من القضايا المُسلَّمة أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولا مندوحة عن مراعاة ما يتواطؤ عليه الجمهور، ومجاراة الناس على ما يصطلحون عليه في كل زمان ومكان. وقد انطلقت ألسنة أهل هذا العصر، وجرت أقلامهم بألفاظ يريدون بها من المعاني غير ما تدل عليه في أصل اللغة أو في عرف العصور السالفة، ولهم ألفاظ أخرى جاءتهم من الفنون الحادثة والاكتشافات الجديدة، والكثير منها مما لم تستعمله العرب، فرأينا أن نشرح في صحيفتنا هذه الألفاظ حيناً بعد حين؛ لأن الكثير من القراء غير عارفين بها على الوجه الذي نستعمله، وبالمعنى الذي يفهمه العارفون، وقد مر منها في فاتحة هذا العدد لفظ الطبيعة، والطبيعي، والنواميس الطبيعية , وقوى الطبيعة، والكفر. أما لفظ (الطبيعة) : فقد كان فيما مضى مما لا يكاد يستعمله إلا الأطباء والصوفية والفلاسفة، وأكثر من كان يستعمله الأطباء، ويطلق لفظ الطبيعة عندهم على عدة معان: على الهيئة التركيبية، وعلى المزاج الخاص بالبدن، وعلى القوة المدبرة، وعلى حركة النفس، وربما أطلقت (الطبيعة) على النفس الناطقة باعتبار تدبيرها للبدن. والطبائع الأربع في عرف الأطباء والطبيعيين: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وكان يطلق لقب الطبيعي على فرقة تعبد الطبائع الأربع، وعلى من ينسب كل شيء للطبيعة، كما يطلق على صاحب العلم الطبيعي. وقد عرف السيد الجرجاني (قدس سره) (الطبيعة) : بالقوة السارية في الأجسام، بها يصل الجسم إلى كماله الطبيعي، وكان الصوفية يستعملونه في غير هذا المعنى أيضًا، وليس بين يدي الآن شيء من كتبهم أراجعه في ذلك. وأما لفظ (الطبيعة) اليوم فهو كثير الدوران على ألسنة جميع الكُتّاب في الفنون العلمية والأدبية حتى الشعراء والمترسلين، ويجرونه على معناه اللغوي وهو: المخلوقات أو الحالة التي هي عليها. وبيان ذلك أن (الطبيعة) في اللغة بمعنى: الخلقة والخليقة والفطرة، فخلق الله الأشياء وفطرها وطبعها بمعنى واحد، وإذا قلنا: إن هذا الشيء تقتضيه طبيعة الاجتماع الإنساني، فهو كما إذا قلنا: تقتضيه فطرة الله التي فطر الناس عليها بلا فرق، وحاصل القول: أن لفظ (الطبيعة) حيث أطلق فالمراد به الحالة التي طبع الله الموجودات عليها أي خلقهم، وتطلق على الموجودات أنفسها، فيقال: تأمل محاسن الطبيعة أي المخلوقات. وأما (الطبيعي) فهو: المنسوب للطبيعة، كالخلقي نسبة للخلقة، ويستعمل في مقابلة الصناعي، فيراد به ما لا صنع للبشر فيه أي في هيئته التركيبية، كالأشجار والبحار، ويطلق على العالم بالفنون الطبيعية، وإن كان متديناً، ولا يطلق على الملحد من حيث إنه ملحد، وإن نسب الأشياء للطبيعة واعتقد أنها مُوجِدَة لها ومؤثرة فيها من دون الله تعالى، بل يطلقون على من هذا شأنه لفظ: (الكافر) و (الدهري) و (المادي) (لأنه ينكر ما وراء المادة، فلا يعتقد بالإله ولا بالعالم الآخر) وفي بلاد الهند يطلقون عليه لقب: (نيشري) ، وأكثر عامة بلادنا لا يفهمون من لفظ الطبيعي إذا أطلق على إنسان إلا هذا المعنى الأخير، وهو الذي حملنا على هذا البيان لئلا يحملوا كلامنا على ما يفهمون. ويدور هذا اللفظ على الألسنة كثيراً في المحاورات المتعلقة بسائر الشؤون، ويراد به مجرد التأكيد والتحقيق أو أن هذا الشيء ظاهر بالبداهة، تراهم عند سماع شيء من المسلمات يقولون: هذا طبيعي، يعنون أنه بديهي أو محقق لا نزاع فيه، وأما العلماء والكتاب فيعنون بقولهم: (هذا شيء طبيعي) : أن له سببًا طبيعيًّا يعلل به. وأما (النواميس الطبيعية) : فالمراد من الناموس: الطريقة الثابتة المطردة التي يحكم الله تعالى بها على الكون، وهو محرف عن لفظ: (نومس) اليوناني، ومعناه: الشريعة، وكثيرًا ما يدور على ألسنة الطبيعيين (شريعة الطبيعة) و (الشرائع