للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مناظرة عالم مسلم
لدعاة البروتستانت في بغداد

تنشر المجلات الدينية التي يصدرها دعاة النصرانية مناظرات خيالية،
يصورون وقوعها بين بعض المسلمين وبعض النصارى، يدعون فيها أن المسلم
يذعن لكل ما يقوله له النصراني، فلا يكون إلا محجوجًا في كل مسألة، ومنها
مناظرة رأيتها في هذه الأيام منشورة في مجلة الشرق والغرب، ادعى فيها
النصراني أن القرآن فرض العقاب أي الدنيوي على المرتد والحبس على المرتدة!
وأجاز المسلم ذلك وقبله، وهو لا أصل له، وها نحن أولاء ننشر لهم مناظرة
حقيقية بين عالم مسلم مشهور وهو السيد هبة الدين صاحب مجلة العلم في النجف
وبين قسوسهم في بغداد، وهو الذي اختار نشرها في المنار على نشرها في مجلته؛
لأن المنار كما قال أوسع انتشارًا، وهذا نصها:
(بحثنا مع الدعاة البروتستانتيين. حفلة أُنْس مع رفقة فضلاء)
قضينا حزيران (يونيو) هذه السنة في مدينة السلام، نتجول في محافل
فضلائها الأعلام، نستفيد من موائد فوائدهم، ونستأنس من طيب أخلاقهم وعوائدهم،
ومن جملة الأندية العلمية الدينية أو الحفلات الأنسية الودادية، حفلتان شريفتان
اجتمعنا فيهما بالفضلاء المبشرين الفلاسفة الدكاترة دعاة البروتستانتية النصرانية
المشهورين بطبيب الأخلاق والتقدم في الطب العملي، والروحي الملكوتي، وهم
حضرة القس بيسي وينسنت بويس [١] والدكتور الكبير جونس [٢] وفضيلة داود فتو
أفندي البغدادي والدكتور جورج ويلديل ستانلي [٣] . وكان معنا في المحضر بعض
البغداديين، وجمع من أجلاء النجف الأشرف من العائلة الجليلة الجواهرية
وغيرهم.
جرت في ذينك المحفلين الجليلين محاورات أدبية، وملاطفات ودادية، انتهت
بنا إلى محادثة دينية فلسفية، نتلو خلاصتها لمن ألقى سمعه طلبًا لتعميم الفائدة
وتمحيص الحقيقة.
(تقدس الإنجيل)
قلت للفاضل داود أفندي: ما تلك بيمينك؟ قال: الكتاب المقدس. فقلت: ما
المقصود من تقدسه؟ قال: إنه منزه من كل كذب وخطأ وشبهة. فقلت: من
جمعه وألفه؟ قال: الحواريون: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، فقلت: هل كان
هؤلاء مقدسين في أنفسهم؟ قال: كلا. ليس في العالمين مقدس غير سيدنا المسيح
عليه السلام.
فقلت: إذا كانوا غير مقدسين عن الأخطاء والكذب، كيف يصير ما ألفوه
مقدسًا عنهم، أم كيف يطمئن أحد بتقدس مجموعة يحتمل الخطأ والكذب في جامعها؟
قال: إن روح القدس موجود في هؤلاء فيعصمهم ويقدسهم.
قلت: من أين تعلم بوجوده فيهم؟ وكيف عرف الناس ذلك؟ وبأي سبب
اختصوا بحلول تلك الروح فيهم دون البرية؟
قال: إن روح القدس يملأ كل إنسان عمومًا ولا خصوصية له بهؤلاء فقط.
قلت: حتى الوثنيين والمسلمين وغيرهم؟
قال: نعم.. وهو الذي يهديهم إلى الخير ويحذرهم عن الشر.
فقلت: تختلج في ضميري ها هنا مشكلات:
١- إنك قد قلت: ليس في العالم مقدس غير المسيح عليه السلام، والآن تقول
جميع من في الأرض مقدس، وهذا تناقض في القول.
