك راسم
وقاسم بك أمين والشيخ عبد الرحيم الدمرداش باشا، وقرروا ندب أحدهم - أحمد فتحي
باشا زغلول - ليكون نائبًا عنهم في التعاون والتشاور معي في العمل، وبلَّغوا حمودة
بك عبده ذلك، وأنه يرضيهم أن يعطيني ما عنده من مواد هذا التاريخ؛ وإنما
اختاروه لذلك لأنه أنشطهم وأقدرهم عليه وأكثرهم مودة وزيارة لي، وطلاقة في
حرية الكلام معي، وكان هو المتصل من جماعتهم بسمو الخديو، ومحيطًا بسياسته
وسياسة الإنكليز في الأمور علمًا، وهما الجانبان اللذان يحسب لرضاهما وسخطهما
كل حساب.
وكان كل ما قدمه لي من المساعدة نسخ مقالات الأستاذ الإمام الإصلاحية من
جريدة الوقائع المصرية الرسمية، إذ كان يقتني مجموعتها، وكان أول ما شاورته
فيه مقالات جريدة العروة الوثقى وكانت كلها منسوخة عندي، فأما ما كان منها
خاصًّا بالسياسة ومسألة مصر والسودان وتهييج العالم الإسلامي والهند على الدولة
الإنكليزية - فقد وافقته على تركه وعدم نشر شيء منه في منشآته؛ لأن الحرية في
مصر لا تتسع لنشره، وقد كانت العروة الوثقى ممنوعة من مصر والسودان والهند
لأجلها، وقد نشرت أهمها في هذا الجزء، وأعطاني حمودة بك بعض المواد ومن
أهمها ما كتبه الأستاذ من تاريخ الثورة العرابية.
وأما المقالات الإصلاحية العامة التي بث الحكيمان فيها الدعوة إلى جمع كلمة
المسلمين وإصلاح ذات بينهم، والتعاون على إحياء مدنيتهم بما تقتضيه وسائل هذا
العصر - فقد اتفقنا على نشر أكثرها، وترك ما تعده إنكلترة تحريضًا عليها منها؛
ولكنه أشار أيضًا بحذف جمل من بعض المقالات ما وافقته عليه إلا كارهًا، وأيقنت
أنني لا يمكنني أن أكتب هذا التاريخ تحت مراقبته والتقيد بمشاورته بالحرية التي
أريدها، وقد ساعدتني اللجنة بمبلغ من المال أعطيتها في مقابله مئات من النسخ
وزَّعها أعضاؤها بالمجان، وبِيعَ بعضها بثمن بخس.
فهذا ما حملني على التعجيل بجزء التأبين والرثاء والتعازي، ثم بجزء
المنشآت، والتسويف بجزء الترجمة، ثم التطويل في فصول تربية الأستاذ الإمام
وتعليمه منه بذكر ذلك الاستطراد الطويل في الكلام على حقيقة التصوف وما يوافق
الكتاب والسنة وما يخالفهما منه.
واتفقنا على جعل ترجمة المنار للأستاذ الإمام هي الأصل لجزء الترجمة في
مواده مع بسطها والتوسع فيها، وقد قرأه هو ورتَّبه وأشار بالحبر الأحمر إلى حذف
بعض المسائل منها لمخالفتها لمقتضى الحال أو سياسة الوقت.
وفي أثناء ذلك استقال لورد كرومر العميد البريطاني وخلفه السر ألدون
غورست صديق سمو الخديو، وكان ذلك في أوائل سنة ١٣٢٥ قبل أن تتم على
وفاة الإمام سنتان، فكبر نفوذ سموه في الحكومة وضاقت بكبره سعة الحرية علينا،
وأعيد في عهده العمل بقانون المطبوعات، فاقتنع أحمد فتحي باشا نفسه بأن كتابة
تاريخ الأستاذ الإمام كتابة حرة مفيدة صار متعذرًا، فاتفقنا على الوقوف عند ما كان
قد تم منه، وهو إلى ٢٣٢ صفحة، وهو المقدار الذي أطلعت عليه الشيخ عبد
الكريم سلمان إذ رأيته شاكًّا في بدئي بطبع الكتاب، فاعترف بأنه لا يمكن نشره.
وجملة القول: إن طبع هذا الجزء كان يسوء الخديو عباسًا، وإن لم ينشر فيه
ما كان من مقاومته للإمام في إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية والأوقاف حتى
المساجد؛ فإن نشر هذا فيه كما يراه القارئ هنا فإنه كان يبذل كل قواه في عقاب
مؤلفه، وما كان أحمد فتحي باشا ليرضى بذلك، ولا سعد باشا أيضًا، ومكانهما في
حكومة جنابه مكانهما.
