للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بدوي النقاش


إيضاح وانتقاد

جاءتْنا هذه الرسالة من صاحب الإمضاء فننشرها ونجيب عنها وهي:
العلاَّمة المفضال السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر:
(١- تحيةً وسلامًا) وبعد فيظهر أن المنار في جوابه على سؤالي الانتقادي
المُدْرَجِ في صحيفة (١٨٩ ج٣م ١٢) لم يتمكن من معرفة قصدي من الانتقاد أو
السؤال، وأنا بغاية الإيجاز أعيد عليه تفصيل مقصدي وما أنتقده عليه.
لا يخفى أن كل إنسان يهمه مستقبله، وإن شئت قل تهمه الآخرة أكثر من
الدنيا، ولا يمكننا أن نجد واحدًا مهما كان دينه يقول: إنه يريد لنفسه الشقاء، إذا
فهمنا هذا، فالأستاذ يعلم أن جمهور المسلمين ومنهم المرحوم ابن تيمية الذي تنطبق
آراؤكم على آرائه، يقولون: إن الله تعالى قبل أن يوجد الخلق، قد قسَّمهم قسمين:
فريق للجنة وفريق للسعير، وإن شئت قل فريق للهناء وفريق للشقاء.. أما هذه
العلة المدهشة في مثل هذا التعميم فهي غير معلومة للمنار أو لابن تيمية الذي يقول:
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة
نترك ذلك، ونؤمن معكم بهذا التقسيم الذي عمل قبل وجود الخلق مُؤَقَّتًا
(وإن كنا نعتقد بفساده) ونتأمل لِما (?) يَتْبَعُ ذلك من النتائج في الحياة الحاضرة
والعمل الإنساني.. هل الأسباب الدنيوية الموصلة إلى النتائج الأخروية تعتبر علة
لهذه النتائج؟ أم النتائج الأخروية المقررة نفسها علة للأسباب الدنيوية؟ .. . أقصد
إذا كان رجل كُتِبَتْ له السعادة في الآخرة عند الخالق.. هل يوفقه الله تعالى لأسباب
السعادة في هذه الحياة حتى يُنيله في الآخرة، ما قد تخصص إليه (?) من قبل
ليكون كما هو (?) سعيدًا؟ .. أما جواب ابن تيمية وإن شئت قل جوابكم أيضًا؛
إن العلة في أن يتوفق (?) لأسباب السعادة هو كونه مكتوبًا سعيدًا من قبل أي: إن
النتيجة كانت علة للسبب وليس العكس كما يقول ابن تيمية:
فمَن كان مِن أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة
ومَن كان مِن أهل السعادة لم ينل ... بأمر ولا نهي بتقدير شقوة
ومختصر المعنى أن المكتوب سعيدًا عند الله قبل أن يخلق يتأثر بطبيعته
بأوامر الله فيتبعها؛ ليكون كما لابد أن يكون، والمكتوب من قبل للشقاء (?) لا
تفيده المواعظ ولا الأوامر ولا النواهي، بل يسير بطبيعته إلى حيث يتوصل إلى
قسمته القديمة أيضًا. إذا علم المنار كل ما تقدم ووافق عليه، فأنا من جهة أخرى
أقول له: لا يهمني الآن فرقة القدرية ولا فرقة الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان
كالريشة في الهباء، كما أني لا أنكر أن القرآن الحكيم أمر بالعمل والنظر في
الأسباب ونظام الكون ... إلخ.
وكل الكلام الحلو الجميل الذي ذكره المنار في تفسير معنى القدر، وما ذكره
في (٨- حكم الإسلام في عمل الإنسان) مسلَّم به، بل القرآن ما هو أكثر وأحكم
وأمتن.
(٢- العقيدة) العقيدة من حيث هي: إما تكون فاسدة فتضر، وإما أن تكون
صحيحة فتنفع، والقرآن الحكيم أول الكتب السماوية الذي طلب تحكيم العقل في كل
عقيدة وفند كثيرًا من المعتقدات الفاسدة. فكيف وإني أعتقد جازمًا أن تقسيم الخلق
على الشكل السالف من أول العقائد الفاسدة، بل المضرة المهلكة أيضًا. ولا يخافن
المنار من ادعائي هذا بلا برهان، فإني أجيبه عند السؤال بشرط أن لا أتعدى
القرآن والعقل، فلنترك ذلك أيضًا مؤقتا.
(٣- اعتقاد المسلم في دينه) ماذا يعتقد المسلم في دينه؛ من حيث كونه
مسلمًا آمن بالله وحده وباليوم الآخر؟ لا شك أنه أفضل الأديان، بل أيّد القرآن أنَّ
مَن لم يكن في بواطنه (?) مخلصًا وخارجًا عن مبادئ الإسلام كانت له النار حتمًا
كالآية: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: ٨٥) فضِفْ اعتقاد المسلم هذا؛ بأن له الجنة وحده وأن غيره له
النار للأسباب المتقدمة إلى الاعتقاد السالف؛ بأن الله تعالى قسم الناس قسمين: قسم
للجنة وقسم للنار بلا علة تجد منها (?) إن المسلم هو الوحيد الذي كتب الله له
الجنة من الأزل وغيره له النار من الأزل. وإن المسلم موفَّق من الله بأعماله إلى
السنن التي تؤول به إلى الجنة وغيره إلى السنن التي تؤدي إلى ضدها أو إلى
الشقاء.
(٤-الكلام بحسب الواقع) إن بكلامي هذا للمنار أتكلم بالأغلبية العظمى (؟ ؟)
الظاهرة عند المسلمين وما عليه إجماع حال الأمة الباطني الحقيقي. فإن
المتنورين النوادر الذين يمكنهم أن يُحَوِّلُوا المعاني بسحر بيانهم وقوة عارضتهم
لتحليل (؟) أي فرض عسر حله؛ مثل صاحب المنار هم قليلون، وقد تواجد (؟)
مثل الشيخ محمد عبده (رحمه الله) وصاحب المنار مثل الغزالي وابن خلدون، ممن
ملؤوا الدنيا بفصاحتهم وقوة بيانهم ما لا يُطلب بعده المزيد. ولكن كل ذلك ما
كان يفيد تقريبًا، ولا قدم شيئًا للأمة محسوسًا ولا وضع الأمة في صفها الحقيقي كما
طلب الغزالي ويطلب صاحب المنار، ولم تزل ساقطة كما كانت تقريبا (؟) لو أردنا
أن نعمل بينها وبين غيرها نسبة؛ وغرضي أن تتوصلوا لتأصل هذا الداء الذي هو
أصل البلاء، حتى يكون إصلاحكم المنشود للأمة فعَّال مؤثر؟ لا يزول، وليس كمَن
يكتب على الماء، لماذا؟ لأنه إذا كانت الغاية النهائية التي يطلبها الإنسان والتي
هي نهاية آماله ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل. فالواسطة إن حسنت أو ساءت لا تهم
كثيرًا، ما دامت الغاية الأبدية المُعَوَّلُ عليها مقررة ومعلومة.