٢ - إن روح القدس (الذي بنيتم على أنه يقدس من حل فيه) ، لو أصبح
موجودًا في كل إنسان عمومًا كما أفدت لزم أن تصحح كل متناقضين، وتصدق كل
أمرين متنافيين؛ لأن القائل بكل منهما بشر حل روح القدس فيه، فلو اعتقدت
التوحيد في الله - سبحانه - وبرهنت عليه، واعتقد غيري الشرك فيه تعالى
واستدل عليه، وجب أن تصحح كلا الاعتقادين وتصدقهما جميعًا؛ لأن فينا معًا
الروح القدس (المستوجب لتقدس مظهره) وبديهة العقل؛ كإجماع العقلاء قاضية
ببطلان هذه المسألة.
٣ - لو صح وجود روح القدس في كل إنسان عمومًا لزم من صحة هذه
القضية فساد نفسها، وكل ما يلزم من وجوده عدمه أو من صحته فساده أو من إثباته
نفيه فهو باطل مستحيل، ألا ترى أنك لو أيقنت بوجود روح القدس في كل إنسان،
وأنه يعصم من وجد فيه عن الخطأ، لزمك أن تعتقد بأنني (المخاطب لك) أيضًا
معصوم بحلول روح القدس في باطني، والحالة أنني مثلاً أعتقد بعدم وجود روح
القدس في كل إنسان، أو أنه لا يعصم من حل فيه، فيلزمك أن تعتقد بصحة جميع
ما أراه، ومن جملة ما أراه فساد تلك القضية التي صححتها أنت، فقتلت القضية
نفسها.. (مسرة في الجميع كأنهم استظرفوا هذا الكلام) .
ثم قلت (٤) إنكم معنا تعتبرون (ولا شك) الصدق والكذب في المحاولات،
وتقولون: هذا كاذب أو مبطل، وهذا صادق أو محقن، وتتحرون العلائم
والأمارات فيهما، فلو كان الناس كلهم مقدسين بروح القدس لم يبق موقع للتحري،
ولغت أكثر الأمور أو خالفتم فطرة الناس وجبلتكم، ولكان الإسلام حقًّا والقرآن
صدقًا.
قال: هذه مسألة فلسفية طويلة.
(بشرى الائتلاف، في معنى قولهم المسيح ابن الله)
تذاكرنا في نسب المسيح عليه السلام المذكور في الإنجيل، وفي آخره ابن
فلان ابن آدم ابن الله.
فقلت: كلمة (ابن الله) هاهنا صفة لآدم عليه السلام أو لعيسى عليه السلام
مع كثرة الفواصل؟ فقال داود أفندي: إنما هي صفة آدم عليه السلام.
قلت: كيف يكون آدم ابن الله؟
قال: إذ لم يكن له أب جسماني، وإنما خلق بقدرة الله ومشيئته.
فقلت: لم لا تقولون في عيسى عليه السلام أنه ابن الله بهذا المعنى؟
قال: بلى نقول فيه أيضًا بهذا المعنى لا غير.
قلت: إذن توافقتم مع المسلمين في المعنى واختلفتم في اللفظ؛ إذ المسلمون
أيضًا يعتقدون في آدم وفي المسيح أنهما مخلوقان من أمر الله وبقدرته بلا انتساب
منهما إلى أب جسماني، ويستدلون بما في القرآن العظيم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: ٥٩) .. إلخ.
نعم اختلفتما من جهة أنكم تسمونه (ابن الله) فهذه الملاحظة، والمسلمون
يتنزهون من هذه الكلمة تقديسًا لله تعالى عن شوائب المجسمة، ويقولون: عيسى
روح الله وكلمته، فاتفقتم معهم في الجوهر في أمر عرضي لا أهمية فيه.
(أساس الطب التجربة)
قال. د. (جونس) : هل عنكم في النجف أطباء؟
قلت: نعم.. كثيرون.
