أبو حامد الغزالي (٣) رأيه في العلوم الدنيوية قال في بيان العلم الذي هو فرض كفاية من الباب الثاني من كتاب إحياء العلوم الذي بين فيه العلوم المحمودة والمذمومة. (اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر العلوم. والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية ما اسْتُفِيدَ من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة. فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح. فالمحمود ما ترتبط به مصالح الدنيا كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس فريضة. أما فرض الكفاية فهو ما لا يستغنى عنه في قوام الدنيا كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان. وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات، وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين. فلا يُتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك [١] ، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء [٢] وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله. وأما ما يُعَدّ فضيلة لا فريضة؛ فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه. ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه. وأما المذموم منه؛ فعلم السحر والطلمسات، وعلم الشعوذة والتلبيسات. وأما المباح منه؛ فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه) اهـ. أقول: لا يظهر وجه ما قاله في الأشعار التواريخ، إلا فيمن يقرأهما لمحض التسلي والتفكه. فأما قراءة الأشعار لأجل معرفة اللغة - مفرداتها وأساليبها - واكتساب ملكة البلاغة وتمييز الصحيح والفصيح من غيره، فهو على قاعدته من فروض الكفاية، بل ربما يستنبط من كلام له في كتاب (إلجام العوام من علم الكلام) أن معرفة اللغة العربية فرض عين على كل مسلم، بحيث يفهم الكلام البليغ ويميز بين الحقيقة والمجاز والكناية، فإنه قال هنالك: إن ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته وأفعاله لا يجوز أن يؤخذ بالترجمة؛ فإن غير العربية لا تؤدي ما يؤديه القول الوارد فيها على وجهه في كل صفة من تلك الصفات، وضرب لذلك الأمثال. وأما تواريخ الأخبار - ولعله يعني بهما ما يقابل تواريخ المحدثين - فقد كانت في زمنه قليلة الفائدة، وهي في هذا العصر مادة السياسة التي قال بأنها فريضة، وينبوع العلوم الاجتماعية التي تشرح لنا سنن الله- تعالى - في الأمم، وهو يعد العلم بسنن الله - تعالى- في خلقه كالعلم بصفات الله وكماله أعلى العلوم الدينية، كما سيأتي عنه. فلو كان في هذا العصر لقال في الشعر والتاريخ قولاً مفصلاً على نحو ما قلنا. رأيه في علوم الفلسفة ثم تكلم عن العلوم الشرعية، وأورد على نفسه هذا السؤال (فإن قلت فلم لم تورد في أقسام العلوم الكلام والفلسفة، وتبين أنهما مذمومان أو محمودان) وأجاب عن علم الكلام بما سنذكره في الكلام عن العلوم الدينية وإن كان لا يعده منها، وعن الفلسفة بما يأتي: وأما الفلسفة فليست علمًا برأسها، بل هي أربعة أجزاء: (أحدها) الهندسة والحساب وهما مباحان كما سبق، ولا يُمْنَع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوزهما إلى علوم مذمومة، فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع، فيُصان الضعيف عنه لا لعينه، كما يصان الصبي عن شاطئ النهر خيفة عليه من الوقوع في النهر، وكما يصان الحديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار خوفًا عليه، مع أن القوي لا يندب إلى مخالطتهم. (والثاني) المنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه، وهما داخلان في علم الكلام. (والثالث) الإلهيات وهو بحث عن ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وهو داخل في الكلام أيضًا، والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم، بل انفردوا بمذاهب بعضها كفر وبدعة، وكما أن الاعتزال ليس علمًا برأسه، بل أصحابه طائفة من المتكلمين وأهل البحث والنظر، انفردوا بمذاهب باطلة فكذلك الفلاسفة. (والرابع) الطبيعيات وبعضها مخالف للشرع والدين الحق، فهو جهل وليس بعلم حتى يورد في أقسام العلوم، وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها، وهو شبيه بنظر الأطباء، إلا أن الطبيب ينظر في بدن الإنسان على الخصوص من حيث يمرض ويصح. وهم ينظرون في جميع الأجسام من حيث تتغير وتتحرك. ولكن للطب فضل عليه وهو أنه محتاج إليه. أما علومهم في الطبيعيات فلا حاجة إليها) اهـ. وقد