(٥- مثال عن حال تقسيم الناس في اعتقاد أغلب المسلمين) اسمع مني
تكرمًا يا صاحب المنار مثلا: رجلان وقفا أمام إدارة المنار أحدهما يسمى مسلمًا
والثاني غير مسلم، والأول أعلن؟ من إدارة المنار أنها ستحمله إلى حديقة الأزبكية
ليتمتع بما فيها من الجنات والمسرات، والثاني أعلنته أنه سيكون خارجها محرومًا
من كل شيء. ولكن أخبرتهما معًا في آن واحد أن الطريق ما بين إدارة المنار
والحديقة مملوء بأنواع المسرات، وهو لهما معًا، فمَن سار بقدميه وتأمل بعقله
ولسنن الكون والنظاميات الإلهية إلى ما في الطريق (؟) تمتع وتنعم أيُّ تَنَعُّمٍ،
ومن وقف منتظرًا مركبة المنار فليس له شيء مما في الطريق مطلقًا، ولا يجد في
المركبة غير الحرمان.. غير أنه على كل حال سيصل إلى مركزه المعين. الأول
سيكون داخل الحديقة والثاني خارجها، بلا سبب وبلا جواب، إن سأل.
أفتكر أن المنار عَرِفَ مقصدي من هذا المثال؛ فداخل الحديقة التي عُدَّتْ (؟)
للمسلم هي الجنة، وخارجها لغير المسلم هي النار. والطريق الموصل
إلى الطرفين مشترك بين الاثنين ولهما معًا؛ هي الحياة الدنيا الموجود فيها المسلم،
وبها معترك الحياة بين الجميع.
(٦- المسلمون في تمدنهم وانحطاطهم) سار بعض الأمم الإسلامية في
الطريق على السنن الطبيعية من غير أن ينتظروا مركبة الآخرة؛ ليحملوا عليها إلى
مقرهم، فتحصلوا على كل شيء في الطريق، ونالوا كل شيء بكدهم وعملهم كما كان
الأمر في صدر الإسلام، فتقدمت الأمم الإسلامية وسادت في الأرض، فكانت
سعيدة وسيدة في الدنيا غير سعادتها المضمونة لها في الآخرة حسب اعتقادها، ثم جاء
قوم مسلمون آخرون منهم وقالوا: ما لنا وَلِكَدِّ الحياة، بل ما لنا ولهذا المتاع الفاني،
فلنتزهد ونتقشف في الحياة، ولا نبحث على أكثر من قوت يومنا، فإن يقين
الإيمان بالآخرة ودوام التعبد كاف؛ لسعادة الروح بحسن المآل (ولا شك أن العقل
الذي يجعل أساس السعادة بالعقيدة من السهل عليه تجويز هذا الوهم) ولقد تتابع
التقاعد وعدم الاهتمام للحياة بين الأمم الإسلامية، حتى لو سألت بعض المتفقهين
الذين تغلب أفكارهم بين أكثر الناس عن أفكار مثل صاحب المنار النيرة، عن سبب
تقدم الأمم الغير إسلامية الحالي والماضي. أجابوك: هؤلاء لهم الدنيا ولَهْوُهَا
وزينتها، والعبرة بالأواخر والحياة الأبدية، ولقالوا لك في آن واحد: إذا كانت
توجد آيات قرآنية تدل على لزوم الأخذ بالأسباب، والتأمل للنتائج الطبيعية
العالمية والسنن الإلهية، فإن كثيرًا من الآيات ما يدل على التقشف وترك الدنيا، وإن
كان صاحب المنار له في ذلك تأويلاً لا يهمهم سماعه؛ لوجود عقيدة
التقسيم المذكورة أو ما يسمونه (بالقسمة) .
ومن جهة أخرى إذا تأملنا لعلل تأخر المسلمين الدنيوي وانحطاطهم، نجد أن
الأسباب التي ارتكنوا عليها في طبيعتها فاسدة؛ ولذا كان الانحطاط ملازمًا لها.
ولكن العقل المُؤَسَّسَ على العقيدة والمؤيد حتمًا لضرورة (وجود الأسباب الدنيوية
للعلة الأخروية) يحتم بوقوع تلك الأسباب قبل وجودها؛ لوجوب نتائجها ولزوم
وقوعها أيضًا.. فكان كلامي (في صحيفة ١٩١ ج ٣ م ١٢) عن العقل المُؤَسَّسِ
على العقيدة ما يأتي: (وما دامت الأسباب التي هي حجة للنتائج (؟) مقدرة
حتمية فالنتائج (أي الدنيوية خلاف الأخروية أيضًا) بالطبع تابعة لهذا الإلزام (؟)
وعليه فالتقاضي والحساب في الآخرة؛ ليس إلا لتتميم رواية كلامية.. وإذا كان
هذا مبدأ المنار، فلا يلومن الأمم الإسلامية الماضية، وما كانت فيه من الاضمحلال،
ولا داعي لاستخراج (؟) نتائج فلسفية أو عمرانية للزوم الأخذ بأسباب الترقي
والهرب من القديم، ولا عيب على حكومات الاستبداد.. ولا مانع من البقاء في
الجهل إلخ إذ إن الداعين للزوم تغيير المناهج؛ لتتغير معها النتائج ليسوا إلا
معترفين بلزوم التسلط، وتحوير القدر الإلهي القابض على الأسباب (حسب وهمهم)
بيد من حديد (وهناك إذا اعترفوا بذلك، كانت العقيدة في التقسيم المذكور فاسدة
ولا أصل لها) ويكون الحكم العقلي على كل ما يحدث جائزًا فقط، بحيث يمكن
وقوع غيره بأسباب أخرى، ولا يكون حتمًا مع الأسباب المذكورة التي وقع بها.
(٧-انتقاد المنار لكلامي) لمَّا أراد المنار أن ينتقد بعض كلامي المُدْرَج في
السؤال، وجدت أنه لم يُصِبِ الغَرَضَ الذي أرمي إليه، من حيث كون القرآن أو
العقل والعلم يُجَوِّزُ إمكان عدم وقوع حادث وقع فعلاً أم لا.. أما أنا فقلت بالجواز
وأقول به أيضًا.
أما المنار فأجاب عن وقوع الفعل من حيث كونه وقع فعلاً فقط ولم يَزِد، فترى
في أول صحيفة (١٩٢ ج ٣ م ١٢) (أما قولكم في مسألة إصابة ولي عهد
ألمانيا بذلك المرض: لم تكن محتمة له من الأزل ... ) إلخ قول ظاهر البطلان؛ لأن
قضية مرضه جهتها الإطلاق لوقوعها بالفعل، والإمكان لا يناقض الإطلاق،
وبعبارة عامية: إنه كان لابد من مرضه بدليل وقوعه؛ وليكن ذلك لجهله بأسباب
المرض ... هذا ما قاله المنار، والحقيقة إني لم أقصد المسألة بذاتها من حيث
كونها مطلقةً ووقعت فعلاً، بل من حيث حكم العقل والقرآن والسنن الطبيعية في كل
ما يحدث، وذلك مثلما يقال: فلان سرق قرطًا من الذهب، وجازته الحكومة
لجنايته.... هل كان يمكنه أن لا يسرق قبل أن تقع منه السرقة فعلاً. أما جوابي
وجواب العلم والقرآن، فنعم.. كان يمكنه أن لا يسرق، وكان في الإمكان
تبعًا لذلك عدم مجازاته.