قال: يحكمون بالطب الجديد؟
قلت: فيهم من اشتغل بالطب الجديد، وهو موظف من الحكومة المحلية..
ولكن مسلك الأكثر منهم الطب القديم.
قال: مسلكهم مسلك العجائز والبدو؛ يعالجون المرضى بالكي ونحوه.
فقلت: أساس الطب ومبناه هو التجربة، فإذا جرب الناس عملاً علاجيًّا
وعهدوا منه الفائدة العمومية دائمًا، فلا لوم عليهم إذا رجعوا إليه عند مسيس الحاجة
قال: ليست التجربة مبنى الطب وأساسه، بل العلم هو أساس الطب.
فقلت: التجاريب تهدي الناس إلى معرفة الضار والنافع، والعلم يظهر لهم
علة المضرة والمنفعة، فالتجربة تقضي مثلاً بضرر المحموم إذا اغتسل بماء بارد
والمفكرة تشتغل بتعليل ذلك، فيظهر العلم سره وأن برودة الماء تسد مسام البدن
ومنافذ الأبخرة، فتحتبس في الباطن فيتضرر المحموم منه، فالتجربة أساس الحكم
والتعليل، التجربة طب سطحي والعلم يكسوه فلسفة..، التجربة من مبادئ حصول
العلم.. التجربة تجمع الأشباه والنظائر، فتمهد السبيل لوصول العلم إلى الحكم
الكلي، والناموس العام.
(هل المسيح عليه السلام واسطة لخلق العالم؟)
قال د. (جونس) في ضمن محادثته: (إن الرب هو المسيح.. كذا..)
فقلت: كيف يكون المسيح عليه السلام ربًّا؟
قال: لأنه خلق الأشياء كلها.
قلت: فهل كان في نفسه مخلوقًا مع ذلك أم لا؟
قال: نعم.. كان مخلوقًا من الأب تعالى.
قلت: كان إذن واسطة في خلق الأشياء بيننا وبين المولى سبحانه وتعالى.
قال: نعم.
فقلت: لم لم يخلق الله الأشياء بنفسه حتى احتاج إلى توسطه؟
قال: لأن الله مقدس من كل جهة، والخلق كلهم غارقون في بحر الخطأ
والذنوب، فكيف يتلطف عليهم الله ويجود عليهم بالوجود من دون واسطة.
قلت: تصورت من هذا الكلام إشكاليات متعددة.
(١) كيف غرقوا في بحر الخطأ قبل أن يوجدوا؟
(٢) إن المسيح ليس بأسخى من الله، ولا هو أرأف منه بالعباد، حتى
يحتاج الناس إليه في عطوفة الله بهم وإفاضته عليهم.
(٣) إن تقدس الله لو عد مانعًا من تعلق فيضه بالناس، حيث إنهم غير
مقدسين (من باب عدم المناسبة بين العلة والمعلول) فكيف جاز على المسيح أن
يخلق الخلق؛ إذ المانع سواء أكان من طرفه (وهو التقدس) أو من طرفنا (وهو
عدم التقدس) موجود على كل حال؛ بسبب عدم المناسبة المذكورة أو لنحتاج إلى
واسطة أخرى بيننا وبينه، فيعود الكلام ويتسلسل، فالتفت. د. (جونس) إلى.
د (جورج ويلديل ستانلي) وتكالما بالإنكليزية مدة ثم ساد الجميع سكوت.
