{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) قضت المقادير أن أغير خطة سفري عن طريق مرسيليا إلى طريق إيطاليا وكان لي في ذلك خطان من السير: أحدهما يمر بالروم ثم يصل إلى نابولي ثم تكون الإقامة في نابولي نحو أربعة أيام ويعدو المركب بنا إلى ماسينا ومنها يذهب إلى الإسكندرية، والآخر ينتهي عند بلرم (أو باليرم) وتكون الإقامة خمسة أيام نذهب بعدها إلى ماسينا كذلك، وكان بودي لو ذهبت مع الخط الأول فكنت رأيت بلدانًا كثيرة وآثارًا عظيمة تزيد في علمي كثيرًا مما لم أعلم إلى اليوم، غير أن بعض أصحابي قال لي: إن بلرم هي عاصمة صقلية ويوجد فيها من الآثار العربية ما يهم العربي أن يراه وفيها داران للكتب لا تخلو كل منهما من كتب عربية قديمة ربما يستغرق الاطِّلاع عليها زمنًا مثل الزمن الذي تقضي الضرورة بصرفه إلى يوم السفر إلى ماسينا، ففضلت النزول إلى بلرم ولا أذكر الآن شيئًا مما لاقيت من الحمالين وغيرهم من مستقبلي المسافرين ولكن أعود إليه. بعد أن أخذت مكانًا في نُزُل سنترال بشارع رومه خرجت لإيصال بعض رسائل التوصية إلى من أرسلت إليهم فلقيت منهم ما سرني وكان أحدهم موصى بأن يسهل لي طريق زيارة المكتبة العمومية ودار المحفوظات الرسمية والتمكن من رؤية ما يكون فيها فوعدني بالمجيء في الغد لمرافقتي إلى المكتبة. ثم بعد ذلك بدأت بزيارة قصر الملك ولا حاجة بي إلى وصفه فإن ذلك من شأن صاحب جريدة أو سائح يطلب إظهار البراعة في حسن الوصف وسعة العبارة. وغاية ما أقول إنه قصر (أو سراي) واسع كبير البيوت باهر الزينة والأثاث كسائر قصور الملوك في أوربا أو في غيرها من البلاد الشرقية والغربية مما تنفق فيه الأموال بحساب وبغير حساب ولا شيء منها من كد الملك أو الأمير، وإنما هي من أموال الرعية وكسب الحفاة العراة الذين لا يجدون ما به يستترون ويشتهون، لو أنفق على جدران أبدانهم وأركان أجسادهم جزءٌ من المليون مما أنفق على حيطان تلك القصور وزواياها وسقوفها، ما أنا بذاكرٍ شيئًا من وصف ذلك الغنى في بلد الفقر ولكن أذكر ما رأيت فيه مما يحب الشرقي أن يطلع عليه إما لعبرة وأما لفكاهة. ذهب بي حارس القصر أولاً إلى حيث توجد كنيسة الملك ولا حاجة إلى وصفها كذلك - إلا لو كان الله يحب أن تزين له معابده وتنقش لمجده مساجده كما يحب ذلك ملوك الأرض - فوجدت في الممر الموصل إليها على الحائط المتصل بالكنيسة حجرًا قد كتبت عليه هذه العبارة: (خرج الأمر من الحضرة الملكية المعظمية الرجارية العلية أيد الله أيامها وأيد أعلامها بعمل هذه الآلة لرصد الساعات بمدينة صقلية المحمية سنة ست وثمانين وخمسمائة) ثم في أعلى الحجر سطور بالحرف اليوناني يظهر أنها ترجمة هذه العبارة والحضرة الرجارية هي حضرة الملك رجار أو (روجير) النُّرْمَنديِّ الذي دخل جزيرة صقلية وفتحها على العرب وكان لسانه الرسمي في حكومته اللسان العربي واليوناني أما ميله في البناء والزينة فكان إلى الرسم اليوناني. ولهذا الملك آثار كثيرة في بلرم ويوجد كثير من المحررات العربية والصكوك مما كتب في أيامه أن العرب كانوا في زمن النرمنديين ممتعين بحرية تامة في شعائر دينهم وتصرفهم في شؤونهم وإن كان هذا الملك قد هدم مساجد