أما جواب المنار السالف في مسألة ولي العهد أشبه بقوله.. نعم ما دامت وقعت
السرقة فهو لا بد أن يسرق، ولا بد أن يقع الجزاء، وهذا لا يعد جوابًا عن المقصود
مع أن ما جاوب به المنار لم ننكره، بل أيدناه في نفس السؤال؛ لأنه مفهوم وبديهي
لا يحتاج لأن يقول عنه المنار.. ظاهر البطلان. إذ قلنا كما قال المنار في
(صحيفة ١٩٠ سطر ١٩) . ولكن مسألة إصابة ولي العهد بالمرض تخصصت له
من الله تعالى؛ بسبب جهله لتلك الأسباب ليس إلا، وهي نفس الجملة التي قالها
المنار وهي: إنه كان لا بد من مرضه؛ بدليل وقوعه، وليكن ذلك لجهله
بأسباب المرض. وعليه كان انتقاد المنار لغوًا، وكان جوابه فقط دالاًّ على لزوم
التمسك بالعقدة بالقسمة؟ وتخلصا مما عداها.
(٨- سبب التمهيد للإصلاح الإسلامي) يا صاحب المنار، إن كنت تريد
إصلاحًا، فلا يجب أن يكون تقليديًّا؛ فإن تغلب الفكر الحالي في لزوم الأخذ
بالأسباب والعمل بمقتضى السنن الطبيعية، وانطباق ذلك بحسب اجتهادكم على
القرآن لم يكثر ولم ينتشر؛ إلا بسبب قبوله عند بعض المسلمين مما رأوه ورأيتموه
من تقدم الأمم الغربية التي اتبعت هذه السنن، وصارت أحوالها أشرف وأحسن
بالإجمال من حال المسلمين اليوم، وإن الأخيرين (؟) من زمن بعيد آخذون في
التدلي، حتى صاروا الآن وراء جميع الأمم تقريبًا. وإن المجهودات الكبيرة التي
يؤديها أمثالكم كالشعرة البيضاء في الجسم الأسود بالنسبة لتعداد الأمة الإسلامية في
العالم (وحاشا أن يكون ذلك داعيًا لتثبيط همتكم، فإن الحق لابد أن يسود مع طول
الزمن) وإن تلك المجهودات تصير كالهباء. مع تأصل عقيدة التقسيم، وإن الفضل
الذي يرجع إليه تيقظ المسلمين الحالي؛ راجع إلى الضغط الذي يلاقونه من غيرهم؛
لسيادتهم عليهم اسمًا أو فعلاً لا إلى الإصلاح الديني من حيث هو؛ فإنه لا يعتبر
أصلاً، بل يساعد على انتشاره لغرض الخلاص من سوء الحال لوقوف العقيدة أمام
العقول بالمرصاد (؟) .
(٩- الفرق بين المسلم وغيره) إذا كنتم تقولون: إن علماء اللاهوت بحثوا
كثيرًا في هذا الموضوع، وإنهم كالمسلمين للآن في بحر عميق، وإن ذلك من
توابع البحث في العلم والإرادة، وإن الغربيين المسيحيين والمسلمين مشتركين (؟)
في هذا الاعتقاد. قلت لكم: إن الغربيين لم يتقدموا إلا من بعد أن فكوا من
أعناقهم، وداسوا بأرجلهم على كل عقيدة تقيد عقولهم ونظامهم الفطري الطبيعي.
فهم لذلك من حيث عقيدة التقسيم السالفة التي يتبعها المسلمون بوجودها (؟)
بالفرض بينهم فهي (؟) ليست أصلاً لأعمالهم وأبحاثهم، ولا هي مرجعًا (؟)
لمركز الاعتقاد في سعادتهم وشقائهم في الدنيا والآخرة، كما هو ظاهر في جمهورهم
بخلاف المسلمين، فإنها إن كانت دافعة لتقدمهم سنة واحدة فإنها أخرتهم وتؤخرهم
سنين، لماذا؟ لأن المسلمين جعلوا الاعتقاد بالقسمة أصلاً لتقدمهم وتأخرهم، وهم
هم أنفسهم لا ينكرون وجود السنن الإلهية التي يجب السير عليها، والتي لم يجعل
الله تعالى نظام العالم بغيرها. ولكنها فرعًا ثانويًا (؟) ممن تركه كما حصل منهم
من مئات من السنين إلى الآن وهم معذورون؛ لتسلطها على قلوبهم وكان صوت
المصلحين بينهم كالنافخ (؟) في الرماد.
ولكن الغربي بالعكس، صار ينظر بالتجارب العلمية والعقلية وبمقاومته (؟)
أكثر المعتقدات الدينية الباطلة، حتى وصل إلى أن عمله في هذه الحياة هو أصل
سعادته وشقائه هنا وهناك، وكل ماعدا ذلك من المباحث القديمة ثانويًّا (؟) وصار
يقدم نفسه وماله فداء بارتياح؛ لمقاومة كل ما يهدم شيئًا من السنن الإلهية الطبيعية
في العالم؛ الموافِقَةُ للعقل والشعور الإنساني، وكان الأصل الأول الذي اتخذه
لسعادته المحسوسة هو: (الحرية) .
(١٠ - الخوف من التقليد مع وجود الداء) ما ذكرناه الآن هو الداعي لأن
نقول للمنار في صحيفة (١٩٠ ج٣ م١٢) : (إذا كان المنار وابن تيمية
والمسلمون جميعًا) يعتقدون أن العباد مقسومة هذا للشقاء وذاك للسعادة، وإن هذا
الاعتقاد مُسْتَوْلٍ على العقول، فهمة المسلمين التي تتوجه للإصلاح والتقدم الدنيوي
ليست إلا ضربًا من التقليد والتشبه للأمم الحية التي لا تعرف شيئًا من هذه العقيدة
المُقَيَّدَةِ للهمم والعقول) من حيث كونها ليست أصلاً لسعادتهم وشقائهم، لا من حيث
جهلهم لها بالمرة (فتزول منهم) أي هِمَّةُ المسلمين (إذا زالت عنهم الأسباب
الاضطرارية (مثل السيادة) الداعية لهذا التشبه: لأن الدين (عند المسلمين
وخصوصًا الاعتقاد بالتقسيم (راسخ في الأذهان) ، كما هو ظاهر من مبدأ وقتي
أثره تقليدي، اللهم إلا إذا ضرب صفحًا عن هذه العقيدة من الدين، ثم تشبعت
النفوس تدريجيًّا بالمبادئ الطبيعية) والسنن الإلهية المعقولة (التي تسير مع تقدم
الأمم ... إلخ، فهناك يكون الإصلاح من نفسه طبيعيًّا؛ لا تهدده ولا تقاومه عقيدة.