(الحديث اللطيف)
إني قلت بعد ذلك: إن في مجمعنا من يقولون: إن الواسطة غير منحصرة
بحضرة المسيح عليه السلام أي: المقدسون في البرية كثيرون ومنهم محمد نبي
الإسلام صلى الله عليه وسلم، ويثبت هؤلاء تقدسه بمثل ما تثبتون به التقدس
لعيسى عليه السلام، فلماذا لا يجوز أن يتوسط محمد صلى الله عليه وسلم بيننا
وبين المولى سبحانه وتعالى في الوجود وفي كل جود؟
قال متبسمًا: كيف يجوز ذلك، وقد خلق محمد بعد المسيح؟
فقلت: وقد جاء عيسى بعد آدم وجمهور الأنبياء، فكيف جاز أن يتوسط لهم
في الخلق؟
قال: توسط المسيح للخلق في عالم الملكوت، وجاء بعدهم في عالم الناسوت
فقلت: يقولون في محمد أيضًا مثل ذلك، وإنه تقدم في الخلق على الكل في
عالم الملكوت فتوسط لهم، ثم جاء في عالم الناسوت بعد الرسل جميعًا.
(الشر في المأكول أو في آكله)
قال. د. (جونس) : يتذاكر الناس أن الشيء الفلاني شر، والحالة أن الشر
من الإنسان المستعمل لذلك الشيء لا من نفس ذلك الشيء. مثلاً: من أكل شيئًا
فأصابه ضرر منه، تراه يشتكي من ذلك الشيء، مع أنه لا شر فيه وإنما الشر في
نفس الآكل؛ لأن الإنسان هو صاحب الخطيئة لا غيره.
فقلت: ههنا جهات لفظية يجب أن تنقشع غيومها، حتى لا تختلط الحقائق
بسببها.
قال: وما تلك الجهات؟
قلت: تفرقة الشر عن الضرر الذي تتصف به الأدوية والأشياء، فإن الضرر
في العرف أمر منتزع من خاصية في الشيء تؤثر أثرًا يخالف الصحة كالسم، أو
يخالف الهيئة الاجتماعية كالحسد والظلم، و. و.، ويقابله النفع وهو أمر منتزع
من خاصية في الشيء تؤثر أثرًا يوافق الصحة كالماء، أو يوافق نظام الاجتماع
كالعدل والإحسان و ... و ...
وأما الشر فقد يستعمل ويراد به الضرر، وقد يستعمل ويراد منه إنسان فاسد
الأخلاق وله استعمالات أخر. وإني ما عرفت المقصود منه في كلامكم؛ ولذلك ما
بادرت إلى الحكم عليه بشيء، فهل تقصدون من الشر الضرر أو غيره؟
قال: الضرر.
قلت: لا يشك أحد في أن الأشياء فيها بأنفسها خواص طبيعية تؤثر من ذاتها
ضررًا أو نفعًا، فالنار محرقة، والشمس مشرقة، والسم قتال، والماء رطب،
والزيت دسم، فهذه الخواص موجودة لهذه الأشياء سواء استعملها أحد أو لا،
وسواء تعلقت بجماد أو نبات أو حيوان أو إنسان صغير أو كبير مخطئ أو مقدس.
ثم إنكم في طبكم ومطبكم تتذاكرون على الدوام في خواص الأشياء، وتسمون
منها ضارًّا ومنها نافعًا من دون نظرة إلى الإنسان المستعمل لها.
فقال: المقصود من الشر الخطيئة (كأنه استدرك) .
قلت: نعم.. إذا كان المراد من الشر الخطيئة، لم يكن في العالم شيء ذو
خطيئة من الجماد والنبات والحيوان غير الإنسان؛ لأن الخطيئة تتوقف على
عصيان أحكام المولى، والعصيان فرع ثبوت أحكامه وتكاليفه ولا تكليف إلا على
الإنسان القادر، فلا يكن لغيره خطيئة. لكنني أذكر منكم كلامًا قد سبق؛ وهو أن
الإنسان عمومًا مقدس بوجود روح القدس فيه، فمن أين تكون له خطيئة؟ (سكوت
ساد الجميع) .
(رجعة المهدي ونزول عيسى عليه السلام)
قال. د. (جونس) : إن الشيعة يعتقدون برجوع المهدي وظهوره، وإن
عيسى عليه السلام ينزل من السماء ويؤمن به ويصلي خلفه.