كثيرة لنقل أعمدتها الجميلة إلى الكنائس التي رأى تجديدها في المدينة ويظهر من العبارة المرقومة على الحجر أن هذا النرمندي كان عندما دخل البلاد ذهب مذهب أهلها من العرب في المدينة ولم يحتقر ما وجد من آثار العلم فكان يأمر بصنع الآلات الفنية والفلكية ويساعد القائمين بعملها. رأيت في خزينة الجواهر من قصر الملك صُندوقًا عربيًّا في طول نحو ثلثي ذراع وارتفاع ثلاثة أرباع الذراع صنع من ثمانِ مائة سنة على ما يقول الحارس وهو مغشى بالنقوش الذهبية من أجمل ما تراه عين الآن وقيمته عند الدولة خمس مائة ألف فرنك ورأيت في أحد بيوت القصر بابًا من الحديد مطليًّا بطلاء أصفر جميل من أجمل ما يصنع من الأبواب وهو من صنع أيدي العرب أيام دولتهم. رأيت بيتًا من بيوت القصر فيه صور نواب الملوك في عهد البربون بعد النرمنديين ومع كل نائب منهم كردينال كما كان للملوك كردالة يصحبونهم ويشركونهم في كثير من شؤون الملك لذلك كان النائب عن الملك يصحبه كردينال يرجع إليه في أمور دينه وفي أعماله السياسية أيام كانت الأحكام المدنية والسياسية مما يدخل فيه رجال الدين كما نقول عندنا (المفتي أو شيخ الإسلام) في عهد الملوك الذين لا تسمح لهم أوقاتهم بتعليم العلوم الدينية فيحتاجون إلى من يرجعون إليه من علماء الدين. غير أن المفتي وشيخ الإسلام إنما يجيب عما يسأل عنه أو يؤدي ما كُلف به، أما الكردينال فكان يبتدئ المشوار ويقترح المطلب ويقيم نائب الملك على المذهب ويكف يده عن العمل لا يرضاه ويحمله على بسطها فيما يتوخاه فكانت السلطة الحقيقية مدنية سياسية دينية في نظام واحد لا فصل فيه بين السلطتين وهذا الضرب من النظام هو الذي يعمل الباباوات وعمالهم من رجال الكثلكة على إرجاعه؛ لأنه أصل من أصول الديانة المسيحية عندهم، وإن كان ينكر وحدة السلطة الدينية والمدنية مَن لا يدين بدينهم. كان مما قيده بعض أصدقائي في جريدة الأمكنة التي يرغب في رؤيتها محل يسمى بالدوم؛ أي: القبب فذهب إليه وإذا هو الكنيسة الكبرى التي تسمى كاتيدرال، رئيسها هو مرجع رؤساء بقية الكنائس في المدينة أو الولاية وهي من عظمة البناء وبهجة الزينة على ما يطول شرحه وأصل هذه الكنيسة الكبرى مسجد باقٍ على ما هو عليه حتى بابه الخشبي الجميل، غاية ما في الأمر أنه زِيدتْ فيه الصور والتماثيل. وضروب أخرى من الزينة الكنائسية ويمكن للناظر أن يتفرس ذلك بمجرد رؤيته من الظاهر؛ لأن رسم البناء على الطريقة العربية في عامة المساجد. زرت بعد ذلك ديرًا يسمى دير سانت جواني وهو مما كان قد كُتب في جريدة الأماكن ولم أر فيه شيئًا سوى أن أسفل الدير كان مسجدًا فلما جاء النرمنديون حولوه إلى كنيسة بناها راجار ونقل إليها هذه الأعمدة من المساجد التي خربها لما أعجبه من أعمدتها، ثم أخذني السادن بعد ذلك إلى قبة قريبة من الكنيسة وقال لي: إنها على شكل عربي ولما رأيتها خالية من الزينة المعتادة رؤيتها في أماكن العبادة النصرانية سألته في ذلك فأخبرني أن الأسبانيين عندما غلبوا على سيسيليا سلبوا ما كان في هذه الكنيسة من المورابيك (زينة من أجمل ما تزين به الأماكن والأدوات تصنع من قطع دقيقة من الحجارة على أشكال مختلفة بحيث يصور بها جميع