(١١- الإصلاح الطبيعي) غرضنا مما تقدم لزوم (؟) إنكار هذا التقسيم
الملازم لهذا الاعتقاد؛ لأن العقل والعلم لا يقبله، ثم ثبوت (؟) أن الذي يسير
على السنن الإلهية؛ فإنه كما يكون بها في الدنيا سعيدًا فهو في الآخرة أيضًا
والعكس (؟) وإن نوم المسلمين مع اعتقادهم ما هو مكتوب لهم بالذات ومخصصًا
(؟) لهم، أصله باطل محض مع تأييد إمكان تنوع الحوادث، وأنها أصلاً (؟)
لما هو مكتوب عند الله عامة على (؟) جميع الناس سواء، وليس ما هو مكتوب
لكل شخص ومخصص له بالذات عند الله أصلاً؛ لما ينتابه من الحوادث المذكورة؛
لأن النتيجة (الذي هو التقسيم المذكور بالعقيدة) إذا كانت لازمة من الأزل، كانت
أصلاً للسبب (؟) والسبب عندها يتحتم ويكون واجبًا وقوعه عقلاً، ويكون مدلوله
في العقل بشكل إجباري (؟) وإن كانت البداهة تؤيد عدمه، أو مهما تنوع فهم
الإجبار المذكور بشيء من دلائل الاختيار وتعريف معناه وصفته (؟) كما عرف
بذلك المنار في آخر صحيفة (١٩٩ ج ٣ م ١٢) ، فكل ذلك لا يفيد ولا يؤثر، بل
يكون من قِبَلِ مقاومة القوة بالقوة، فكل منهما يلاشي الآخر وإن كان لكل منهما
تأثيرًا (؟) في نفسه، ويجب أيضًا أن يكون كل حادث ممكنًا فقط قبل وقوعه (؟)
مع ثبوت احتمال وقوع غيره إن وقع، فيتبدل التقسيم المذكور تبعًا لاتباع السنن
المختلفة بالحرية، لا تبعًا لكون التقسيم هو الذي يوجب اتباع إحدى السنن المعينة
التي تلازمه وتلتصق به إلصاقًا، وبذلك تنقلب العقيدة إلى أصلها الحق الطبيعي (؟) .
(١٢- حل المسألة) إذا كان المنار يتفضل بحل المسألة على الوجه الذي
ذكرنا، أفاد الأمة كثيرًا في أكبر داءاتها (كذا) ، وما كان في نصائحه الفلسفية
العمرانية التي يذكرها تباعًا؛ كمَن يشد الحبل مِن طرف فتشده الأمة بقوة العقيدة
المذكورة من الطرف الآخر، فهو لم يزل واقفًا مع صرف كثير من المجهودات.
بل ربما تدلت الأمة - لا سمح الله بالرغم عنه - إلى الوراء زيادة، وكثير من
المسلمين بل؛ أغلبهم مازال في الطرف المضاد إلى الآن.
أما إذا كان لا بُدَّ للمنار من أن يُصَرِّحَ بلزوم عقيدة التقسيم المذكورة ويوافق
ابن تيمية على مقاله، فإنا نقول له: إن العقيدة المذكورة بمثل هذا التقسيم غير
موجودة في القرآن بالمرة، ولا يؤيدها شيء مطلقًا لا العقل ولا العلم ولا الحقيقة،
بل إنها باطلة. وإذا سمح لي المنار - أنا العاجز - بمحلٍّ على صفحاته الغراء،
فإني أعرض عليه ما يمكنه به حل هذه العقدة وخصوصًا فيما يتعلق بالإرادة
والعلم، وله انتقاده ما شاء، فإذا حصحص الحق طلبنا منه معاونتنا على تأييده
والذود عنه كما هو مبدؤه؛ لأني لا أريد إلا الإصلاح - كالمنار - ما استطعت، وما
توفيقي إلا بالله العزيز الحكيم. ثم لي كلمة انتقاد على بعض ما أورده المنار في جوابه
على سؤالي في صحيفة ١٨٩ ج٣ م ١٢ أجلتها لوقت آخر، حتى أرى ما سيكون
عما كتبناه الآن في المنار، والسلام.
... ... ... ... ... ... سواكن في ٤ يونية سنة ١٩٠٩
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... أحمد بدوي النقاش
... ... ... ... ضابط بالجيش المصري بالسكة الحديد السودانية
(جواب المنار)
سبق لنا تقريظ كتاب لِلْمُنْتَقِدِ (أحمد أفندي بدوي) ، أشرنا فيه إلى رأينا في
المؤلف نفسه، وهو أنه مستعد للمباحث الفلسفية الدينية. ولكنه لعدم تمكنه من
درس الدين والتوسع في اللغة العربية التي يتوقف فهمه على إتقانها، يقول فيها ما لا
يكاد يفهم.
وكان لنا أن لا ننشر انتقاده هذا؛ لأنه ليس على شرطنا؛ إذ هو مبني على ما
فهمه من قصيدة لابن تيمية وعلى حكمه بأننا موافقون لابن تيمية فيه أو في كل
شيء، وكأنه أخذ ذلك من ثنائنا عليه. ولكننا نشرناه عناية به وحَفْزًا لهمته إلى
التدقيق في المباحث التي يدفعه إليها استعداده، وقد صححنا بعض أغلاطه اللفظية
البديهية وتركنا الباقي على حاله، إلا أننا وضعنا في جانب بعض الكلمات أو الجمل
علامة (؟) إشارة إلى بعض تلك الأغلاط اللفظية والمعنوية، وقد تكون العلامة
لعدة أغلاط في الجملة كما لا يخفى على العارفين.
إن كان يريد الانتقاد عليّ في شيء رآه خطأ، فكان عليه أن يقول: إن ما
ذكره المنار في صفحة كذا غير صحيح بدليل كذا، والحق في المسألة هو كذا، مع
إقامة الدليل عليه. وإن كان يريد تقرير حقيقة جهلها المسلمون، وأخطأ فيها مثل
ابن تيمية، وعجز عن بيان الصواب فيها مثل الغزالي والشيخ محمد عبده،
واهتدى هو إلى معرفتها وأوتي القدرة على بيانها، فكان الواجب عليه أن يُعَجِّلَ
بهذا البيان؛ حرصًا على هداية هذه الأمة؛ وكراهة لاستمرار ضلالها في أهم
قواعد دينها ومدار سعادتها وشقائها، ثم له بعد ذلك أن يُبَيِّنَ وجوه خطأ أشهر
شيوخ الإسلام فيها؛ إن كان لا يرى أن ظهور الحق كاف لدحض الباطل. هذا هو
المعقول , وأما مسلكه فلم نعقل له وجهًا صحيحًا.