قلت: نعم.. ولا تختص الشيعة بهذه العقائد، فإن أكثر المسلمين يعتقدون
ذلك، ولا يفارقونهم إلا في جزئيات وراء ذلك.
قال: كيف يجوز في العقل رجوعه بعد ألف سنة.
فقلت: مثلكم لا ينبغي أن يسأل هذا السؤال، ويطلب تعليل ذلك بالعقل،
فإنكم تعتقدون نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان بجسده الناسوتي، فكيف
جاز لديكم ذلك عقلاً بعد ألفي سنة أو أكثر؟ قال: نعم.. يجوز ذلك؛ لأن المسيح
مقدس، فلا تؤثر في بدنه عوامل الفساد، وغير المقدس لا يكون كذلك.
فقلت: اسمحوا لي بالإصغاء إلى جمل قصيرة.
(١) إن الشيعة أيضًا يدعون العصمة والتقدس في المهدي المنتظر،
ويحسبونه من الأئمة الإثني عشر (عج) .
(٢) إن التقدس من الخطايا، لا يمنع تأثير العوامل الطبيعية في عالم
الكون والفساد، فإن الدين والأمور الروحية تتعلق بالعوامل الأدبية وتهذيب النفس،
وهي خاضعة للعوامل الطبيعية، فيموت الإنسان وإن كان نبيًّا مقدسًا، ويمرض
وينعس ويجوع ويعطش، أفلا تقرؤون تاريخ المسيح عليه السلام؛ وأنه كان يصفر
لونه من الصيام جوعًا وعطشًا، ويخضر من أكل النبات وغير ذلك، وأعظم منها
أنكم تعتقدون قتله بأيدي اليهود بتلك الكيفية الفجيعة، وتقرؤون خبر مقتله عليه
السلام وتبكون على ما أصابه، وقد اتخذتم الصليب تذكارًا لواقعته، فمن جوزتم
عليه هذه الانفعالات الجسمانية، وإن تقدسه لم يمنع هذه التأثيرات الطبيعية فيه،
كيف تقولون بأنه باق وسيعود بجسده الناسوتي من دون أن يخضع جسده للفواعل
الكونية.
(لست أنا الآن في صدد إبطال هذه القضية، ولكنني أذكرها نقضًا على ما
أسلفتموه) .
فتناجيا (جونس) و (جورج ويلديل ستانلي) بالإنكليزية طويلاً.
ثم قلت:
(٣) لو كان تقدس الإنسان من الخطأ سببًا لتقدس بدنه عن الفساد وتنزهه
من العوامل الطبيعية، لزم أن لا يتأثر الطفل منها إذ لا خطيئة له، ولا سيما بعد
التعميد الذي يغفر له الخطيئة السارية إليه من آدم (أي على قولهم) مع أنا نجد
الأطفال أسرع تأثرًا بعوامل الفساد.
قال: ليس الطفل مقدسًا؛ لأن خطيئة أمه وأبيه تسري فيه فيصير خاطئًا.
فالتفت إليه حضرة السيد ك.. مهدي جمال الدين الهندي (وهو من علماء
النجف الأجلاء) وقال له: لو أثرت خطيئة الأم في الابن لزم على قولك أن يكون
المسيح عليه السلام أيضًا مخطئًا غير مقدس؛ لأن أمه السيدة مريم عليها السلام
ليست عندكم بمقدسة، فتسري خطيئتها في ابنها عيسى عليه السلام.
ثم قلت للدكتور (جونس) :
(٤) لو كان تقدس الإنسان من الخطايا مانعًا من غلبة النواميس الطبيعية،
لزم أن لا يفسد شيء من الحيوانات العجم والبهائم؛ لأنها لا ترتكب خطيئة ولا
تعصي ولا تسري فيها خطيئة آدم عليه السلام، مع أنَّا نراها أخضع لسلطة الطبيعة
كونًا وفسادًا من الإنسان، والإنسان بقوته العلمية والعملية أقدر على مدافعة المضار
من الحيوانات الأخر.