ما يمكن تصويره من الرسوم والصور) وحملوا ذلك إلى بلادهم، وقال: إنهم لم يقتصروا على ذلك؛ بل سلبوا الكنائس كل ما كان فيها من المصنوعات الفضية كذلك، فقلت لصاحب كان معي: يظهر أن كل فاتح يرى من الواجب عليه أن يفسد شيئًا من عمل من سبقه فكل منهم يقوم بما رآه واجبًا عليه. عرفت قسيسًا حلبيًّا معلمًا للعربية بمدرسة دير الكبوشيين في بلرم - وسنأتي على ذكره - فمما أرشدني إليه رؤية بقية من قصر يسمى العزيزة وهو اسمه في الطليانية، فذهبت معه إليه وإذا هو قاعة كبيرة فيها سلسبيل ماء بنيت على نمط ما كنا نسميه عندنا (القاعات الحرمية) حيطانها مزينة بالموزاييك من أجمل ما تحب عين أن تراه ولم يبق من القصر مكان ينظر إليه السائحون إلا تلك القاعة. أما أعلى القصر فيسكنه أناس من أهل المدينة وقد دخل بتمامه في ملك بعض الأغنياء. والقصر من بناء الملك راجار النرمندي بناه لابنته عزيزة. وعلى مقربة من هذا القصر قبة يقول القسيس: إنها مسجد عربي فأخذنا نحوها فإذا هي في بستان كبير قد أغلق بابه وقيل لنا: إن خادم البستان فيه، وذهب ذاهب ليناديه، وطال بنا الوقوف، واجتمعت علينا من الصغار والنساء صفوف أو زحوف، جلبتهم علينا تلك العمامة وصاحبتها الجبة، وكلما طردنا فوجًا أقبل فوج، أو نجونا من موج علا علينا موج، إلى أن جاء رجل قيل: إنه حارس البستان، وبعد قيل وقال في فتح الباب، واحتياجه إلى إذن من صاحب البستان، رضي بالفتح، طمعًا في النفح، فدخلنا ورأينا صعوبة جديدة في فتح القبة فذللناها. القبة من قباب المشائخ التي يقيمها المسلمون على قبور الأولياء أو الأمراء على خلاف ما يأمر به الدين وأظن أنها على قبر من هذه القبور وليس فيها من أثر عربي سوى شكلها هذا. كنيسة موريالي وتساهل العرب وأين هم اليوم؟ ! مما رأيته في بلرم (صقلية) كنيسة موريالي وجميع سقفها والأغلب من جدرانها مغشى بالموزاييك ألوانًا وأشكالاً من أبهى ما يبهج الناظر، وأجمل ما يسرح فيه الخاطر، وفي ناحية منها قبة تعرف بمعبد الصليب فيها من التماثيل وضروب الزينة ما يقصر عنه الوصف. وأهم ما يذكر في شأنها أنها مبنية في القرن السادس من التاريخ المسيحي فيكون لها نحو ألف وثلاث مائة سنة والمصنوعات الخشبية الجميلة محفوظة من ذلك العهد لم يجرؤ السوس على قرض شيء منها ببركة العناية والاهتمام بالتنظيف وأما ما يقول به بعض الحذاق في معرفة طبائع هذه الهوام الدقيقة من أنها تعرف الصلب وما خصص له من الأدوات وتشعر باحترام تلك الصور والتماثيل التي صورت في تلك الأخشاب وأنها بذلك صارت مسيحية كاثوليكية فلا يباح لها قرض الخشب المسيحي، ثم إن اعتقادها بحرمة القرض، حملها على العمل فخالفت شهوة الأكل قيامًا بالفرض - فلا أظنه في غاية الصحة، بل ولا في أولها كذلك. ويقال: إن الكنيسة من بناء الملك كيليولمو الثاني وقبره فيها صندوق من حجر فيه جثته. ومن ذلك تعرف أن العرب رحمهم الله لم يمسُّوا هذه الكنيسة بسوء مع عظمة سطوتهم وامتداد ملكهم في سيسيليا، وتلمح من هذا أن العرب - وإن فسق كثير منهم عن أمر ربهم - فروح الدين الإسلامي كانت تنوس في كثير من أعمالهم، نهى الدين عن هدم الكنائس إذا لم تكن مربضًا لشر يخشى خطره على الدولة فحفظوا لرعاياهم كنائسهم ومعابدهم ولم يصنعوا بها ما صنع غيرهم ممن جاء بعدهم، ولم يريدوا أن يقتفوا أثر خصومهم ممن كان يهدم مساجدهم، ويخرب معابدهم، فحيا الله أيامهم. لا جرم أن الإسلام عربي وأحق الناس برعايته والوقوف عند حدوده بعد فهم حقيقته هم العرب فأين هم؟ يمكن أن يقول قائل: إنهم في جزيرة العرب أو في الشام أو في العراق أو في مصر أو في تونس والجزائر أو في المغرب الأقصى، أفلم يكفك كل هذا العدد في أكثر من ألف بلد، حتى تقول: أين هم؟ ولكني أقول له: إنما يكون القوم أولئك القوم إذا بقيت لهم أخلاقهم، وحياة أرواحهم، فإن كان لم يبق إلا أشباح تشبه أشباحهم فليسوا بهم، فلي الحق أن أقول عن العرب: فأين هم؟ دير الكبوشيين ومدرستهم ومقبرتهم في بلرم وفيه بحث الدعوة إلى الدين وإحياء اللغة للكبوشيين دير في بلرم فيه معبد ومدرسة ومقبرتان. أما المعبد فهو المعبد لا يحتاج إلى الكلام عليه ولا يختلف عن غيره من المعابد، وأما المدرسة فهي لتعلم اللغات والفنون والعلوم التي يحتاج إليها المرسلون الذين يكلفون بالدعوة إلى الدين المسيحي والتبشير بالإنجيل ونشر ما تقتضي الغيرة الدينية نشره في الأقطار النائية كبلاد العرب والترك والفرس وغيرها. ومما يعلم فيها اللغة العربية، وأستاذها الراهب جبرائيل ماريا الكبوشي وهو من حلب وتعلم العربية في بيروت وأخبرني أن من أساتذته صديقنا الشيخ سعيد الشرتوني صاحب (أقرب الموارد) في اللغة. لاقيت ذلك الراهب وحادثته في شأنه والزمن الذي قضاه في إيطاليا والداعي إلى الإقامة فيها فتبين لي أنه جاء إليها ليخدم دينه هذه الخدمة - تعليم اللغة العربية لنشر الدين في بلاد العرب مثلاً. وكان يتحرى في كلامه قواعد اللغة العربية بقدر الإمكان فحمدت منه ذلك. كأنه اعتقد أنه إنما تعلم العربية لينتفع بها في منطقه وإن كان في بلاد إيطاليا وعمل بما اعتقد، وما كان أسهل عليه أن يكلمني بالحلبية كما يكلمني البيروتي بالبيروتية والتونسي بالتونسية ولا يبالي أكنت أفهم أم لا أفهم كما لا يبالي الكثير ممن ذكرناهم. وفي هذه المدرسة تعلم العلوم اللاهوتية كذلك للغاية التي ذكرناها ولا حاجة إلى ذكر ما فيها من العلوم فإن ما تحتاج إليه للبراعة في نشر الدين والدعوة إليه معروف عند من يعرف ما هو الدين ويتصور معنى الدعوة إليه. أما من لا يعرف ذلك فلا نكتب له حرفًا واحدًا من هذا الكلام، فإن قال قائل: فلمن تكتب ما تكتب؟ قلت: إن فقد الفاهم فإنني أحفظه لنفسي والسلام. هل خطر ببالنا - وكل منا يدعي الغيرة على دينه ويرى أنه الحق الذي يجب على الناس كافة أن يخلصوا أرواحهم باعتقاده والأخذ بأصوله - أن ننشئ فرعًا من فروع التعليم لنشر الدين وتقويم أصوله بين أهله فضلاً عن نشره بين من ليسوا من أهله؟ أريد من أهله أولئك الذين لبِسوا رداءه واعترفوا أن الدين دينهم سواء عرفوه حق معرفته وهم في غنى عن الدعوة إليه، أو جهلوه أو انحرفوا عن طريقه وهم أحوج الناس إلى الإرشاد وأشدهم افتقارًا إلى من يحول إليه نظرهم، ويعطف عليه اختيارهم؟ هل مر ببالنا أن نهيئ لهذا الفرع من التعليم ما يلزم له من فنون وأساتذة لتلك الفنون كما يهيئ هؤلاء ما يهيئون لتعليم من يقوم بدعوة من ليس من دينهم إلى دينهم؟ ما كان أحوجنا إلى إنشاء ضرب من التعليم خاص بمن يكلف بإرشاد من يسيء إلى الدين باسم الدين ومن يهدم شرف الدين بعمل ينسبه إلى الدين؟ ألا يحق لنا أن نطلب من أولئك الذين صعدت بهم ألقاب الرئاسة الدينية إلى أسمى المنازل أن يفكروا في هذا الأمر، ويقوموا بما يجب عليهم منه، إن لم يكن لمصلحة الدين فلمصلحة أنفسهم، فإن في تقوية جانب الدين تقوية لمساندهم، وفي تبصير العامة بشؤون الدين تمكينًا لحرمتهم في نفوس الدهماء وتسجيلاً لسيادتهم عليها؟ أليس لنا على ضعفنا أن نذكرهم بالأمر الإلهي القارع للقلوب المزعج للهمم في قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ٠٠٠٠} (آل عمران: ١٠٤) إلخ فهل يليق بهم أن يصموا آذانهم عن هذا الخطاب ولا يخشوا أن يكون التصامّ عنه بمنزلة الخروج من مدلول كاف الخطاب ومشعرًا بأنهم ليسوا من أولئك الذين خوطبوا به؟ لنا بل علينا أن نطالبهم بذلك وأن نزيد عليه مطالبتهم بالنظر في إنشاء فرع لتعليم ما يلزم لنشر الدين بين بقية الأمم إن كانوا يعتقدون أن دينهم هو الحق فإن السكوت عن الدعوة إلى الحق رضاء بالباطل. أولئك الملوك والأمراء الذين لا فضل لشيء عليهم في تمتعهم بملكهم وإخضاع رعاياهم لسلطانهم مثل فضل الدين لِمَ لا يقتطعون شيئًا من مالهم وقطعًا من زمانهم ينفقونها في الاشتغال بإحياء روح الدين، ولا يكتفون بغش العامة بالمحافظة على رسوم كلها أو جلها لا يعرفه الدين؟ أفلا يجب عليهم أن يسعوا في زيادة تمكين قوتهم، وتعزيز سلطتهم؟ اللهم إلا إذا ظن هؤلاء وأولئك أن الدين حيوان يمشي على رجلين يطلب رزقه من القلوب حيث يجد الحاجة إليه، ويغدو إلى مرعاه من النفوس متى اشتد الجوع عليه، فإذا قصر في ذلك حتى أهلكه الجوع ومات فإنما إثمه على نفسه لا عليهم. ربما يقول قائل: ولِمَ تستبعد هذا الظن منهم فتعبر في جانبه بكلمة (اللهم) وهم قد يزعمون أنهم من أهل السنة وربما طلبوا الدخول في أثواب حماة السُّنَّة بهذا الظن الذي تستبعده وما عليهم في ذلك إلا أن يقولوا: نحن سُنِّيون لا نقول باستحالة شيء وفخرنا أن نجوز المحال ونذهب إلى جواز تجسم المعاني ونعتقد أن الأعمال والعقائد وهي معان نفيسة وحركات بدنية - يمكن أن تنقلب أشخاصًا حيوانات تمشي وأناسي تتكلم، أليست هذه العقيدة هي مطيتنا إلى الجنة؟ فليكن الدين رجلاً عاقلاً؟ أو ميكروبًا متنقلاً مفيدًا لا قاتلاً، يفعل لنفسه ما كان فاعلاً، ويدعنا نتمتع بالنسبة إليه، وإن لم يكن لنا عطف عليه، فنجيب القائل بأنهم مغرورون، وإن السنة بريئة مما يزعمون، وسيعلمون أي منقلب ينقلبون. خرج بنا الكلام عما نحن بصدده. هذا الراهب أستاذ العربية في الدير وضع طريقة سهلة لتعليم قواعد اللغة العربية من الصرف والنحو للإيطاليين - يضع القاعدة العربية ثم يفسرها باللغة الإيطالية بأسلوب يسهل معه تناولها بقدر الإمكان، وقد رأيت من تلامذة الراهب من يحسن قراءة العربية وإن كان لا يحسن التكلم بها لعدم التمرين على السماع والنطق، وما أحوج كل عربي إلى تعلم ما يحتاج إليه من لغته، لكن ما أشق العمل وما أوعر الطريق وما أكثر العقبات في طريق العربي الساعي في تحصيل ملكة لسانه! ! يفني عمره وهو لا يزال يضرب برجليه في أول الطريق، أفلا نشعر بالحاجة إلى تقريب المطلب، وتيسير المذهب في تحصيل ما تدعو إليه الحاجة من لغتنا حتى نستطيع فهم ما أودع فيها من النفائس؟ والتعبير بها عما نجد في أنفسنا، ونحب أن نسوقه إلى بني لغتنا على وجه صحيح، وبأسلوب فصيح؟ ألم يأنِ لنا أن نرجع إلى المعروف مما كان عليه سلفنا فنحيا بما كان قد أحياهم، وترك ما ابتدعه أخلافهم مما أماتهم وأماتنا معهم؟ أما المقبرتان فإحداهما في بناء متسع الأرجاء تحت الأرض ينزل إليه بسلم وفيه نوافذ يأتي إليه منها الضياء وقد وضعت فيه الجثث على ضروب شتى، فمن الجثث ما هو في صناديق مقفلة من الخشب أو الحجر أو البرنز، ومن ذلك جثة موسيو كرسبي رئيس الوزارة الإيطالية السابق فإنه في ذلك المحل في صندوق مغلق، ومنها ما وضع في صناديق من البلور بحيث تظهر الجثة للرائي من داخل الصندوق على الهيئة التي كانت عليها عند الموت. وقد يوجد في الصندوق الواحد عدة أشخاص بادية هياكلهم، ظاهرة وجوههم، على أتم ما يحزن له قلب، وتعبر به نفس، وهذان القسمان من الأموات إنما ينالون حظوة الاستيداع في هذا المكان إذا كانوا من الأغنياء الذين يتمكنون أن يدفعوا إلى الدير ما يطلبه من قيمة هذه الحظوة. وهناك قسم آخر وهو جثث محنطة قائمة في جوانب المكان عليها ثيابها في الحالة التي كانت عليها عند موتها وهي جثث الرهبان والقسيسين الذين يحبون أن يودعوا في هذا المكان ليسعدوا ببركته، ولهم هيئات تنقبض لها النفس، ويضيق بها الصدر، ولا حاجة بنا إلى تعداد ذلك ويكفي القارئ أن يتصور ميتًا في أشد ما تكره النفس مما يصوره الموت في البدن. وأما المقبرة الأخرى فهي كسائر المقابر على ظهر الأرض وإن كان الأموات في بطنها وهي من أجمل الأماكن وأنظفها والقبور فيها نظيفة البناء بهجة الظاهر، وقد غرس في المقبرة أشجار السرو بنظام بديع وقيل لنا: إن الذين يدفنون فيها هم الأمراء والأغنياء أما الفقراء فلهم مقبرة تليق بفقرهم في مكان آخر. وكأنه قضي عليهم بأن لا يساووا الأغنياء حتى في الموت مع أن الموت قد سوَّى بين الأغنياء وبين أدنى طبقة من الأحياء بل جعلهم طُعمة لأقذر الديدان كما جعل ذلك حظ أمثالهم من سائر الحيوان. قيل: إن الحكومة بعد أن استولت على رومية منعت الدفن في المقبرة الأولى على تلك الطريقة وأمرت أن لا يدفن الميت إلا في المقابر المعتادة كهذه المقبرة الثانية ونحوها وإنما حفظت الحق في الاستيداع في المعابد للبابا وللملك دون سائر الناس فهما وحدهما توضع جثتهما في صندوق وتودع في الكنيسة وقد أحسنت الحكومة في ذلك فإن من كان محجبًا بعظمته عن الناس في حياته، يجب أن يكون عبرة لعامتهم بعد مماته. (المنار) ليعتبر المصريون الذين لا يزالون على سُنة أسلافهم الفراعنة في تعظيم القبور واتخاذها مواسم وأعيادًا بمقابر الأمم الأخرى في زينتها ونظافتها وإنك لتجد طريق قرافة مصر شر طريق يمشي فيه الناس تكسو سالكيها ثوبًا من التراب فوق ثيابه وإنه لثوب يكسو باطن الأنف والفم وربما تصل أذياله إلى الصدر فلا هم أقاموا سنة الإسلام بدرس القبور وإهمالها ولا سنة سائر الملل بنظافتها وزينتها. (للرحلة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))