الطبيعية) ، ويستعمله كتاب العربية في المقالات الأدبية والسياسية، مجاراة لهم وعملاً باصطلاحهم، وكان الأولى أن يترجم لفظ: (نومس) بالسنة، فيقال: (سنة الطبيعة) و (السنن الطبيعية) ، وبعض الكتاب يستعمل هذا الحرف وستراه كثيرًا في هذه الجريدة، وقد نعتاض عنه أحيانًا بقولنا: (سنة الكون) و (السنن الإلهية) و (سنة الله في خلقه) . وأما القوى الطبيعية فهي عبارة عما تسند إليه الآثار الطارئة على الأجسام من حركة أو سكون، ومنها ما هو حقيقي كالقوة البخارية والكهربائية، وما هو فرض كالجاذبية، فإن تعليل سقوط نحو الحجر من الهواء على الأرض بأنه سقط بقوة الجاذبية التي في مركز الأرض يوهم أن هناك شيئًا موجودًا له هذا الفعل وأنهم اطلعوا عليه وسموه بهذا الاسم، وليس كذلك، بل إن هذه القوة مفروضة، والتسمية اصطلاحية، ولما كان الفعل الذي نُسِبَ إليها يَصْدُر عنها باطراد صح إطلاق لفظ (الناموس) عليها فقالوا: (ناموس جاذبية الثقل) ، ومثل هذا كثير، وقد أطلنا في البيان حتى كدنا نخرج عن المقصود. وأما لفظ (الكفر) : فيطلق في عرف الكتاب اليوم على الملاحدة كما ألمعنا إليه في عرض كلامنا آنفًا، فمهما أطلقنا لقب (الكافر) أو اسم الكفر في كلامنا فنريد به ما ذكرنا، ولا نطلقه على المخالفين لنا في الدين من أصحاب الملل الأخرى؛ لأنهم ليسوا كفارًا بهذا المعنى، بل نقول بعدم جواز إطلاقه عليهم شرعًا؛ لأنه صار في هذه الأيام من أقبح الشتائم وأجرح سهام الامتهان، وذلك مما تحظره علينا الشريعة باتفاق علماء الإسلام، ولا يصدنك عن قبول هذا القول إطلاق ما ذكر في العصر الأول للملة على كل مخالف؛ فإنه لم يكن في زمن التشريع يرمى به لهذا الغرض، بل كان من ألطف الألفاظ التي تدل على المخالف من غير ملاحظة غميزة ولا إزراء، فضلاً عن إرادة الشتم والإيذاء المخالفة لمقاصد الدين وآدابه. ذلك أن معنى (الكفر) في أصل اللغة: الستر والتغطية، وكانوا يسمون الليل كافرًا؛ لأنه يغطي بظلامه الأشياء، وأطلقوا لفظ (الكافر) على طلع النخل، وأكمام النور (الزهر) لما ذكر، وعلى البحر؛ لأن الشمس تغيب فيه بحسب الظاهر، وعلى ثوب كانوا يلبسونه فوق الدرع يقولون له: (كافر الدروع) ، وقد سمى القرآن العظيم الزراع كفارًا، كما هو المشهور في تفسير قوله تعالى {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: ٢٠) وأمثال هذا في اللغة كثيرة، ويظهر منها أن حقيقة الكفر تغطية المحسوس بالمحسوس، ثم أطلق على من لم يذعن للدين ومن لم يشكر النعمة تجوزًا، وكل ما نقل من العبارات المستعملة من هذه المادة يومئ إلى ما ذكرنا (راجع الأساس وغيره) . وحيث قد اختلفت الحال وتغير الاستعمال فلا ينبغي إطلاق اسم الكفر على صاحب دين يؤمن بالله (ولا نغير كتب الفقه أو نعترض عليها) . ورُبَّ متحمس يرميني بالافتئات على الفقهاء أو مصانعة النصارى أو الميل مع ريح السياسة عن جادة الشرع، فأقول: على رسلك أيها المتحمس؛ فإن أذية الأجنبي المعاهد على ترك الحرب محرمة، فما بالك بالوطني (أي من المخالفين لنا في الدين) ، وإن كان لا يقنعك إلا النص الصريح من كتب الفقه على هذه المسألة بخصوصها فإليك هذين النصين؛ أحدهما عام، والآخر خاص بلفظ الكفر. جاء في (معين الأحكام) ما نصه: (إذا شتم الذمي يعزر؛ لأنه ارتكب معصية، وفيه نقلاً عن الغنية ولو قال للذمي: يا كافر يأثم إن شق عليه) اهـ. ولعل وجدانك لا يسمح لك بأن تقول الآن: إنه لا يشق عليه، وهو سب صريح، وإذا ثبت أنه لا يجوز نداؤه بهذا اللقب في وجهه؛ لأنه يستاء منه فلا شك أن إطلاقه عليه في غيبته غير جائز أيضًا؛ لأن غيبته محرمة، فينتج أن ذلك إثم في كل حال، وسنفرد لهذه المباحث مقالات في الأعداد التالية إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))