قال: إن الحيوانات أيضًا في خطيئة؛ لأن بعضها يظلم البعض في حوائجه
قلت: نفرض حيوانًا منفردًا في جزيرة.
قال: أفيأكل من الأشجار ويقتات النبات أولاً؟
قلت: نعم.. بالضرورة.
قال: فهو ظالم على النبات، وبذلك يصير مخطئًا غير مقدس.
قلت: أفلم يكن عيسى عليه السلام يقتات النبات ويأكل مما نأكل، مع أنه لم
يعد ظالمًا، وكان مقدسًا بتمام معنى الكلمة؟
وأيضًا ما تقولون في النبات؟ هل يظلم أحدًا ويخطئ مع أنه يفسد بفواعل
الطبيعة ويتغير.
قال: نعم.. النبات أيضًا مخطئ.
قلت: يا سبحان الله، ولماذا؟
قال: لأنه يفيد الحيوان والإنسان في المأكل والملبس وغيرهما، مع أنهما
ظالمان خاطئان، ومن أفاد خاطئًا أو أعان ظالمًا كان مخطئًا غير مقدس.
قلت: إذن يلزم أن يكون المسيح عليه السلام مخطئًا غير مقدس (والعياذ
بالله) ؛ لأنكم تقولون وتكتبون عنه أنه أول من أفاد البشر وآخر من يفيدهم، وأنه
فدى نفسه للناس حتى يغفر الله لهم خطيئاتهم جميعًا، وتسمونه (الفادي) فهو
يفيد (جنس) البشر الظالم الخاطئ أكثر من إفادة النبات بما لا يقاس، ومع
ذلك لا تثلمون تقدسه.
وأعظم منه إفادة للناس المولى - سبحانه وتعالى - وهو في منتهى القدس.
فجعل د. (جونس) يناجي البقية بالإنكليزية مدة، ثم سكتوا وسكتنا طويلاً
وجرت بعد ذلك بيننا مظاهر الألفة والعطوفة، وتفرق الجميع مستأنسين مستبشرين.
وذكرت هؤلاء الدكاترة الكرام بالخير والمدح مرارًا؛ لأنهم يبذلون تمام جهدهم في
معالجة المرضى والمصابين ولو مجانًا، ولهم أياد بيضاء في خطتهم، ولقد
شاهدت منهم الاهتمام في أداء وظائفهم وتنبيه الغافلين، والصيحة والدعوة إلى
الديانة المسيحية عند اجتماع المرضى وغيرهم، حتى إنهم كتبوا على جدران
المستشفى:
(آمن بالرب اليسوع، ينجيك وأهلك من كل سوء) .
وقد كانوا دائبين في هذه الوظائف في بغداد منذ سنين طويلة، ويباشرون
معالجة المرضى بمداواة كاملة. وقد عزموا على شراء جنينة على ضفاف الدجلة
بألفي ليرة عثمانية؛ ليجعلوها المستشفى الوحيد في القطر العراقي، إلا أن الحكومة
العثمانية (أدام الله استقلالها) ما نزعت حتى الآن إلى قبول ذلك، فيسر المولى
لطلاب الخير كل عسير، وقابل أهل المعروف بكل جميل، وهو الهادي إلى سواء
السبيل.
... ... ... ... ... ... ... النجف الأشرف بالعراق
... ... ... ... ... هبة الدين الشهرستاني صاحب مجلة العلم
(المنار) ليتأمل المنصفون مبالغة المسلمين في التساهل والتسامح، فهذا
عالم من شرفائهم يثني على دعاة النصرانية، ويتمنى لهم النجاح ويدعو لهم به،
وهو يعلم أنهم لا يقصدون من التطبيب إلا دعوة المسلمين إلى دينهم، ولكنه لا يعلم
أن بعض قسوسهم صرح ببعض مقاصدهم، فقال: إن طريق الشيطان لا ينقطع إلا
إذا زال الإسلام من جزيرة العرب! !