للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التعليم في مدارس الحكومة

التعليم في هذه المدارس أمثل تعليم في القطر لا يقاس به تعليم الأزهر , ولا
تعليم المدارس الأهلية , والارتقاء فيه ظاهر من نتائج الامتحانات السنوية , ولكننا
منذ جئنا هذا القطر نسمع الناس يشكون من نظارة المعارف , ويقولون: إن التعليم
في مدارسها سيفضي إلى اضمحلال الدين واللغة العربية رويدًا رويدًا. ومما كان
يلوح في الذهن أن سوء ظن الناس بنظارة المعارف وكل أعمال الحكومة إنما تولد
من اعتقادهم أنها في أيدي المحتلين يديرونها كما يريدون , وأن هؤلاء لا يعملون
إلا لمصلحتهم , ومصلحتهم إنما هي في إعدام مقومات الجنس الذي يتسلطون عليه
ووضع مقومات جنسيتهم موضعها وإحلالها محلها. وهو رأي قريب , ولكنه من
النظريات التي يمكن النزاع فيها. وقد سألنا بعض كبار الموظفين في المعارف عن
سير تعليم الدين وفنون العربية في المدارس فأكد لنا القول المؤيد بالأوراق الرسمية
بأن ما يجري على الألسنة غير صحيح , وأن الأوقات المخصصة لتعليم الدين في
المدارس بحسب البروجرام لا يمكن أن يقرأ فيها شيء آخر؛ لأن المفتشين لا
يلبثون أن يطلعوا على ذلك فينال العقوبة من يشغلها بغير وظيفتها من المعلمين.
ويؤكد لنا الجماهير من الناس أن المعلم الذي يشغل وقت تعليم الدين بتعليم آخر
يكون مقربًا , ويرجى له الترقي , وأن هذا الأمر مقرر عند سائر المعلمين , وأن
ضعاف الدين موتى القلوب منهم يشغلون هذا الوقت بتمرينات نحوية وغير ذلك.
وأنت ترى أن هذا الكلام كله من النظريات إلا هذا القول الأخير إذا ثبت وتحقق.
لا يقوى على الدلائل النظرية إلا البرهان الوجودي الواقع عملاً , ويذكر
المنتقدون على ديوان المعارف مسائل واقعة كثيرة. منها أن تعليم الدين والعربية لا
وجود لهما مطلقًا في المدارس العالية كالمهندسخانة والطب والزراعة والصنائع ,
ولا وجود للدين في المدارس التجهيزية مطلقًا , وكل هذا حصل بعد الاحتلال.
ومنها أن الفاضل حسن أفندي صبري عندما جعل ناظرًا لمدرسة (محمد علي)
وخالف سنة النظار باختياره تعليم الدين دون اللغة الإنكليزية التي يختار تعليمها
سائر النظار؛ ليكون إقبال التلامذة عليها أكثر - اضطهد حتى اضطر إلى الاستقالة
وخسرت به المعارف خير كفؤ حسن الإدارة والتعليم. ومنها أنهم يجعلون ترتيب
الدروس بحيث لا يمكن التلامذة من أداء الصلاة في المدرسة , وأن من ذنب حسن
أفندي صبري أنه طلب من الديوان أن يقرَّ ترتيبًا جديدًا وضعه هو يمكن التلامذة
من صلاة العصر جماعة كصلاة الظهر. ويقال: إن طلبه هذا هو الطلب الوحيد
الذي بقي في الديوان من غير جواب لأن في السلب خشونة , وفي الإيجاب
إغضاب المحتلين. ومنها عدم الرضى عن ناظرة المدرسة السنية السابقة؛ لأنها
ساعدت التلميذات على القيام بفرائض الدين وألزمت الديوان بأن يوزع عليهن
الأقنعة لستر رءوسهن إلى غير ذلك من فضائلها , واستبدلوا بها ناظرة إنكليزية
أخرى كان من سيرتها أن اضطر الأستاذان الفاضلان الشيخ حسن منصور والشيخ
محمد عز العرب إلى الاستقالة , وقد كانا من حسن التعليم والتهذيب بحيث يستحقان
المكافأة ورفع الدرجة كما شهد بذلك الأستاذ الكبير الشيخ حمزة فتح الله المفتش
الأول للتعليم العربي , والأستاذ الفاضل الشيخ محمد شريف ويقال: إن المستر
دنلوب استاء من طلبهما المكافأة لهما وارتاب , فأرسل حضرة الفاضل عاطف
أفندي للتفتيش فشهد لهما بالبراعة كسابقيه , ويروى أنه قال: إنه لم ير في المدارس
مثل التعليم في المدرسة السنية , وإنه رأى فوق ما كان يظن. وهذه الشهادات ,
وطلب المكافأة أو الترقي مسجلة في الديوان.