أوسع المجال لذلك في كتابه (المنقذ من الضلال) ، فقال: فصل في أقسام علومهم اعلم أن علومهم بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه ستة أقسام: رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية وسياسية وخلقية. أما الرياضية فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم، وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفيًا وإثباتًا، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها، وقد تولدت منها آفتان: (الأولى) من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها، فيحسُن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة، ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح ووثاقة البرهان كهذا العلم، ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما تناولته الألسن، فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقًّا لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم، فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم، يستدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين، وكم رأيت ممن ضل عن الحق بهذا القدر ولا مستند له سواه، وإذا قيل له: الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقًا في كل صناعة. فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقًا في الطب، ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلاً بالنحو، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها البراعة والسبق، وإن كان الحمق والجهل قد يلزمهم في غيرها، فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني وفي الإلهيات تخميني، لا يعرف ذلك إلا من جربه وخاض فيه. فهذا إذا قرر على هذا اتخذ (كذا) بالتقليد، لم يقع منه موقع القبول، بل تحمله غلبة الهوى وشهوة البطالة وحب التكايس، على أن يصر على تحسين الظن بهم في العلوم كلها، فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم، فإنها وإن لم تتعلق بأمر الدين لكن لما كانت من مبادئ علومهم يسري إليه شرههم وشؤمهم، فقلَّ من يخوض فيه إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى. (الآفة الثانية) نشأت من صديق للإسلام جاهل ظن أن الدين ينبغي أن يُنصر بإنكار كل علم منسوب إليهم، فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع، فلما قرع ذلك سمْعَ من عرف ذلك بالبرهان القاطع لم يشُك في برهانه، لكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فيزداد للفلسفة حبًّا وللإسلام بغضًا، ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية. وقوله عليه السلام: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة) ليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعرف بمسير الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلتهما على وجه مخصوص وأما قوله (لكن الله إذا تجلى لشيء خضع له) فليس توجد هذه الزيادة في الصحاح أصلا. فهذا حكمة الرياضيات وآفتها. (وأما المنطقيات) فلا يتعلق شيء منها بالدين نفيًا وإثباتًا، بل هو النظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط ومقدمات البرهان وكيفية تركيبها وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبها، وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان. وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة، وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات وبزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشبيهات ومثل كلامهم في قولهم: إذا ثبت أن كل (١) (ب) لزم أن بعض (ب) (١) أي إذا ثبت أن كل إنسان حيوان لزم أن بعض الحيوان إنسان ويعبرون عن هذا بأن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية، وأي تعلق لها بمهمات الدين يجحد وينكر؟ فإذا أنكر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق إلا سوء الاعتقاد في عقل المنكر بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا الإنكار، نعم لهم نوع من الظلم في هذا العلم وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطًا يعلم أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل. وربما ينظر في المنطق أيضا من يستحسنه ويراه واضحا فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيدة بمثل تلك البراهين فاستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية فهذه الآفة أيضا متطرقة إليه. (وأما علم الطبيعيات) فهو بحث عن أجسام العالم: السموات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة كالماء والهواء والتراب والنار، ومن الأجسام المركب كالحيوان والنبات والمعادن وعن أسباب تغيرها واستحالتها وأمزاجها. وذلك يضاهي بحث الطبيب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسة والخادمة وأسباب استحالة مزاجه، وكما ليس من شرط الدين إنكار ذلك العلم إلا في مسائل معينة ذكرناها في كتاب (تهافت الفلاسفة) وماعداها مما يجب المخالفة فيها فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها وأصل جملتها أن يعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى لا تعمل بنفسها، بل هي مستعملة من جهة فاطرها، والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيء منها بذاته عن ذاته. (وأما الإلهيات) ففيها أكثر أغاليطهم. فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوا في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه. ولقد قرب أرسطاطاليس مذهبه فيها من مذاهب الإسلاميين على ما نقله الفارابي وابن سينا ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا يجب تكفيرهم في ثلاثة منها وتبديعهم في سبعة عشر، ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين صنفنا كتاب التهافت. أما المسائل الثلاث فقد خالفوا فيها كافة المسلمين، وذلك في قولهم أن الأجساد لا تحشر وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة والعقوبات روحانية لا جسمانية، ولقد صدقوا في إثبات الروحانية فإنها كائنة أيضًا ولكن كذبوا فيها إنكار الجسمانية وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به. ومن ذلك قولهم أن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات، فهو أيضًا كفر صريح بل الحق أنه (لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض) . ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته، فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل. وأما وراء ذلك من نفيهم الصفات وقولهم أنه عليم بالذات لا بعلم زائد على الذات، وما يجري مجراه فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك، وقد ذكرنا في كتاب (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) ما يتبين فيه فساد رأي من يتسارع إلى التكفير في كل ما يخالف مذهبه. (وأما السياسيات) فمجموع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم والمصلحة المتعلقة بالأمور الدنيوية السلطانية، وإنما أخذوها من كتب الله المنزلة على الأنبياء ومن الحكم المأثورة عن سلف الأولياء. (وأما الخلقية) فجميع كلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها، وإنما أخذوها من كلام الصوفية وهم المتأملون المثابرون على ذكر الله تعالى وعلى مخالفة الهوى، وسلوك الطريق إلى الله تعالى بالإعراض عن ملاذ الدنيا، وقد انكشف لهم في مجاهداتهم من أخلاق النفس وعيوبها وآفات أعمالها ما صرحوا بها فأخذها الفلاسفة ومزجوها بكلامهم توسلا بالتجمل بها إلى ترويج باطلهم. ولقد كان في عصرهم - بل في كل عصر - جماعة من المتألهين لا يخلي الله العالم عنهم، فإنهم أوتاد الأرض ببركتهم تنزل الرحمة إلى أهل الأرض) اهـ المراد منه. *** أقول: هذا آخر ما استقر عليه رأي الإمام أبي حامد في هذه العلوم لأن هذا الكتاب من آخر ما كتب. ومنه يعلم أنه لا ينكر من علومهم شيئًا يُعد مخالفًا للدين إلا مسائل معدودة من الفلسفة الإلهية، وإنا نزيد المسألة بيانًا بإيراد ما كتبه قبل ذلك في مقدمة كتابه (تهافت الفلاسفة) قال: (أما بعد فإني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء، قد رفضوا طوائف الإسلام والعبادات واستحقروا شعائر الدين ووظائف الصلوات والتوقي عن المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده ولم يقفوا عند توقيفاته وقيوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين، يفنون من الظنون يتبعون فيها رهطًا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا وهم بالآخرة هم كافرون، ولا مستند لكفرهم غير سماع الغي كتقليد النصارى واليهود؛ إذ جرى على غير دين الإسلام نشؤهم وولادهم، وعليه درج آباؤهم وأجدادهم، ولا عن بحث نظري صادر عن التعثر بأذيال الشبه الصارفة عن صوب الصواب، والانخداع بالخيالات المزخرفة كلامع السراب، كما اتفق لطوائف من النظار في البحث عن العقائد والآراء من أهل البدع