وما انتهى عهد سموه إلا بسبب الحرب الكبرى التي جعلت الحكومة
الإنجليزية مصر في أثنائها خاضعة لأحكامها العسكرية وأعلنت حمايتها عليها،
واشتدت مراقبتها العسكرية ومراقبة الحكومة المحلية بأمرها على المطبوعات،
واستمرت هذه المراقبة الشديدة إلى ما بعد الحرب بزمن طويل.
وإنما سنحت الفرصة الأولى لإصدار الكتاب في العهد الأخير لسعد باشا في
زعامة الأمة ورياسة الحكومة واستقرار نفوذه في البلاد أي في سنة ١٣٤٥ هـ، إذ
لم يبق للإنكليز من النفوذ القوي في هذا العهد ما يخشى أن يمكِّنهم من حمل
الحكومة على مصادرته، على أن ثورة مصر قد انتهت ولم يعد ما في الكتاب من
التحريض السابق يضيق على حريتهم، بيد أنه قد عاقني عن افتراص هذه السانحة
بالسرعة عدة عوائق؛ منها أنني كنت انتقلت من الدار التي طبعت فيها القسم الأول
من التاريخ إلى دار أخرى، وتعذر وضع كل نوع من المطبوعات الكثيرة وحده،
فلم نقدر على العثور على المطبوع من التاريخ إلا بعد الانتقال إلى دار المنار
الجديدة ووضع كل كتاب من مطبوعاتنا في محل خاص به، وإنما تم بعد وفاة سعد
رحمه الله تعالى، وقد وجدنا بعض المطبوع تالفًا وبعضه قد فُقد، فاضطررنا إلى
إعادة طبع أكثرها.
وشرعت في إتمام الكتاب في أواخر سنة ١٣٤٨، وعرض لي موانع عن
المضي فيه مدة سنة، وعدت إليه في أواخر سنة ١٣٤٩، وكنت أقدِّره بثمانين
كراسة (ملزمة) أو مائة، ثم كنت كلما شرعت في مقاصد فصل من الفصول
أتذكر من مواده ومسائله ما كنت ذاهلاً عنه حتى بلغ ما يراه القارئ، وقد صبرت
نفسي وحبستها على كتابة ثلثه الأخير أربعة أشهر من هذا العام (١٣٥٠) لا
أشرك به عملاً آخر حتى تم طبعه في هذه الأيام، وبقي كثير من المواد والمستندات
من تاريخه وتاريخ السيد جمال الدين ضاق عنها هذا الجزء فوعدت بإثباتها في
جزء الذيل الذي أضعه له إن شاء الله.

كيف كُتب هذا التاريخ:
كُتب هذا التاريخ في أثناء سنين كثيرة وفترات بعيدة، وأوقات يختلف فيها
الفكر والشعور باختلاف الأحوال، والأناة، والاستعجال، ولم تكن مواده مجموعة
مرتبة؛ وإنما جريت في ترتيب أكثرها على ما كتبته في المنار عقب وفاة الأستاذ
الإمام من ترجمته، ومنها ما ليس له ذكر في تلك الترجمة، ومن ثم يجد القارئ فيه
تكرارًا لبعض المسائل عن سهو أو عمد، وربما تختلف فيه العبارة في المسألة
الواحدة بعض الاختلاف في اللفظ كاختلاف الورق، ولا سيما المسائل التي اعتمدت
في كتابتها على حفظي، وأرجو أن لا يكون فيها شيء من التناقض؛ فإنني بفضل
الله تعالى قوي الذاكرة للمعاني.