استقال هذان الأستاذان البارعان , وما كان سبب استقالتهما إلا أن راتب كل
منهما أربعة جنيهات , فلو اضطر أن يسكن بعيدًا عن المدرسة , ويركب إليها
العربية غدوًّا ورواحًا لكان مغبونًا , وقد حسبا أوّلاً أن ارتقاءهما يكون سريعًا بإتقان
عملهما والتبريز فيه , وبعد اليأس من هذا بما ذكرناه آنفًا حاولا أن يلتمسا شيئًا من
الرزق بطريقة لا تعارض التعليم في المدرسة السنية فشعرت بهذا الناظرة الإنكليزية
فغيرت ترتيب التعليم في المدرسة تغييرًا قطع عليهما هذا الطريق فالتمسا منها أن
لا تمضي هذا الترتيب (البروجرام) وأعلماها بحقيقة الأمر فكبر عليها أن يراجع
مصريٌ إنكليزية , وأنذراها بالاستقالة فأصرت , فاستقالا في تفصيل لا
حاجة لذكره.
هذا مثال المعاملات التي يستدل بها الطاعنون على ديوان المعارف، ويقولون
إن مثارها المستر دنلوب الذي لا يعلو أمرَهُ أمرٌ. وإذا رجعنا إلى منشورات
الديوان لا سيما الأخير منها , وقابلناها بالعمل؛ يظهر لنا أن أمانة التعليم الديني
واللغة العربية مقصودة بالذات.
ذلك أن للوظيفة فيها ثلاثة أدوار الأول يسمى (ظهورات) ومدته سنتان ,
ولكن معلمي العربية يلزمون بثلاث سنين. الثاني يسمى (صفة مؤقتة) ومدته في
حكم القانون المالي سنة واحدة , ولكن المعلم العربي يجبر فيه على سنتين. الثالث
التوظف الحقيقي بصفة دائمة , وحينئذ يدخل في حكم المنشور , ويصلح للترقي
ويكون معاش المعلم العربي فيه أربعة جنيهات , يختزل منها في السنتين الأوليين
عشرها فيكون الراتب في الشهر نحو ٣٦٠ قرشًا , وبعد عشر سنين يقضيها في
هذا الدور - أي خمس عشرة سنة من ابتداء تدريسه - يرتقي إلى ستة جنيهات ,
وهي أقل ما يعطى لمعلمي اللغات الأجنبية عند خروجهم من المدرسة إلى دور
الظهورات. ثم إنهم يشترطون في الارتقاء من درجة إلى أخرى أن يعمل الموظف
عملاً نفلاً يكلفه به الديوان فيحسنه , ولكنهم لا يطلبون من معلمي العربية عمل
شيء.
وأما معلمو اللغات الأجنبية فيعطون في دون الظهورات ستة جنيهات , وفي
دور التأقيت ثمانية , ومتى دخلوا في الدور الدائمي الحقيقي يرتقون حتى يكونوا
نظارًا , وأقل راتب للناظر ١٢ جنيهًا , وأعلى ناظر وطني يأخذ الآن ستين جنيهًا
ً في الشهر , ومن النظار الأجانب من يأخذ ألف جنيه في السنة , ولا يمكن
أن يكون معلم العربية ناظرًا! ! !
هذا إجمال من القول الذي يتراجعه الخواص في أنديتهم وسمَّارهم , ولم نورده
بقصد الغميزة بالنظارة تشفيًا منها أو مرضاة لبعض الناس , وإنما هو بحث في أهم
المصالح وأعظمها في الإصلاح. وإننا مستعدون لنشر ما نعلمه في الموضوع
بشرط أن يكون بحثًا في الحقائق الثابتة الصحيحة سواء كان للنظارة أو عليها.
ومن رأينا أن الأولى للإنكليز أن يساعدوا المسلمين على الإصلاح الحقيقي بالتعليم
الذي يحيي لغتهم. والتربية التي توافق ملتهم. وبذلك تخطب إنكلترا مودتهم.
وتكون في المدنية هي وجهتهم. ولا يخشى أن ينتقضوا عليها إذا استرجعوا قوتهم.
فإن قوة يستغنون فيها عن موالاة أية دولة أجنبية مرام بعيد لا يصلون إليه إلا بعد
قرون , وماداموا محتاجين إلى موالاة دولة قوية غنية فإنهم يرجحون من يحسن
معاملتهم منذ الآن , وربما نزيد هذا المقام وضوحًا بعد.