الأهواء، وإنما مصدر كفرهم سماعهم أسامي هائلة كسقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطاطليس وأمثالهم، وإطناب طوائف متبعيهم وضُلاَّلهم، في وصف عقولهم وحسن أصولهم، ودقة علومهم الهندسية والمنطقية والطبيعية والإلهية، واستبدادهم بفرط الذكاء والفطنة، واستخراج تلك الأمور الخفية، وحكايتهم عنهم أنهم مع رزانة عقولهم وغزارة فضلهم، منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان والملل، ويعتقدون أنها نواميس مؤلفة وحيل مزخرفة، فلما قرع ذلك سمعهم ووافق ما حكي لهم من عقائدهم طبعهم، تجملوا باعتقاد الكفر تحيزًا إلى غمار الفضلاء بزعمهم، وانخراطًا في سلكهم، وترفعًا عن مساعدة الجماهير والدهماء، واستنكافًا من القناعة بأديان الآباء، ظنًّا بأن إظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال، وغفلة منهم عن أن الانتقال إلى تقليد عن تقليد خرق وخبال، فأية رتبة في عالم الله أخس من رتبة من يتجمل بترك الحق المعتقد تقليدًا، بالتسارع إلى قبول الباطل دون أن يقبله خبرًا وتحقيقًا، والبله من العوام بمعزل عن فضيحة هذه المهواة، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه بذوي الضلالات، والبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء والعمى أقرب إلى السلامة من بصيرة حولاء. فلما رأيت هذا العرق من الحماقة نابضًا على هؤلاء الأغبياء، ابتدأت بتحرير هذا الكتاب ردًّا على الفلاسفة القدماء، مبينًا تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم فيما يتعلق بالإلهيات، وكاشفًا عن غوائل مذهبهم وعوراته التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء، أعني ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء من فنون العقائد والآراء، هذا مع حكاية مذهبهم على وجهه ليتبين لهؤلاء الملحدة تقليدا اتفاق كل مرموق من الأوائل والأواخر على الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن الاختلافات راجعة إلى تفاصيل خارجة عن هذين القطبين اللذين لأجلهما بعث الأنبياء المؤيدون بالمعجزات، وأنه لم يذهب إلى إنكارهما إلا شرذمة يسيرة من ذوي العقول المنكوسة، والآراء المعكوسة، الذين لا يؤبه لهم ولا يعبأ بهم فيما بين النظار، ولا يعدون إلا في زمرة الشياطين الأشرار وغمار الأغبياء والأغمار ليكف عن غلوائه، من يظن أن التجمل بالكفر تقليدًا يدل على حسن آرائه، أو يشعر بفطنته وذكائه، إذ يتحقق أن هؤلاء الذين تشبه بهم من زعماء الفلاسفة وروسائهم براء عما قذفوا من جحد الشرائع، وأنهم مؤمنون بالله ومصدقون لرسله، ولكنهم اختبطوا في تفاصيل بعد هذه الأصول، قد زلوا فيها فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، ونحن نكشف عن فنون ما انخدعوا به من التخاييل والأباطيل، ونبين أن ذلك تهويل ما وراءه تحصيل، والله تعالى ولي التوفيق لإظهار ما قصدناه من التحقيق. ولنصدر الآن الكتاب بمقدمات تعرب عن مساق الكلام في الكتاب: مقدمة ليعلم أن الخوض في حكاية اختلاف الفلاسفة تطويل، فإن حبلهم طويل ونزاعهم كثير وآرائهم منتشرة وطرقهم متباعدة متدابرة، فلنقتصر على إظهار التناقض في رأي مقدمهم الذي هو الفيلسوف المطلق والمعلم الأول، فإنه رتب علومهم وهذبها بزعمهم، وحذف الحشو من آرائهم وانتقى ما هو الأقرب إلى أصول أهوائهم، وهوأرسطاطاليس. وقد رد على كل من قبله حتى على أستاذه الملقب عندهم بأفلاطون الإلهي ثم اعتذر عن مخالفته أستاذه بأن قال: أفلاطون صديق والحق صديق ولكن الحق أصدق منه وإنما نقلنا هذه الحكاية عنهم ليعلم أنه لا ثبت ولا إيقان لمذهبهم عندهم، وأنهم يحكمون بظن وتخمين من غير تحقيق ويقين ويستدرجون به ضعفاء العقول. ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين نقية عن التخمين كعلومهم الحسابية والمنطقية، لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية. ثم المترجمون لكلام أرسطاطاليس لم ينفك كلامهم عن تحريف وتبديل محوج إلى تفسير وتأويل، حتى أثار ذلك أيضا نزاعا بينهم. وأقومهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة الإسلامية الفارابي أبو نصر وابن سينا، فلنقتصر على إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح من مذاهب رؤسائهم في الضلال، فإن ما هجراه واستنكفا من المتابعة فيه لا يتمارى في اختلاله، ولا يفتقر إلى نظر طويل في إبطاله، فليعلم أنا مقتصرون على رد مذاهبهم بحسب نقل هذين الرجلين كيلا ينتشر الكلام بحسب انتشار المذاهب. مقدمة ثانية