قرأنا مقالة المعسلط ففهمنا بعضه من العبارة وبعضه من القرائن، ومنه جمل
لم نفهمها بالمرة؛ لأن تركيبها غير صحيح. وقد علمنا منه أنه لم يفهم ما كتبناه كله
وأنه يبني الإيرادات والاعتراضات على شيء في مخه، يعزوه تارة إلى الدين
وتارة إلى بعض من كتبوا فيه، حتى إنه ينسب إلى المنار ما يدعو المنار إلى ضده
حتى في الجواب عن اعتراضه الأول على عبارة التفسير، فهذا وما ذكرنا من
ضعفه في اللغة، هما سببان فيما ذكره من عدم فهمنا لغرضه من انتقاده الأول وكذا
الثاني، وهما السببان في عدم فهمه هو لكلامنا السابق كله، ولا ندري ماذا يكون
نصيب كلامنا اللاحق من فهمه , ولولا الضرورة لما صَرَّحْنا بهذا , ولكن أردنا أن
يعرفه ويفكر فيه؛ لما سنذكره في آخر الرد.
قد أحسن الكاتب في تقسيم كلامه إلى مسائل معدودة بالأرقام، كما فعلنا في
جوابه الذي نشرناه في الجزء الثالث، وإننا نُبَيِّنُ ما لا نرى بُدًّا من بيانه في كل
مسألة من كلامه مشيرين إليها بالأرقام، ثم نقول كلمة مجملة في الموضوع.
(١) قال إن جمهور المسلمين ومنهم ابن تيمية الذي تنطبق آراؤنا على
آرائه يقولون: إن الله - تعالى - قد قسم الخلق قبل إيجادهم قسمين: {فَرِيقٌ فِي
الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: ٧) وقال: إنه يعتقد فساد هذا التقسيم أي
بطلانه وعدم صحته، ثم إنه يَدَّعِي مع ذلك أنه يستمد علمه من القرآن والعلم
الصحيح! ! ونقول: إن القرآن هو الذي نَصَّ على هذا التقسيم في سورة الشورى،
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ
يَوْمَ الجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (الشورى: ٧-٨) أما قولهم: إن هذا التقسيم أزلي فمعناه: أنه ثابت في علم الله
الأزلي لا معنى له عندهم غير هذا، فإن كان ينكر التقسيم نفسه فذلك إنكار للقرآن
نفسه لا يصدر من مؤمن به، وإن كان ينكر أزلية علم الله تعالى به وبغيره فحكمه
عند المسلمين معروف أيضًا. وأما قوله: إن صاحب المنار وابن تيمية لا يفهمان
علة هذا التقسيم فلا نجيبه عنه؛ لأننا لا نحب أن نضيع وقتنا ووقت الناس في
الجدل والدفاع الشخصي، فليحكم على فهمنا وفهم ابن تيمية بما يشاء، علم ذلك أم
لم يعلمه.
(٢) ليس في هذه المسألة إلا تأكيد ما جاء في الأولى؛ من جزمه بفساد
عقيدة التقسيم وكونها من العقائد الضارة أي: بحسب فهمه لتأثيرها في المسلمين.
(٣) اعتقاد المسلم أن دينه أفضل الأديان، وأن له الجنة ولغيره النار..
إلخ فيه تفصيل بيناه في التفسير مرارًا؛ لجهل عامة المغرورين له، وهو أن
الإسلام دين جميع الأنبياء والمرسلين، وأساسه اتباع المرسلين في الإيمان بالله
واليوم الآخر والعمل الصالح. وإن المسلم الموفق مختار في اتباعه لنبيه، والكافر
المخذول مختار في عصيان نبيه، وإن علم الله الأزلي لا ينافي هذا الاختيار؛ لأنه
سبق في علمه أنه يكون كذلك وأنه مختار فيه، كما بيناه في المسألة التاسعة من
الفتوى الثانية عشرة وهى؛ الجواب عن سؤال المنتقد (ص ١٩٩ ج٣) .
(٤) الكلام بحسب الواقع لا يدخل فيه المستقبل، فلا يقول أحد من
المسلمين العارفين بدينهم: إن الغاية النهائية له أو لزيد من الناس هي كذا، وإنها لا
تتغير ولا تتبدل، بل نقول: إن الغاية مجهولة لنا، وإنها تكون على حسب أعمالنا
الاختيارية: (إنْ خيرًا فخير وإنْ شرًّا فشر) , ولكنها معلومة لله - تعالى- فهو
وحده يعلم تلك الغاية علمًا لا تغيير فيه ولا تبديل , وجهل أكثر المسلمين بدينهم ليس
من المشكلات التي لا تُعلم ولا يُعلم علاجها، فعلاج الجهل هو العلم الصحيح ومنه
فهم الدين على وجهه، وهو ما ندعو إليه كما كان يدعو إليه الأستاذ الإمام - رحمه
الله تعالى - وليس كلامنا فيه كالنقش على الماء كما زعم، بل هو كالنقش في الحجر
انتفع به ألوف من الناس، وانبثَّ في المدارس الدينية والرسمية، وسيعم
بالتدريج بحسب سنة الله تعالى في الأمور الاجتماعية.
(٥) إن المثال الذي ذكره في هذه المسألة قد فهمناه بالقرينة؛ لضعف
عبارته. وهو غير مطابق لاعتقاد المسلمين، فهو لم يعرف اعتقاد المسلمين حق
المعرفة، ولم يحسن بيان ما عرفه منه، فإن الدين الإسلامي لم يخاطب طائفة من
الناس معينين؛ بأنهم سيكونون في الجنة وطائفة أخرى بأنهم سيكونون في النار،
وإنما ناط دخول الجنة بأمور سمى مجموعها الإسلام، وناط دخول النار بأمور يعبر
عنها غالبًا؛ بالشرك وبالكفر وبالظلم وبالفسق. ولما تفاخر بعض الصحابة مع
بعض أهل الكتاب في ذلك، أنزل الله - تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ
الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * وَمَن
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ
نَقِيراً} (النساء: ١٢٣-١٢٤) فناط أمر الغاية النهائية بالعمل لا بالانتساب إلى
دين كذا ونبي كذا، ثم بين أن الإسلام هو روح الدين وصفوته، فقال: {وَمَنْ
أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (النساء:
١٢٥) الآية، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: التقى ناس من
المسلمين واليهود والنصارى، فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل
دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبيُّنا قبل نبيِّكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل
الجنة إلا من كان هودًا. وقال النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد
كتابكم، ونبيُّنا بعد نبيِّكم، وديننا بعد دينكم، وقد أُمِرْتُمْ أن تتبعونا وتتركوا أمركم،
فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحق، ولن يدخل الجنة إلا
من كان على ديننا. فأنزل الله - تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ} (النساء: ١٢٣) الآيات.