ولولا أن طال هذا الجزء حتى صار يثقل حمله، وعطلت أهم أعمالي لأجل
إتمامه، مع سوء الحال، وقلة المال - لوضعت له خلاصة كلية ألخص فيها مقدمات
كل مقصد من مقاصد فصوله ونتيجته، وأبيِّن مواضع العبرة فيه على نحو ما
ذكرته في أثنائه لبعضها، كأن أعد ما كان عليه الأزهر قبل تصدي الإمام لإصلاحه
من الصفات والأحوال واحدة واحدة، وأعد ما كان عليه شيوخه وطلابه من
الصفات والعادات والأعمال صفة صفة وعادة عادة وعملاً عملاً، ثم أبيِّن ما كان
من تغيير الإصلاح لبعض ما ذكر، وأعد فوائده واحدة بعد واحدة، ومثله أن
ألخص آراءه في التربية والتعليم، فأعد المفاسد التي ذكرها في لوائح إصلاح
التعليم في الدولة العثمانية وفي مصر، وما ذكره منها في خطبه في احتفالات
مدارس الجمعية الخيرية، ثم أعد ما ذكره في تلك المواضع وغيرها من قواعد
الإصلاح كلها وهي التي أدعو إليها، ولكنت أفعل هذا في كل فصل بل كل مقصد،
وإذًا لكانت الفائدة أتم والنفع أعم، وإذ تعذر علي كتابة هذا فإنني أوجه همة
الراغبين في مثله أن يتولوه لأنفسهم بأنفسهم، ومن لا يعنيه ذلك فلا يهتم لقراءته،
وعسى أن أوفق لهذا في الذيل الذي أرجو أن يكون هو المكمل له.
وقد جريت على سنن علمائنا المتقدمين من رواة الآثار - المحدثين
والمؤرخين - في بيان آراء الأستاذ الإمام وعاداته وشمائله وأخلاقه بالصراحة
والحرية والصدق، ومنها ما هو منتقد عندي على ما كان بيننا من الاتفاق، الذي يندر
أن يوجد مثله بين اثنين من الناس، وأنا أعلم أن منها ما يكون منتقدًا في نظر غيري
وإن كان صوابًا عندي، ومنها ما ينتقد عليَّ نشره لأن مثله غير معتاد، أو لأنه من
مبالغاته التي ربما كان يقصد بها التأثير الخاص، ككلمته في تحريف الفقهاء، وهذا
نادر.
ومن أنعم النظر في فوائد هذا الاستقصاء رأى أن أهمها تمثيل حقيقة الرجل
من كل ناحية كي يحيط القارئ به خبرًا، ويحكم عليه حكمًا صحيحًا؛ فإن الذين
يترجمون الرجال بذكر محاسنهم ومناقبهم، وإخفاء هناتهم ومثالبهم؛ إنما هم شعراء
مداحون، لا مؤرخون حقيقيون.
فإذا رأى القارئ أنني على إعجابي بسعة علومه ورسوخه في معارفه التي
كان بها جديرًا بلقب الأستاذ الإمام، الذي قبله وأجازه الرأي العام - أُثبت أنه كان
مقصرًا في علوم الحديث من حيث الرواية والحفظ والجرح والتعديل كغيره من
علماء الأزهر، وإنني على إعجابي بأخلاقه التي كان بها حقيقًا بزعامة الإصلاح
والتجديد للأمة والملة، صرحت بأنه كان كأستاذه لا يخلو من الحدة، ومما يقابلها
من الضعف بشدة الرحمة والمبالغة في الورع، المغريتين لصاحبهما بإيثارهما على
المصلحة العامة، وإنني على إعجابي بقوة تدينه وحسن تعبده ومحافظته على تهجده،
صرحت بأنه كان يجمع بين الصلاتين في الحضر أحيانًا ترخصًا اجتهاديًّا خالف
فيه المذاهب الأربعة؛ ولكنه وافق حديثًا صحيحًا أخذ به غيرهم من الأئمة.
إذا رأى القارئ هذا وذاك أيقن أنني لم أكن محابيًا له في هذا التاريخ، ولا
سالكًا فيه مسلك الشعراء، ولا أنصار المذاهب وزعماء السياسة الذين يصورون
أئمتهم وزعماءهم صورًا مكبرة مزينة مجملة بما يظهر محاسنهم ويخفي مساويهم،
أو يبدل سيئاتهم حسنات، وعلم أن كل ما انتقد على الأستاذ يصح أن يقال فيه:
(حسنات الأبرار سيئات المقربين) وإنني - وأيم الحق - لم أطلع له على عمل ينافي
العفة والنزاهة ولا الورع والشرف، ولا هفوة تدل على كامن من حقد أو حسد،
فهو أكمل من عرفت من البشر، ومن اطلع على دخائل كثير من المشهورين بالعلم
والتقوى، أو الحكمة والفلسفة، أو تاريخهم الصحيح - رأى كثيرًا من العُجَر والبُجَر،
فما قولكم في زعماء السياسة وعشاق الرياسة؟
ولقد كنت داعية لزعامته وإمامته؛ وإنما كانت دعاية صدق ودين، وجهاد
وجلاد، لزعامة تجديد وإصلاح، لا زعامة رياسة وجاه، ومناصب ومال، وهل
يتوسل العاقل المتدين إلى الحق بالباطل، وإلى الإصلاح بالكذب الذي مطية كل
إفساد، فيتعجل لنفسه الإجرام نقدًا، لأجل ما يرجو لغيره من الإصلاح نسيئًا؟ وقد
سُئل الأستاذ الإمام: أترجو أن تجني ثمر إصلاحك في حياتك؟ قال: (أستبعد هذا
ولا أظنه، وحسبي أن يتم فيجنيه مَن بعدي) .