ليعلم أن الخلاف بينهم وبين غيرهم من الفرق على ثلاثة أقسام: (قسم) يرجع النزاع فيه إلى لفظ مجرد كتسميتهم صانع العالم - تعالى عن قولهم - جواهر مع تفسير الجوهر بأنه الموجود لا في موضوع، أي القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى مقوم يقوم ذاته، ولم يريدوا بالجوهر المتحيز على ما أراده خصومهم ولسنا نخوض في إبطال هذا لأن معنى القائم بالنفس إذن صار متفقا عليه. رجع الكلام في التبعير باسم الجوهر عن هذا المعنى إلى البحث عن اللغة، وأكثرهم لا يسمونه جوهر وإن سوغت اللغة إطلاقه. رجع جواز إطلاقه في الشرع إلى المباحث الفقهية، فإن تحريم إطلاق الأسامي وإباحتها يؤخذ مما يدل عليه ظواهر الشرع. ولعلك تقول: هذا إنما ذكره المتكلمون في الصفات ولم يورده الفقهاء في فن الفقه. فلا ينبغي أن يلتبس عليك حقائق الأمور بالعادات والمراسم، فقد عرفت أنه بحث عن جواز التلفظ بلفظ صدق معناه على المسمى به، فهو كالبحث عن جواز فعل من الأفعال. (القسم الثاني) ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلا من أصول الدين وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم منازعتهم فيه، كقولهم أن كسوف القمر عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث أنه يقتبس نوره من الشمس، والأرض كرة والسماء محيط بها من الجوانب فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس. وكقولهم: إن كسوف الشمس معناه وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس، وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة. وهذا الفن أيضا لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض. ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين وضعف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية وحسابية لا تبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها أو يتحقق أدلتها حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء - إذا قيل له أن هذا على خلاف الشرع لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع. وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقه، وهو كما قيل: عدو عاقل خير من صديق جاهل. (فإن قيل) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى والصلاة) فكيف يلائم هذا ما قالوه؟ (قلنا) وليس في هذا ما يناقض ما قالوه إذ ليس فيه إلا نفي وقوع الكسوف لموت أحد أو لحياته والأمر بالصلاة عنده والشرع الذي يأمر بالصلاة عند الزوال والغروب والطلوع من أين يبعد منه أن يأمر عند الكسوف بها استحبابا؟ (فإن قيل) فقد روي أنه قال في آخر الحديث (ولكن الله إذا تجلى لشيء خضع له) فيدل على أن الكسوف خضوع بسبب التجلي. (قلنا) هذه الزيادة لم يصح نقلها فيجب تكذيب ناقلها، وإنما المروي ما ذكرناه. كيف ولو كان صحيحا لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية، فكم من ظواهر أولت بالأدلة القطعية التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد وأعظم ما يقدح به الملحد أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع إن كان شرطه أمثال ذلك، وهذا لأن البحث في العالم عن كونه حادثًا أو قديمًا ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة أو بسيطًا أو مثمنًا أو مسدسًا وسواء كانت السموات وما تحتها ثلاثة عشر طبقة كما قالوه أو أقل وأكثر - فنسبة النظر فيه إلى البحث الإلهي كنسبة النظر إلى طبقات البصل وعددها وعدد حب الرمان، فالمقصود كونها من فعل الله فقط كيفما كانت. (القسم الثالث) ما يتعلق النزاع فيه بأصل من أصول الدين كالقول في حدوث العالم وصفات الصانع وبيان حشر الأجساد والأبدان، وقد أنكروا جميع ذلك. فهذا الفن ونظائره هو الذي ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه. (مقدمة ثالثة) ليعلم أن المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة فظن أن مسالكهم نقية عن التناقض ببيان وجوه تهافتهم، فلذلك أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر لا دخول مدع مثبت فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعًا به بإلزامات مختلفة فألزمهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطورًا مذهب الواقفية، ولا أنتهض ذابًّا عن مذهب مخصوص بل أجمل جميع الفرق إلبًا واحدًا عليهم فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب الأحقاد. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))