فالأمر في الإسلام منوط بالعمل مع الإيمان؛ لا بجنسية الإسلام وغير الإسلام
فما بال المنتقد ينتزع المشكلات من جهالات العامة، ويحمل عليها بعض عبارات
العلماء وغير العلماء من غير تمحيص، ويوردها على الدين أو على العلماء
المخطئين أو المصيبين (؟) ألا إن الداء هو: جهل جماهير المسلمين بحقيقة دينهم،
والدواء هو: التعليم الصحيح والتربية الصحيحة، وهو الذي ندعو إليه.
(٦) ما ذكره في المسألة السادسة غير جليٍّ ولا مفهوم بالتفصيل من العبارة
المعسلطة. وما تفلسف فيه من الأسباب والنتائج لا يكاد يخطر في بال أحد من
المسلمين؛ إلا أن يكون بعض المولعين بالأبحاث النظرية الفلسفية في هذه المسائل
وقليل ما هم، ولا يُحكم على الملايين بحال أفراد لا يوجد منهم واحد في كل مليون
فهذه المسألة عندي من اللغو.
(٧) ما قاله في جواب المنار عن مسألة الحكم على الشيء قبل وقوعه وبعد
وقوعه وحادثة مرض ولي عهد ألمانيا عبارته معسلطة أيضًا، والظاهر منها أنه لم
يفهم ما قلناه فيها. وقد مثَّل لها مثلاً: رجلاً سرق قرطًا وجازته الحكومة، هل كان
يمكنه قبل أن تقع السرقة منه أن لا يسرق أم لا؟ زعم أن مقتضى كلام المنار أنه
لم يكن يمكنه أن لا يسرق، وأن جوابه هو وجواب العلم والقرآن؛ أنه كان يمكنه
أن لا يسرق. والحق في مثل هذه المسألة أننا إذا نظرنا إلى طبيعة الرجل الذي
سرق وطبيعة العمل الذي هو السرقة في المثال، نرى أن العمل في ذاته من
الممكنات، وأن الرجل كان متمكنًا من فعله وتركه، وأن الترك هو الأصل فلا يقال:
إنه لم يكن في إمكانه أن يترك، وإذا نظرنا في ذلك باعتبار أن العمل وقع من
الرجل، علمنا أن وقوع السرقة منه حَتْمٌ لم يكن منه بُدٌّ، لا باعتبار الإمكان الخاص
بطبيعته كما تقدم، بل باعتبار الواقع ونفس الأمر، وكذلك باعتبار علم الله - تعالى -
فإنه متى وقع الشيء علمنا أن علم الله تعالى كان متعلقًا بوقوعه؛ لأن علمه تعالى
يكون دائمًا مطابقًا للواقع وإلا كان جهلاً، وذلك مُحال. فإذا لم يفهم المنتقد ما نفهمه
ويفهمه جميع العقلاء؛ من كون الواقع قد انتهى الحكم فيه وأنه لا يقال فيه نفسه،
كان يمكن أن لا يقع؛ لأن هذا تناقض، وإنما يقال ذلك باعتبار طبيعية الإمكان
وصرف النظر عن كون الأمر قد وقع بالفعل، إذا لم يفهم هذه الدقيقة في الفرق بين
الاعتبارين تنازلنا له عنها، فإنها مسألة عقلية محضة لا يترتب على الخلاف فيها
أمر كبير.
(٨) لقد تبسمنا عند قراءة قول المنتقد (يا صاحب المنار، إن كنت تريد
إصلاحًا، فلا يجب أن يكون تقليديًّا) فيالله العجب من شأن الإنسان، أَيُنهى
صاحب المنار عن التقليد بعد أن حاربه وحارب أهله اثنتي عشرة سنة! ! ومَن
الذي نهاه؟ رجل يقرأ المنار! ! أما قوله: إن الأخذ بالأسباب والعمل بمقتضى
السنن الطبيعية، وانطباق ذلك بحسب اجتهادنا على القرآن، لم يكثر ولم ينتشر
عند بعض المسلمين؛ إلا بسبب ما رأوه من تقدم الأمم الغربية باتباع هذه السنن
وسبب ضغط أوروبا على الكثير منهم، فهو صحيح في الجملة، ولا يضرنا أن
تعدِّنا حوادث الزمان للعمل بما يرشدنا إليه القرآن، وأن نفهم منه ما لم نكن نفهمه
نحن ولا آباؤنا الأولون، فإن كلام الله- تعالى - بحر لا تنفد حِكَمُهُ، بل هي تفيض
في كل عصر على المستعدين بما يناسبه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: ٥٣) على أننا لا نُسَلِّمُ أن المنتفعين بذلك
والمقتنعين به هم الواقفون على أحوال الغربيين دون غيرهم، فالحق أن الأمر ليس
محصورًا فيهم ولا أنهم مُقَلِّدُونَ فيه؛ بل هم مُسْتَقِلُّونَ، ونوضِّح ذلك في الكلام عن
المسألة التاسعة. وأما قوله: إن (المجهودات) الكثيرة التي يؤديها أمثالنا هي
كالشعرة البيضاء في الجسم الأسود فهو غير صحيح، وليس لمثله أن يحكم في ذلك،
وهو لم يختبر شعوب المسلمين، ولا ساح في بلادهم، وليس له وسائط أخرى
كافية لمعرفة سير الإصلاح فيهم، فالحق أن الإصلاح أوسع انتشارًا مما يظن، فإن
كان لا يزال قليلاً بالنسبة إلى مجموع المسلمين، فنموُّه في كل مكان يُبَشِّرُ بمستقبل
حسن (وصاحب الدار أدرى) فزعمه أن تلك المساعي أو المجهودات تصير
كالهباء مع عقيدة التقسيم زَعْمٌ باطل غير مبني على علم ولا تجربة، بل التجربة قد
أبطلته.
(٩) إن ما ذكره مِنْ فَكِّ الغربيين للقيود التي تقيد عقولهم، قد سبقه إليه
المنار، فصرَّح به مرات كثيرة حتى بالتعبير بلفظ كسر القيود، ومِنْ أَصْرَحِهَا ما
كتبناه عن المؤتمر الإسلامي (ص ٦٧٩م١٠) ، فلا حاجة بنا لإعادة قراء المنار
دروسه علينا، وما ذكره عَوْدًا على بَدْءٍ من التهويل في مسألة ما سماه عقيدة التقسيم
قد سبق آنِفًا أنه مخطئ فيه؛ لأنه في مخيلته أكبر مما هو في الواقع ونفس الأمر،
فما هذا الإلحاح والتكرار، اللهم صبرًا. نعيد له القول - في مقابلة إعادته- إن ما
تجعله هو الأصل في سعادة الغربيين؛ مِن جَعْلِ العَمَلِ في هذه الحياة هو الموصل
إلى السعادة أو إلى الشقاء في الدنيا والآخرة هو عين ما جاء به الإسلام، والإسلام
أستاذهم الأول فيه، وعقيدة التقسيم التي تَمَثَّلَتْ لك كالغول يغتال المسلمين لا
تعارض هذا، فإن القرآن صرّح بهما جميعًا. ولكن تسرب إلى دهماء المسلمين من
نزعات الجبرية وكسالى المتصوفة ما كان مع الجهل بحقيقة دينهم سببًا من أسباب
كسلهم الذي نشكو منه؛ وشرحناه في المنار مرارًا، والتربية والتعليم الصحيحان
يكفلان إزالة ذلك بالتدريج، ومنه النشر في الصحف الدورية ولن يزول بغير ذلك.
