في ليلة الخميس ويومه الماضيين (١٢ ربيع الأول الأنور) احتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بتذكار مولد سيد الخلق على الإطلاق، ومتمم مكارم الأخلاق، وخاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وهذا الاحتفال من المواسم الحادثة في المِلّة وأول مَن سنَّه الملك المظفر صاحب أربل المتوفي سنة ٦٣٠ للهجرة الشريفة، وقد تقبله المسلمون كافة بقبول حسن، وتنافس الملوك والأمراء وسائر الطبقات بالاحتفال به من ذلك العهد إلى الآن، وألّف العلماء في خبر المولد وما جاء في تاريخه قصصًا تُتلى في الاحتفالات. تتخللها المدائح والصلوات، وتوزع بعدها العطايا والصدقات. وفي هذا العصر يزيد المسلمون على هذه الأعمال إقامة معالم الزينة من رفع الأعلام، وإيقاد الشموع والمصابيح، وإحراق المواد الملتهبة التي تصعد في الجو وتُحدث فيه أشكالاً نورانية ملونة بألوان تَسُرّ النواظر، وتشرح رؤيتها الخواطر. وفي بلاد مصر وكثير من البلاد الإسلامية الأخرى تقام هذه الزينة على نفقة الحكومة، كسائر الزينات التي يعملونها في الاحتفال بتذكار موالد الملوك والأمراء المستقلين بالحكم وأيام جلوسهم على منصات الأحكام. ويا ليت المسلمين وقفوا عند هذه الحدود ولم يتعدوها، وإن كان المعروف في الفقه أن إتلاف المال - في غير غرض شرعي صحيح - مُحرّم؛ لما تقتضيه الأصول الاقتصادية التي جاء بها الإسلام، ولكنهم تعدّوا الحدود، لا سيما في هذا القطر، وصار هذا الموسم الشريف في مصر ينبوع المنكرات، ومحط رحال الفواحش، واتسعت بذلك دائرة الموالد؛ فصاروا يقيمون لكل شيخ معتقد من الأموات مولدًا يحتفل به الأهلون بإذن الحكومة، لا بمشاركتها، حتى إن للسيد البدوي (رحمه الله تعالى) ثلاثة موالد في السنة؛ لشدة اعتقادهم فيه، ويعلم قرّاء (المنار) ما في هذه الموالد من البدع والمنكرات مما كتبناه قبل فلا نعيده، وإنما نذكر رأينا في الاحتفال بالمولد، وما ينبغي له وفيه، وهو: (١) يجب السعي في تطهير الاحتفال من الفواحش والمنكرات، وهذا واجب على الحكومة، ولكنها لا تفعله من نفسها، فيجب على العلماء وشيخ مشايخ الطرق أن يتّفقوا على طلب هذا من الحكومة، وهي - بلا شك - تجيبهم إليه، وإنما خصصنا العلماء بالذكر - مع أن النهي عن المنكر فرض على كل مَن أمكنه، وهو الآن ممكن لكل أحد؛ لأن الحكومة لا تعاقِب أي إنسان على مِثل هذا الطلب - لأن الحكومة قلّما تلتفت في مثل هذا الأمر لقول غير العلماء؛ لا سيما مع سكوتهم ورضاهم به، ويسرنا أن سعادة محافظ مصر قد أزال بعض المنكرات في هذه السنة كرقص النساء، ولا ندري هل كان ذلك عن باعث ديني فيدوم المنع ويتعدى إلى منع سائر المنكرات؟ أم كان عن باعث صحي لأجل تقليل الاجتماع خوفًا من الوباء، فيعود في سنة أخرى كما كان؟ ، وقد كان اجتماع الناس وحضورهم الاحتفال في هذه السنة أقل منه فيما قبلها، فيا تُرى هل السبب في ذلك قلة المنكرات التي كان يسعى إليه الفُجار؟ أم شعور المسلمين بأن مَن يحضر هذا الاجتماع يشاهد منكرات لا يقدر على إزالتها، فيحرم عليه السعي لمشاهدتها وتكثير سواد أهلها؟ ونسأل مَن يعلم السر وأخفى أن يوفِّق الراعي والرعية إلى خير الأمرين وأقصد السبيلين. (٢) أن قصص المولد النبوي - التي سمعناها ورأيناها - كلها مشتملة على ما لا يصح، وخالية عن أهم ما ينبغي أن يكون فيها وهو التنويه بالإصلاح العظيم الذي حصل في العالم على يد صاحب المولد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من قواعد المدنية والعمران، وأسباب السعادة للإنسان، وجمْعه أشتات الأمة العربية، وانتياشه إياها من هوة الهمجية، ونفخه في شعوبها روح الوحدة والمدنية، مع ضعف استعدادها، ومنافاة ذلك لأخلاقها وعادها ... إلى غير ذلك من المحاسن والمزايا الصحيحة، والمناقب الفاضلة الرجيحة، التي تجذب قلوب الناظرين في الفنون العصرية، والمغرمين بالمدنية الأوروبية، إلى تعاليم دينهم العالية، التي كانت مبدأ هذه المدنية الزاهية، ولا تقصر عن إفادة سائر الطبقات، وهدايتهم بأبين الآيات، فينبغي تأليف رسائل للمولد تشتمل على ما ذكر، ولعل الله تعالى يوفقنا للسبق إلى كتابة (قصة مولد) تحْسن الخطابة ارتجالاً لإلقاء الخُطَب في المسائل التي أشرنا إليها في كل مجتمع من مجتمعات على هذا النحو. (٣) انتداب طائفة الاحتفال؛ فإن الخطب أوقع في النفوس وأشد تأثيرًا في القلوب، وقد أومأنا إلى هذا في (المنار) الماضي، وإذا لم يسعَ في إبطال سائر الموالد فلينحُ فيها هذا النحو، وما يتذكر إلا أولو الألباب.