وجملة القول: إن هذا الرجل أكمل من عرفت من البشر دينًا وأدبًا ونفسًا
وعقلاً وخلقًا وعلمًا وعملاً وصدقًا وإخلاصًا، وإن من مناقبه ما ليس له فيه ند ولا
ضريب، وإنه لهو السري الأحوذي العبقري الحقيق بلقب (المثل الأعلى) من
ورثة الأنبياء في هذا العصر وإن لم أطلقه عليه لأنه على إطلاقه خاص بالله في
نص كتابه، وقد ابتذله الناس في الخطب والجرائد حتى خرج عن معناه.

صنوف قراء هذا التاريخ:
ألا وإن قراء هذا التاريخ صنوف: فمنهم طلاب الإصلاح والتجديد النافع
للأمة، مع المحافظة على مقوماتها، ومشخصاتها التي تمت بها حقيقتها وامتازت من
غيرها، وهؤلاء يشكرون لي عملي ويرون أنني أحسنت فيه وأصبت، ويعفون عما
عساني أخطأت فيه أو قصَّرت، ويساعدونني على نشر الكتاب؛ لأنه خير عون على
إثارة الهمم، وتقوية الأمل، والتنشيط على العمل، بل هؤلاء منا، من عرفنا منهم
ومن لم يعرفنا.
ويليهم المستعدون للإصلاح بسلامة فطرتهم وحسن نيتهم؛ ولكنهم غافلون
عنه لفقد الباعث والمنبه، وسيجدون في هذا التاريخ أقوى دعاية، وأوضح هداية،
فلا يلبث قارئه أن يكون منا وينصرنا بقدر ما أوتي من همة واستطاعة.
ومنهم دعاة النهضة المدنية الوطنية اللادينية، وسيجد المخلصون منهم أن
أمامنا إمام لهم في جانب من جانبي إصلاحه، وأن الجانب الآخر ينفعهم ولا
يضرهم، فإن الجامدين في التقاليد الدينية والخرافيين فيها هم أعداء التجديد المدني،
فإذا صلحوا التقوا معهم في تعزيز النهضة الوطنية وتعاونوا معهم عليها، ما لم
يكونوا دعاة للإلحاد لذاته، وقد كان المعاصرون منهم للحكيم الأفغاني والإمام
المصري يدينون لزعامتهما، وإن لم يكونوا من مريديهما والمقتبسين منهما مباشرة،
بل كان المخلص منهم لقومه ووطنه يعترف بفائدة إصلاحهما الديني وضرورته
لإكمال النهضة المدنية، والرابطة الوطنية، كما ترى في تأبين أحرار النصارى
وملاحدة المسلمين للأستاذ الإمام.
وأما الجامدون المصرون على التقاليد والخرافات، المطبوع على قلوبهم بما
مردوا عليه من الخطيئات، فقد يوجد فيهم من يلتمس لنا العثرات، ويبدل حسناتنا
سيئات، ويكبر الصغير من الهفوات. ولا خوف على أنصارنا منهم فالحق يدمغ
الباطل والنور يطرد الظلمات؛ وإنما ضررهم محصور في مقلدتهم من العوام
الجاهلين الخرافيين، يصدونهم عن قراءة كتبنا، وما قرأها أحد وفهمها إلا واتبعنا.
ومن دون هذه الصنوف والطبقات صنف الملاحدة والزنادقة، ودعاة الإباحة
المطلقة، وصنف أجراء الأجانب وأعوانهم، وصنف المتملقين للظلمة المفسدين،
وهؤلاء تحوت أدنياء لا يرجعون عن غيهم إلا إذا صار للإصلاح دولة قوية غنية
تستصلح هؤلاء بالرزق، وتكبح شر أولئك بالقوة، وأما نحن فإذا خاطبونا قلنا
سلامًا. وإذا مررنا بلغوهم مررنا كرامًا، ونسأله تعالى أن يجعلنا معهم ممن قال
فيهم: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ
أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لاَ
نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: ٥٣ - ٥٦) .