(١٠) ليس في هذه المسألة إلا إعادة ما كرره غير مرة؛ من استحالة
الجمع بين عقيدة التقسيم وبين العمل بالمبادئ الطبيعية والسنن الإلهية، وزعمه أن
كل ما يعمله المسلمون من الأعمال الاستقلالية بدعوة المصلحين يكون مع هذه
العقيدة تقليدًا للغربيين، وإنما يخرجون به من ربقة التقليد إذا محيت عقيدة التقسيم
من ألواح نفوسهم، مع أن التقليد في هذه الحالة يكون أظهر؛ لأنه محاكاة للمقلد من
كل وجه. ورأيه هذا يشعر بأنه لا يفهم معنى التقليد أو يفهمه فهمًا خاصًّا به غير ما
عليه جميع العلماء، التقليد هو أن تأخذ برأي غيرك وتحاكيه من غير دليل قام
عندك على ما تأخذه عنه أو تحاكيه فيه هو الصواب، فإذا قام الدليل الشرعي
والعقلي والتجريبي عند المسلمين القائلين بعقيدة التقسيم على أن النجاح في الدنيا
والفلاح في الآخرة إنما ينالان بالعمل بمقتضى سنن الله تعالى في خليقته وشريعته
وعملوا بذلك، لا يكونون مقلدين للإفرنج بل مستقلين، وإن كان من جملة دلائلهم
التجريبية أن الإفرنج نجحوا بذلك.
(١١) عبارة هذه المسألة أشد عسلطة من سائر المسائل، ليس فيما يفهم
منها شيء جديد إلا تفلسف وتفصيل قصد به إيضاح مراده فزاده خفاء، ولو أننا
حذفنا أمثال هذا لظن القارئون أنه فاتهم شيء كثير.
(١٢) هي المقصد، وذلك أنه بعد تكرار ما تقدم في المسائل السابقة مرارًا
طالب المنار بأحد أمرين: إما أن يحل المسألة على الوجه الذي ذكره هو، وإما أن
يصرح بموافقة ابن تيمية على اعتقاده في مسألة التقسيم، وحينئذ يقول هو لنا: إن
هذه العقيدة بمثل هذا التقسيم غير موجودة في القرآن بالمرة، ولا يؤيدها العقل ولا
العلم ولا الحقيقة، وهو مستعد لبيان ذلك في المنار إن سمحت له.
وأقول: قد بينت هنا في كلامي على المسألة الأولى أن لهذه العقيدة أصلاً في
القرآن، وذكرت آية سورة الشورى الناطقة بها، وسأذكر آيات أخرى، ولست
قادرًا على تصور فهمه للمسألة، ولا فهم وجه الإشكال الذي كانت به أقتل أدواء
المسلمين عنده، فأحل له ما أحكم من العقد في خياله، كما أنني لست مكلفًا تفصيل
قول ابن تيمية فيها، ولا سبق لي أن ذكرته وأيدته، وإنما ألصقه بي تمهيدًا لما يريد
التفرد به من بيان فساد اعتقادي واعتقاده الذي هو اعتقاد جماهير المسلمين، ولا
أنشر له بعد الآن في المنار شيئًا مثل هذا الكلام الذي نشرته له؛ لأنه كلام معسلط
مضطرب، ربما يحدث للضعفاء اضطرابًا في اعتقادهم وإن لم يفهموه كله وإنما
ننشر في المنار أحد شيئين: إما بيان مسألة مما يحتاج إليه الناس ويستفيدون منه،
بشرط أن تكون عبارتها صحيحة نفهمها ويفهمها مثلنا العارفون بلغتنا العربية
الفصيحة. وإما انتقاد لمسألة معينة أوردناها في المنار بشرط أن تذكر المسألة
وموضعها ووجه الخطأ فيها والدليل عليه بعبارة فصيحة تفهم، وما كتبه أخونا
المنتقد أولاً وثانيًا ليس من هذا ولا ذاك، وإنما نشرناه عناية به وتنشيطًا له،
ولكونه يمكن أن يكون وسيلة لمعرفته قيمة رأيه وبيانه له.
إنه انتقد علينا أولاً في مسألة لم يقرأ كلامنا فيها كله، والغالب أنه لم يفهم كل
ما قرأه منه، ثم أنه جعل الانتقاد موجهًا إلى كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية قرأه في
قصيدة له، يغلب على ظني أنه لم يفهمها، وأنه لم يطلع على تفصيل مذهب شيخ
الإسلام في المسألة، فهو وتلميذه ابن القيم قد أطالا في هذه المسائل، وللثاني منهما
كتاب كبير فيها اسم: (شفاء الغليل في القضاء والقدر والتعليل) ، على أنه لم يبين
ما فهمه من مذهب ابن تيمية، ولا وجه خطأه الذي ادعاه، ولا ما عنده من التحقيق
في المسألة، فهل يرضى أحد من قراء المنار أن ننشر فيه مثل هذا الكلام.
إنني أكتب هذا وأنا متألم؛ لاضطراري إلى مفاجأة رجل محب للعلم والفلسفة
والإصلاح ببيان ما أرى من ضعفه، بعد أن علمت أنه لم يكتف بالإشارة اللطيفة
إلى ذلك من قبل، وما سبب ذلك إلا إعجابه بما عنده؛ فعسى أن يعتني بعد الآن
بإتقان اللغة العربية؛ ليقدر على الفهم والإفهام، فربما كان في فلسفته شيء نافع
تستفيد الأمة من بيانه لها.
***
فصل الخطاب في عقيدة القسمة
(١) صفوة القول في المسألة أن القرآن الحكيم بين أن الناس ينقسمون
في الآخرة إلى قسمين: شقي وسعيد، كما في سورة هود (١٠٥: ١١) وأنهم فيها
فريقان: {فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: ٧) كما في سورة
الشورى (٧: ٤٢) ، وأنه بدأهم على هذا ويعيدهم عليه كما قال في سورة
الأعراف: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} (الأعراف: ٢٩-٣٠) فهذه القسمة ثابتة في القرآن خلافًا لما زعمه المنتقد من
براءة القرآن منها وكونها مخالفة له. وكل مَن يؤمن بالآخرة يؤمن بذلك ولا ينافيه
عقل ولا علم بعد إثبات حقية الآخرة، بل هو معقول وأسبابه مشاهدة في الدنيا، بل
نقول: إنه كما قسمهم إلى شقي وسعيد في الدنيا والآخرة، قسم بينهم الرزق والجاه،
فجعل بعضهم فقيرًا وبعضهم غنيًّا وبعضهم رفيعًا وبعضهم وضيعًا، كما قال:
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (الزخرف: ٣٢) الآية. ولكن قسمته تعالى لا تنافي ما
وهبه للإنسان من الاختيار والاستقلال، فإن هذا داخل فيها.
(٢) ينظر في هذه القسمة من ثلاث جهات: العلم والفعل والحكمة أو العلة
فأما علم الله - تعالى - فهو قديم بِقِدَمِهِ أزلي بأزليَّتِهِ، فالقسمة فيه قديمة أزلية أيضًا
وأما الفعل فلا تتحقق قسمة الجنة والنار بحسبه إلا في الآخرة، فهناك تكون
القسمة فعلية، ومثلها السعادة أو الشقاوة في الدنيا، تتحقق لكل فرد في مدة وجوده
في الدنيا، لا في الأزل.
وأما العلة والحكمة فطريق معرفتهما هي؛ معرفة الشرع ومعرفة طبيعة
الإنسان نفسه في أعماله وصفاته، وقد بينا ذلك مرارًا كثيرة، منها ما كتبناه
بالإيجاز في جواب المنتقد (ص ١٩٩ ج٣) ونقول الآن كلمة وجيزة أيضًا وهى؛
إن الله خلق الإنسان وأعطاه نوعًا من الاستقلال في أعماله الاختيارية على حسب
علمه ووجدانه، وما تكونه التربية والعادة من الصفات في نفسه، وبذلك يكون
مصدرًا لسعادتها أو لشقائها بعمله، فكل فرد من أفراده يعمل بنوع ما من الاستقلال
والاختيار فيه، ما يجعله في القسمة مع أحد الفريقين، وليس علم الله الأزلي
بالقسمة ملزمًا له بالعمل؛ لأن تعلق العلم تعلق انكشاف لا تعلق فعل وإلزام، على
أنه يتعلق بالشيء وبعلته.
وأما القسمة بالفعل - وهى كون الناس سعداء وأشقياء في الواقع- فبالضرورة
لا تكون ملزمة ولا مجبرة له على العمل الذي يكون به من أحد الفريقين، ولا سالبة
لحريته واستقلاله فيه؛ لأنها أي القسمة بالفعل هي المعلول للعلة التي تتكلم عنها،
وهل يكون الشيء علة لنفسه ومعلول لها؟ هذا دور ظاهر وقد بينا الدلائل النقلية
والعقلية والوجودية على استقلال الإنسان في الفكر والإرادة، وهما مصدر أعماله
التي يكون بها في القيامة من أحد الفريقين - في عشرات أو مئات من المواضع،
وبيَّنها الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد (ص ١٢٥ من طبعة المنار) .
(٣) إن الألوف الكثيرة من المسلمين لا يفكرون في هذه القسمة، وقد تمر
السنين ولا تخطر في بال الواحد منهم، ومنهم مَن يقرأ أو يسمع ما يخطرها في
باله فتمر فيه مر النسيم، فلا يجيل فيها قداح الفكر. ومنهم عدد قليل يفكر فيها
ويتفلسف بقدر استعدادِهِ. وما زعمه المنتقد من كونها هي علة العلل لكسل المسلمين
وتقصيرهم في أعمال الدنيا عن غيرهم من الأمم فغير صحيح، بل لذلك أسباب
كثيرة كل منها علة مستقلة، منها أمشاج من مسائل القضاء والقدر والجبر والتوكل
والزهد وقسمة الأرزاق، فهموها على غير وجهها، وقد بينا ما فيها من الفساد
والخطأ في التفسير والفتاوى. وغير ذلك من أبواب المنار مرارًا كثيرة؛ منها بحث
التوكل والأسباب في التفسير (ص ٨٠١-٨٠٨م ١١) الذي بيَّنا فيه خطأ الغزالي
في التزهيد في الدنيا.
وبيان خطأ المخطئين في فهم مسألة القسمة وحدها لا يكفي في الإصلاح، بل
لا بد من بيان الحق الصريح في تلك الأمشاج كلها. ثم إن هذا البيان ليس هو كل
المطلوب وإنما هو بعضه أو مقدمة له، فإنه بنشره المرة بعد المرة في صحف
المنار المنشرة، يثبت في نفوس الكثيرين ومنهم معلمو المدارس وهؤلاء يدخلونه
في تعاليمهم؛ وإني أعرف أفرادًا من أساتذة المدارس في مصر، كانوا يعتمدون
على المنار في تحضير بعض الدروس الدينية، وكذلك المصنفون وكتَّاب الجرائد
يدخلون ذلك في مكتوباتهم، ولو مع عدم التنبه لمصدرها، وبمثل هذه الوسائل تعم
كما عمت تلك التعاليم الباطلة من قبل.
(٤) إن مسألة تعليل أفعال الله - تعالى - نفاها الأشاعرة، وقد أثبتها ابن
تيمية وابن القيم بالدلائل والبينات النقلية والعقلية، وأثبتا أن القضاء والقدر لا
ينافيان اختيار الإنسان واستقلاله الممنوحين له من خالقه، ولا وجوب العمل عليه
لدنياه وآخرته، فتحامل المنتقد على ابن تيمية وحده؛ لأبيات قرأها له مع عدم
اطلاعه على كتبه في العقائد من جملة غرائبه.
ذكر ابن تيمية في غير موضع من كتبه الكثيرة في العقائد وغيرها أن
مذهب سلف الأمة أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأن له قدرة ومشيئة واختيارًا وأن
قدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع والأسباب، وأن ذلك كله ثابت
شرعًا وعقلاً، وأنكر على جمهور الأشعرية ما يقولونه في الكسب، ونقل موافقة
بعض أئمتهم على ما قال: إنه مذهب السلف، وذكر منهم أبا إسحق الإسفرايني ,
وإمام الحرمين. فليراجع ذلك المنتقد إن شاء في كتبه أو في شرح عقيدة السفاريني.
إن المنتقد كرر الشبهة التي أوردها على الإصلاح وهى عقيدة القسمة، وكرر
زعمه؛ بأن كل سعي فيه يكون باطلاً ما لم نثبت للمسلمين بطلان هذه العقيدة.
ونحن نكرر له الجواب في خاتمة الكلام؛ بأن العقيدة ثابتة لا يمكن إبطالها، وأنه لا
ضرر في اعتقادها، وإنما الضرر في فهمها على غير وجهها كفهم القدر على غير
وجهه، إذ يلزم من هذا الفهم لوازم باطلة، وإننا مازلنا نبين حقيقة هذه المسائل
وبطلان لوازمها، وذلك هو كل المطلوب فيها.
((يتبع بمقال تالٍ))